محمد عبد النبي - رحّالة

ولو! مهما يكن سفرك أمراً حتمياً وضرورياً، يحسن بك أن تتروى قليلاً. إذ كيف تسلم روحك إلى قطعة حديد لا يحفظها في السماء إلا العناية الإلهية وحسن الحظ، ويظل احتمال السقوط والتهشم معقولاً أكثر من احتمال الوصول بأي قدر من السلامة. أيمكنك تخيل ذلك؟ كتلة متفجرة من النيران تتشظى مليون قطعة بحجم كسرات الخبز، فيصبح من المستحيل التعرف إلى هوية الضحايا، وكم من حكايات لا يروي منها الصندوق الأسود إلا أقل القليل. نعم، لعل السفن أرفق من الطائرات بمسافريها، فعلى أسوأ الافتراضات يمكنك العثور على شيء ما لتتشبث به ساعة تأزف الآزفة، ومع هذا، أليس البحر ثعلباً عجوزاً لا يأمن مكْرَهُ أسطولٌ أو قارب صيد أو سباح ماهر أبداً؟ في طرفة عين يقلب وجهه ليبتلع في ظلمات جوفه الحشرات الحقيرة المغترة بذاتها حد اعتلاء ظهر أحد الوحوش الأزلية: كبرياء الإنسان أصل البلاء. وشفقة عليك وعلى نفسي لن أحكي لك عن مراحل طلوع روح الغارق، ومعاندته مع المياه التي تملأ رئتيه في لحظات تمتد لتتجاوز أمداً بلا نهاية، إن مجرد ذكر هذا يبعث القشعريرة في بدني، وخلاصة القول أن ركوب البحر لا يقل عن ركوب الجو رعونة وحماقة وزهواً أجوف.
الأرض أمك الحانية وبر الأمان لكل ذي قدمين، فإذا كان ولا بد من السفر فانتقل عبر وسائلها الآمنة، أما عن الفارق الزمني، فلا حاجة بك لهزيمة الوقت مادام عمرك كله على المحك. لعن الله جنون السرعة، من المؤكد أنك ترى بأم عينيك كل يوم مشاهد وصور الحوادث المفجعة على الطرقات: القطارات التي خرجت عن قضبانها، أو تفحمت عرباتها بآلاف المسافرين نتيجة الإهمال أو عمل إرهابي، وأخبار الباصات التي انقلبت من فوق الكباري أو غرقت في الأنهار، والسيارات التي تتحول إلى فطائر من معدن و لحم على إسفلت الطرق السريعة.
ألا يدفعك هذا الكرنفال اليومي للاحتفاء بالموت عبر الحركة إلى الانتباه لقيمة الثبات، والمكوث في سكينة مع الحفاظ على الحد الأدنى من التحرك؟
وأنا! أنا أغامر بكل شيء أكثر من مرة واحدة في اليوم، بالانتقال إلى الحمام أو المطبخ، ويدي على قلبي، خشية الغرق في بحر الرمال المتحركة الذي يضرب حصاره حولنا من جميع الجهات.
محمد عبد النبي


* قاص وروائي ومترجم مصري، من مجموعاته القصصية: «شبح أنطون تشيخوف»، و«كما يذهب السيل بقرية نائمة».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى