اسكندر بوشكين - المبارزة.. تر: عبد الحميد يونس

كنا نعسكر في قرية روسية صغيرة، وأنت تدرك بالطبع حياة الضباط وما تكون عليه، نؤدي في الصباح التمرينات العسكرية ونتدرب على ركوب الخيل، ثم نتناول طعام الغداء عند قائد الفرقة أو في المطعم اليهودي، فإذا جاء الليل أخذنا نشرب الخمر ونلعب الورق، ولم يكن لنا غير هذا الجانب الضئيل من التسلية، لأن الفتيات الناضجات لم يكن يسمح لهن بالخروج، وكنا ننفق الوقت معا حتى إذا اجتمعنا لم تجد بيننا فرداً لا يرتدي الملابس الرسمية.

ثم تعرفنا على شخص من غير الجنود، ومع أنه كان في الخامسة والثلاثين تقريبا كنا نعتبره أكبر من هذا بكثير، وكنا نعتقد في حكمته وكثرة تجاربه، ولقد أسرنا نحن الشبان بكرمه وقوة شخصيته وما فطر عليه من التهكم وعدم الاكتراث. وخيل إلينا أن وراء هذا كله شيئا يكتمه، وأن بين ضلوعه سراً يطويه، ولقد نبئنا أنه كان في فرقة الفرسان يشهد له الجميع بالتفوق والنشاط، ثم استقال منها فجأة لسبب مجهول، واعتكف في هذه القرية الصغيرة؛ ومع قلة معاشه كنا نراه ينفق عن سعة ويفتح بيته لنا نحن الضباط، فإذا جلسنا إلى مائدته استطعنا أن نأكل ثلاثة أصناف من الطعام، وأن نشرب الكثير من كؤوس الشمبانيا؛ ولم نكن نعرف شيئا من شؤونه الخاصة، غير أن الذي يعد له طعامه هو خادمه العجوز الذي كان في مطلع حياته جنديا؛ ولم يجسر أحد على سؤاله عن حياته أو ماضيه.

وكانت له مكتبة حافلة بالكتب (معظمها خاص بالجندية وما يتصل بها) يعيرها مسروراً ولا يسأل عنها بعد ذلك، كما أنه إذا استعار كتابا لم يفكر في رده إلى صاحبه. . فإذا دخلت غرفته وجدت جدرانها مغطاة بظروف الرصاص فيكسبها ذلك شكل عش الزنبور؛ ولم يكن في داره من معالم الترف غير مجموعة ثمينة من البنادق والأسلحة.

وهو يرتدي في الغالب سترة رثة، فإذا نظرت إلى ملامح وجهه وجدته روسيا في الصميم، مع أنه يحمل اسما أجنبيا. ولقد كان ماهراً في الرماية إلى حد أنه يصوب بندقيته إلى خوذة الواحد منا فيصيبها دون أن ينال صاحبها بسوء. . وكثيراً ما تحدثنا عن المبارزة، ولكن (سيلفيو) (ولنسمه بهذا الاسم) لم يكن يشترك معنا في الحديث، فإذا ما سأله أحدنا عما إذ كان قد تبارز في حياته، رد بالإيجاب ولم يزد، وخيل الينا أنه يكره هذا الموضوع لأنه يثير ذكرى حادثة معينة قتل فيها فرد معين من ضحاياه العديدين.

وفي ذات يوم كان يتناول طعام الغداء في منزل (سيلفيو) ثمانية أو تسعة من الضباط، وكنت أحدهم، واذكر أننا شربنا وأسرفنا في الشراب، فلما انتهينا من طعامنا رجونا من مضيفنا أن يكون أمين الصندوق في لعب الميسر، ولكنه رفض، لأنه قلما يلعب، فلما أصررنا طلب لنا الورق وجلسنا إلى جانبه على شكل دائرة وأخذنا نلعب.

لم يتحدث الرجل أثناء اللعب ولم نجره إلى المعارضة أو الشرح، وكان إذا أخطأ أحدنا أعطاه ماله أو حجز ما عليه لنفسه. وكنا جميعا نعرف طريقته. . وحدث أثناء اللعب أن ضاعف أحدنا (وكان ضابطا حديث العهد بمعسكرنا) رهانه على ورقة بالذات دون قصد منه لانشغاله وذهوله، فما كان من سيلفيو الا أن تناول قطعة الطباشير وكتب المبلغ المطلوب فقط. . عارض الضابط وأراد أن يصحح خطأه، ولكن سيلفيو لم يعره اهتمامه، وظل يدير اللعب كان لم يحدث شيء. . وهنا تناول الضابط الطلاسة ومحا الأرقام، فأجاب مضيفنا على ذلك بأن أعاد كتابتها في هدوئه المعهود. كان الضابط متأثراً بالشراب وباللعب وبضحكات زملائه الساخرة فظن أنه أهين، وتناول شمعدانا رمى به وجه سيلفيو ولكنه انحنى قليلا إلى الأمام فأخطأته الضربة، فدمدمنا جميعا انتظرنا ماذا يكون بينهما.

وقف مضيفنا شاحبا، وسدد إلى الضابط نظرات دونها نظرات النسور وقال له (لتغادر المكان يا سيدي ولتشكر الله على أن ما حدث كان في بيتي).

ولم نشك لحظة في نتيجة هذا الحادث وما سوف يسفر عنه من قتل زميلنا الجديد. ونظرنا جميعا إليه وهو يغادر المنزل في وجوم معلنا استعداده لمقابلة سيلفيو في الوقت الذي يراه. وطبيعي الا يستمر اللعب بعد ذلك كثيراً لأننا انصرفنا واحدا بعد واحد لما رأيناه على مضيفنا من علائم الذهول والانفعال. ولم نكد نعود إلى معسكرنا حتى أخذنا نتحدث فيما سيؤول إليه هذا الحادث الفريد.

وفي صبيحة اليوم التالي عندما كنا نقوم بتمريننا العادي على ركوب الخيل تساءلنا هل مات الضابط أم لا يزال على قيد الحياة؟ ولكنه ظهر بيننا، فعجبنا للأمر وأمطرناه وابلا من الأسئلة، فأجابنا أنه لم يتلق دعوة ما إلى المبارزة من سيلفيو، وأسرعنا إلى زيارة الرجل في منزله فوجدناه يتدرب على إطلاق الرصاص وقد الصق بالباب غرضا جعل يصوب الطلقات إليها له تباعا فلا يخطئه. فلما رانا تلقانا كعادته، ولم يذكر لنا شيئا عن حادث الليلة الماضية. . ومرت ثلاثة أيام والضابط لا يزال على قيد الحياة، ونحن نتساءل (ألا يتبارز سيلفيو؟) أجل لن يتبارز الرجل! بل راح يشرح الأسباب العرجاء التي لم تقنع أحدا منا.

وهذا الرفض وذلك الاحتمال من جانب الرجل أساء إلى سمعته بيننا نحن الشبان، لأن الشباب لا يغتفر الجبن، ويعتقد أن الشجاعة خير الصفات التي يجب أن يتصف بها المرء في جهاد الحياة، وأن الشجاع يستبيح لنفسه كل شيء: يحلل الحرام ويحرم الحلال. ولكن سرعان ما نسينا كل شيء بعد مدة، وسرعان ما استعاد سيلفيو مكانته القديمة بيننا.

وفي الحق أن رأيي في هذا الرجل لم يعد إلى ما كان عليه، لأنني رومانتيكي في خيالي وتفكيري، ولقد أحببت هذا الرجل اكثر من غيره، مع أنه كان لغزاً للجميع. وكنت أتصوره دائما بطلاً لدرامة رائعة. وكنت واثقا من أنه يحبني، فإذا انفرد بي ترك تهكمه اللاذع وراح يتحدث معي في شتى المواضيع، ولكني بعد الحادث المعروف لم أكن أطمئن إليه ولا أرتاح إلى حديثه، لاعتقادي أنه أهين ولم يغسل إهانته بالدم، وكنت أتحاشى مقابلته أو النظر إليه.

وكان الرجل من الذكاء ونفاذ البصيرة بحيث أدرك تماما سبب تغيري، وخيل ألي مرتين أنه يريد أن يتحدث ألي في هذا

الموضوع ولكنني تحاشيته ولم يصر من جانبه علي الحديث.


مجلة الرسالة - العدد 5
بتاريخ: 15 - 03 - 1933

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى