- علي حسين - دعونا نتفلسف.. (3) الوجود البشري لا بد ان يكون نوعاً من الخطأ

كيف تعرف انك تعيش اللاجدوى

في الأسطورة اليونانية ، ترغم الآلهة سيزيف على دفع صخرة ضخمة إلى الأعلى على تل منحدر ، ولكنه قبل ان يبلغ قمة التل ، كانت الصخرة تفلت منه دائما فيكون عليه ان يبدأ من جديد . وعليه فإن نشاطه يبدو عديم الهدف والجدوى أوغير متناه ، وقد نعاني من نفس عدم الجدوى السيزيفية . وحتى إذا استطعنا الإبقاء على الصخرة أعلى التل ، سنظل نعاني من هموم اكثـر في الحياة ، فمطلوب منا ان نكافح كل يوم من اجل دفع الصخرة الى الأعلى ، وحتى ان لم نكن نكافح وجلسنا عن اقتناع ، فما الهدف من ذلك . ما الهدف ؟ هو السؤال الذي يتبادر الى اذهاننا جميعا بين الحين والآخر ، وهو الأمر الذي شغل شاباً المانياً قبل مئتي عام حين اكد اننا :"عندما نكافح من اجل شيء ما ، فإننا لانشعر بالرضا ، لأننا عندئذ لانكون قد حققنا ما نهدف اليه ، ومع ذلك فإننا إذا حققنا ما نسعى اليه ، فإننا نشعر بالملل ، لذلك فنحن نسعى الى مزيد من الكفاح ورغم ذلك سنظل نشعر بالنهاية بالفشل والملل".

هذا الشاب اسمه "آرثر شوبنهور"، ولد في الثاني والعشرين من شباط عام 1688 ، اصر في معظم كتاباته على ان يؤكد ان حياتنا حلقة مزعجة غير ذات نفع ، وان الوجود البشري نوع من الخطأ ، تمضي ايامه من سيئ الى أسوأ .
كان هذا الفيلسوف التشاؤمي قد ولد لعائلة ، للجنون حضور كبير فيها ، فوالده "فلوريس" اصيب في الأربعين من عمره باكتئاب حاد ادى فيما بعد الى انتحاره ، كما ان اثنين من أعمامه أُدخلا الى مصح عقلي ، وكانت جدته قد فقدت عقلها بعد وفاة زوجها . وقد ورث شوبنهور عن أبيه إرادته وعزلته ، اما عن أمه فقد ورث ذكاءها وحبها للآداب والفنون ، فقد كانت من ابرز كاتبات القصة في عصرها .
لم يبد الوالدان اهتماماً كبيراً بابنهما :"حين كنت طفلا في السادسة ، وجدني والداي في حالة من اليأس العميق بعد عودتهما من نزهتهما في احدى الأمسيات "، ويخبرنا نيتشه ان معلمه شوبنهور :"عاش وحيدا في عزلة مطلقة ، ولم يكن يتخذ له في حياته صديقا قط".
في السابعة عشرة من عمره استيقظ على خبر سقوط والده من سقيفة البيت ، هل كان ذلك حادثاً ام انتحاراً؟ لم يعرف الجواب ، واسدل الستار على الحادث الذي اصاب الأبن بالبؤس ، لكنه في المقابل منح الأم الحرية حيث قررت اخيرا ان تؤسس صالوناً ادبيا ، وتصبح الصديقة المفضلة لشاعر المانيا الكبير "يوهان غوته" ، وقد آلم ذلك ذلك الفتى شوبنهور الذي ورث عن ابيه ثروة ستضمن له عيشة مريحة وعدم اضطرار لممارسة اي نوع من الأعمال ، ورغم ذلك كان يشعر بالملل والاحباط :"حين كنت في السابعة عشرة من عمري ، دون تعليم مدرسي نظامي ، جذبني بؤس الحياة ، وكانت الحقيقة التي اكتشفتها مبكرا ان هذا العالم لايمكن ان يكون نتاجا لكائن محب ، بل كائن شرير ، اوجد الخلق كي يبتهج لمرأى معاناتهم " .
******

الحياة عمل مؤسف
في سن التاسعة عشرة قرر ان يهجر البيت ، بعد مشادة مع أمه ، وبعد محاولات فاشلة في التجارة جعلته يخسر الجزء الكبير من ثروته ، قرر ان يصبح فيلسوفاً :"الحياة عمل مؤسف ، وقد توصلت إلى قرار بوجوب قضائها في التأمل" ونراه يكتب لأمه :" ان الحياة شديدة القصروالإرباك ، وسريعة الزوال بحيث لاتستحق عناء القيام بمجهود كبير " .
يعود الى امه ثانية فيلتقي بالعشيق غوته الذي يصف هذا الشاب العبوس :"بدا لي شوبنهاور شاباً غريباً مثيراً للاهتمام"، لكن مشاعره تجاه غوته كانت متقلبة . وحين يحصل شوبنهور على الدكتوراه عام 1813 عن رسالته الفلسفية "عن الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية"، يجد ان اول المهنئين له كان غوته . وبرغم هذه التهنئة من شاعر المانيا ، فإن رسالته هذه التي طبع منها الف نسخة ، لم تبَع منها سوى نسختين ، رغم ذلك اعتبر ان ما قدمه ، في كتابه هذا لايمكن الاستغناء عنه .
بعد عام يشرع في كتابة رسالته الفلسفية الشهيرة "العالم كإرادة وتصور" وقد وافق الناشر على طبع الكتاب تقديرا لوالدته التي كان الناشر يطبع قصصها ، ليصدر الكتاب عام 1819 ، ولم يبع من الكتاب سوى 200 نسخة ، الامر الذي دفع الناشر لأن يخبره ذات يوم ان يتجه لكتابة القصة مثل والدته عسى ان تحظى كتبة بالاهتمام ، ما جعله يكره هذه الام اللعوب ، ومن بعدها جميع النساء ليكتب:"انما النساء خلقن فقط من اجل استمرار الجنس البشري ، وان كل استعداداتهن تتركز حول هذه المسألة ، فإنهن يحيين النوع ، اكثر مما يحيين من اجل الأفراد " . يحاول الحصول على منصب جامعي في قسم الفلسفة بجامعة برلين ، يلقي محاضرات عن جوهر الفلسفة لم يحضرها سوى خمسة طلاب ، فيما كان الطلبة يتزاحمون على محاضرات غريمه هيغل الذي وصف فلسفته بأن : "أفكارها الأساسية هي الوهم الأسخف ، عالم مقلوب رأسا على عقب ، تهريج فلسفي ، اما مضامينها فهي التمظهر الأجوف والأشد خواء للكلمات حين ينطق بها المغفلون " .
استعان شوبنهور بالإنجاز الفلسفي لأفلاطون في تأسيس فلسفته ، وبالنظر الى شخصية كل منهما ، فقد كان التقارب بين افكارهما أمراً غريباً ، أفلاطون الإرستقراطي ، الهادئ ، المحب للحياة ، المتحفظ ، والفيلسوف الذي استغل الفلسفة لخدمة المثل العليا وتحقيق التفوق لطبقته الاجتماعية ، وشوبنهاور المنحدر من عائلة برجوازية ، افلست بسبب تصرفات الأم ، إلا إنه ظل يصر حتى آخر يوم في حياته ان أعماله العظيمة لن تقل شأناً عن ما قدمه افلاطون ، وان ما كتبه من رسائل فلسفية لن يمر دون ان يلتفت اليه الجميع . يكتب برتراند رسل في كتابه الشهير "تاريخ الفلسفة الغربية" ان :"شوبنهور يبدو غريباً بين الفلاسفة، في أنحاء عدة من شخصيته. فهو متشائم بينما يكاد الفلاسفة الآخرون أن يكونوا كلهم، بمعنى ما، متفائلين. وهو ليس أكاديمياً تماماً مثل كانط وهيغل، لكنه لا يقف خارج العرف الأكاديمي بالمرة. وهو يؤثْر على المسيحية، أديان الهند الهندوكية والبوذية معاً. وهو ذو ثقافة واسعة، كما أنه يهتم اهتماماً كبيراً بالفن اهتمامه بالأخلاق. وهو يقر بثلاثة منابع لفلسفته (كانط وأفلاطون والأوبانيشاد) ولكني أظن أنه يدين لأفلاطون بالمقدار الذي يظنه هو" .

*******
العلاقة مع النساء
ما من امرأة اهتمت به ، واذا كان الزواج كما يقول ساخرا هو " دَّين في الشباب نسدده في سن الكهولة "، فإن شوبنهور كان حذراً من ان يقع فريسة ذلك الدَّين ، وحسب ما هو معروف عن سيرة حياته ، فإن علاقته مع النساء اقتصرت على حكايتين ، ففي العام 1821 يقع في غرام كارولين ميدون وكانت مطربة في التاسعة عشرة من عمرها ، استمرت العلاقة بينهما عشر سنوات متقطعة ، رفض ان يتوج هذه العلاقة بالزواج :"ان تتزوج يعني فعل كل ما يمكن ليصبح كل طرف موضع اشمئزاز الآخر" ، الحكاية الغرامية الثانية كانت مع خادمة تعمل عنده ، لكنه يتركها ذات يوم ويهرب .ولهذا نراه في اواخر حياته يدافع عن عدم ممارسة الجنس ، حتى لو قاد ذلك الى انقراض الجنس البشري ، وهي امنية كان يحلم بها كثيرا .
بعد سنوات من التجوال وتدريس الفلسفة يشعر بالإحباط ، كانت الكتب تحيط به من كل جانب ، لكنه اكتشف انها لاتمنح الامل بحياة افضل :" سيكون من الجيد ان شراء الكتب فقط ، إن تمكنا من شراء الوقت الكافي لقراءتها " .

********

سوء تفاهم مع هيغل
يكتب البير كامو في مقدمة مسرحيته الشهيرة "سوء تفاهم" ان شوبنهور كان له التاثير الاكبر عليه وهو يقدم حكاية الشاب جان الذي يذهب الى موته دون ان يحاول الكلام ، هنا كما يخبرنا كامو يكون سؤال شوبنهور : لماذا هذا العجز عن الكلام؟ ، كان شوبنهور يتهم الفلاسفة بأنهم يتلاعبون بعقول الشباب وفي مقال بعنوان " انهم يفسدون عقولنا " يهاجم هيغل الثرثار ويسخر من فيلسوف المانيا الذي كان يجده يقارن بين الأشياء ويوازن بين الآراء دون ان يهتم بالأشياء في حد ذاتها ، ولهذا نراه يكتب ان الظواهر جميعها سواء أكانت مادية ام نفسية محكومة بقوة واحدة ، لاشخصية ، ولايمكن مقاومتها يسميها " إلارادة " ، الا ان معنى هذه الكلمة عند شوبنهور يكاد يكون بالنقيض من المفهوم الشائع عن الارادة بوصفها امراً خاضعاً لسيطرة الإنسان وتوجهه ، لسنا نحن من يريد ، بل العالم ، الطبيعة ، فنحن لانملك من الأمر شيئاً ، سواء علمنا ام لم نعلم، فنحن مجرد ظواهر عارضة ، محكومون بتلك الإرادة التي تسبقنا وتتجاوزنا ، وهذه الارادة هي جوهر الأشياء في الكون ، وهي المادة الأصلية الوحيدة لأية ظاهرة من الظواهر ، ولهذا نجد شوبنهور يضع حرية الاختيار في مرتبة الوهم البشري ، ويرى انه حتى في الحالات التي يكون لدينا انطباع باننا نفعل ما نريد فإن هذه الإرادة تحدها طبيعة شخصيتنا التي لاسلطة لنا عليها ، ان ما يحركنا هو دوافع ونزوات لاتخضع لسيطرتنا وبالتالي لافائدة من الندم على اي من افعالنا الماضية ، سيقول البعض انه امر غريب ، هذا الكره الحاد لفكرة الحرية في اوروبا التي كانت انذاك تصيغ فكرة ثورية لحرية الفرد ، لكن فيلسوف التشاؤم أصر على ان ثمة عنصر يوجه مصائرنا.
يواصل شوبنهور القول ان البشر كأفراد لا أهمية لهم ، فهم ليسوا سوى تجسيدات للنوع ، متغيرة وعابرة ، سرعان ما يحل محلها نوع او جيل آخر ، ما يهم الإرادة هو استمرار الحياة في حد ذاتها ، ويحاول شوبنهور ان يوضح لنا هذه الفكرة من خلال صورة مبسطة :" مثل تتابع قطرات الماء من الشلال الهادر بسرعة البرق ، فيما قوس قزح التي هي وسيطة ثابتة في سكون الراحة لايصيبها شيء من تلك التبدلات المتواصلة ، هكذا تبقى كل فكرة او تصور ، اي ان كل نوع من الكائنات الحية عصي تماما على التتابع المستمر للأفراد ، والحال انه في الفكرة او في النوع تتجذر إرادة الحياة في الواقع وتتجلى ، ولهذا ايضا فإن المهم فقط هو استمرار هذه الإرادة ، وعلى سبيل المثال فإن الأسود التي تولد وتموت هي مثل قطرات الشلال ، لكن فكرة الاسد او شكله يشبهان قوس قزح الذي لايتبدل من فوق الشلال " . واذا اردنا ان نلخص هذه القطعة الأدبية الفلسفية ، فنقول ان قطرات المطر الصغيرة التي تشكل الشلال هي أسود افراد ، اما الطيف " قوس قزح " فهو فكرة الأسد ، وهنا ونحن نقرأ فلسفة شوبنهور ربما نسأل : من اين تنبع رؤية الأمور على هذا النحو ؟ من وجهة نظر الخالق ، لاشك يقول شوبنهور ، وليس من وجهة نظر الأسود ، ولا من وجهة نظري ونظرك ، هكذا ينظر شوبنهور للحياة الأرضية من برجه العالي ، انه لايرى فرقا بين الحيوانات والبشر فيكتب : "ان معظم بني البشر يقفون بعناد ضد قبول الحقيقة الواضحة وهي اننا في الجوهر وفي الأساس مماثلون للحيوانات ، بل انها لتتراجع مذعورة امام اي تلميح الى صلة القرابة بيننا وبينهم .

***********
لا تحدثني عن الجنس
بعد اخفاقة كمدرس جامعي يحاول شوبنهور ان يصبح مترجماً ، لكن الناشرين سخروا منه حين قدم ترجمات لكانط ، وضع فيها مقدمات توضح رأيه في هذا الفيلسوف ، وجرب حظه في كتابة الشعر ، لكنه لم يحقق امنيته في ان يصبح نداً لغوته :" كم ينبغي علي ان اتعلم ، ان روحي وعقلي في مسائل الحياة اليومية يبدوان كتلسكوب في صالة اوبرا او مدفع اثناء صيد الارانب " ، ونراه من جديد يعزي نفسه " بالكاد ساكون اي رجل كفء ، متحرر من مسحة ما من بغض البشر "
بعد خمسة وعشرين عاما يصدر طبعة جديدة ومنقحة من " العالم إرادة وتصور" ويكتب في المقدمة :"لا الى معاصريّ ، بل الى البشرية ، اكرس عملي الذي اكتمل الان ، واثقا انه لن يكون غير ذي قيمة للبشرية ، حتى لو كان سيتم الاعتراف بهذه القيمة ببطء، كما هو المصير الحتمي للخير بأية صيغة كانت " . وفي هذه الطبعة التي تتالف من مجلدين امتازت بطابعها الموسوعي الجامع ، واثبتت مدى نضوج فكر شوبنهور وتعمقه في الفلسفة ، بحيث اصبح هذا الكتاب واحدا من اعظم الاعمال الفلسفية في تاريخ الفكر البشري .
ولأنه لم يكن يهتم بما يجري حوله نجده لا يولي اهتماما للجنس او الرغبة بالنساء ، الجنس "لاتدفعني للضحك" . يقول لأحد مقربيه :" الجنس اعظم بلاء ، فمع ظهور الغريزة الجنسية ، ظهر القلق والسوداوية في الوعي ايضا ، ونبتت في الحياة الهموم والمصاعب ، ذلك لأن اصل حياة جديدة يرتبط باشباع اشد ميولنا سطوة واكثر رغباتنا عنفا ، بتعبير اوضح ان الحياة بكل ما فيها من احتياجات وأعباء وآلام ستبدأ من جديد وستعاش مرة اخرى بسبب هذا الذي يسمى الجنس".
واذا كان شوبنهور قد عاش في بدايات حياته مجهولا ، فان الشهرة الفلسفية والمجد هبطت عليه اخيرا بعد صدور الطبعة الجديدة من " العالم كأرادة وتصور " فقد وجد فيه طلاب الفلسفة وعشاقها الشئ الكثير الذي يساعدهم في تفهم وقائع اعمالهم واتجاهاتهم وسبل فشلهم ونجاحهم ، فذاع صيته على نطاع واسع ، واتسعت شهرته في ارجاء اوربا ، واخذت جموع المريدين تزور بيته ، ويرسل اليه الموسيقار الشهير فاغنر بطاقة تهنئة بعيد ميلاد السبعين يبدأها بعبارة " استاذي العظيم " . ويعيش اياما هادئة يقضيها ببنزهات بريه مع كلبه الذي اسماه " شوبنهور الصغير " وذات صباح يجلس الى مائدة الافطار يتحدث مع المراة التي تتولى رعايته وهو يتكأ على كرسيه :" بامكاني احتمال فكرة ان الدود سيلتهم جسدي قريبا ، ولكن فكرة ان اساتذة الفلسفة سينتقدون فلسفتي ، تجعلني ارتعد " بعد لحظات يشعر بالم في الصدر ، تحاول المراة مساعدته على النهوض ، لكنه يسقط على كرسيه ،ثفارق الحياة وهو لايزال على اقتناعه ان الوجود البشري لا بد ان يكون نوعا من الخطأ .


* نقلا عن جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى