أمل رضوان - ترتيلة الكاف.. قصة قصيرة

"باسم الكاف والنون.. والسر المكنون"
"باسم الكاف والميم.. والسر المبين"
"باسم الكاف والضاد.. مولِّف الأضداد"


أفيق ليلاً فأجد أمي ساهمة بجواري. تمسك مسبحتها، وتهتز إلى الأمام والخلف كمقعد هزاز. ترتل هذه المتتالية بصوت أقرب للفحيح. لم أفهم أبدًا لماذا تبقى على حرف "الكاف" وتغير ما يليه! مات أبي فهجرت سريره، وجاءت إلى جواري.. لا تنام.. ولا تدعني أنام. أتركها مع "ترتيلة الكاف"، وأحاول أن أقتنص إغفاءة قصيرة قبل ذهابي إلى المدرسة.

تشعرني رائحة لحم الضأن بالغثيان حين سلقه. تسبب آلامًا حادة في معدتي، وقد تدفعني لإفراغ ما بها على أرضية الحجرة قبل أن أصل لدورة المياه- ولكني أحبه مشويًا على الفحم على أية حال- ملأت أنفي ومعدتي الرائحة عندما فتحت باب الشقة ودخلت.

أُضيئت الحجرة الكبيرة المطلة على السلم بإضاءة خافتة. لا تُفتح هذه الحجرة سوى نادرًا لاستضافة الأقارب والضيوف الوافدين على غفلة، وتظل مغلقة فيما عدا ذلك طوال العام باستثناء أيام التنظيف. اهتز لهب الشموع؛ فتراقص الضوء على الجدران مشكلاً تكوينات ضوئية تظهر وتختفي. عبقت الحجرة رائحة بخور غير محببة يحترق على صفيحة ساخنة حمراء. آلمت معدتي التي أنهكتها بالفعل رائحة الضأن المسلوق. تحولت قطع الفحم السوداء غير المستوية إلى كتل نارية كأعين الذئب في أفلام الرعب، بينما تحرق البخور وخشب الصندل وقطع اللبان الدكر الصفراء التي تشبه أسنان العجائز. تطايرت بعض الشذرات هنا وهناك محدثة طرقعة مثل الألعاب النارية التي كنا نطلقها في رمضان فوق سطح عمارتنا. تشبعت الغرفة برائحة عرق ثقيل لا ينفذ إلى الصدر مهما حاولت حشره كفرس حرون.. حوافر.. حوافر حيوانات.. حوافر كثيرة لُضمت في إزار رفيع معقود على وسط رجال ثلاثة، فوق جلاليب كانت بيضاء في وقت من الأوقات، على ما يبدو، قبل أن تتلطخ بالعرق الغزير والأوساخ. وقف الرجال يهتزون بشدة بينما يقرعون دفوفًا بقبضات قوية تخترق القلب مباشرة. تهتز الحوافر مع أجساد الرجال، فتصدر صوتًا عاليًا يذكرني بنهيق الحمير، وصهيل الجياد التي كانت تختال يومًا على قوائمها قبل أن تُحبس في وسطهم.

احتقن زوري، وارتفعت درجة حرارتي. حولتني "مس" زينب لحكيمة المدرسة، قاست الحرارة؛ فوجدتها تقترب من الأربعين. أعطتني قرصي "أسبوسيد"، وجواب إجازة من المدرسة أقدمه لعم ربيع، حارس مدرستنا، حتى يفتح لي باب المعتقل قبل موعد الانصراف الرسمي.

طرقت الباب فلم تفتح أمي.. لا شك أن حالة الذهول والانفصال عن العالم قد عاودتها مرة ثانية. تكررت الحالة بعد وفاة والدي منذ عامين، ذهبنا بها لأطباء كثيرين، أدرنا في الليل والنهار اسطوانات الشيخ المنشاوي الذي أعشق صوته، وعبد الصمد الذي لا أعشق صوته وآخرين، تلوْنا بجانبها القرآن.. كبّرت جارتنا نينة أم أحمد في أذنيها تسعًا وتسعين مرة، نثرنا الماء الذي تلت عليه الأوردة في أركان البيت.. حصَّنتها بالأحجبة والرقى الشرعية وغير الشرعية.. ولا تزال أمي في غيابها.

سمعت حديثا خافتًا يدور بين نينة أم أحمد وأختى الكبرى عن "حلقة زار".. و"الشيخة نادرة" أشهر "كودية".. وكلامًا بدا جادًّا عن "مفعول السحر".. "شفاء البدن"، و"طرد العلة من المعلول". دفعت الباب دون استئذان وصرخت في وجهيهما.. لم يهتز جفنا أمي من اندفاعي.. وضعتْ أختى يدها على فمي تكتم صراخي.. نظرت لي "نينة" أم أحمد معاتبة.. "حبِّي أمك شوية يا ندى، عجبك حالها!.. خلينا نساعدها!"

ارتفع في منتصف الغرفة هيكل مغطى بملاءة بيضاء تضطرب تحته حركة خافتة. كان الحجاج يطوفون حوله وهم غائبون.. الجارات وصديقات أختي الكبرى من العمارة التي نقطنها والعمارات المجاورة ومن الكلية. على يمين الحجرة جلست سيدة ستينيّة ذات بشرة داكنة تدخن النارجيلة بشراهة، وتنفث دخانًا أبيض كثيفًا يتشكل في دوائر تتصاعد إلى أعلى باتجاه الكعبة المنتصبة في المنتصف، ويُشيع في المكان رائحةً عطرية. وعلى يسارها سيدتان تمسكان بدفوف أكبر من تلك التي يمسكها الرجال، ويرددان أغنيات بكلمات غير مفهومة.

صفقتْ السيدة الستينيّة بيدها مشيرة للجوقة وضاربي الدف: "دقة بنات الهندزة".. تنحّت الجارات المسنّات، وبدأت صديقات أختى في الدخول.

كانت أول من قفزت برشاقة إلى الحلبة أبلة ألفت، صديقة أختي التي تقطن في الدور الأرضي "السلاملك". خبطت الأرض بقدميها، ورفعت رأسها، وثبتت نظرها على نقطة واحدة أمامها كراقصة "فلامنكو" إسبانية. ثم بدأت إغماض جفونها.. استنشقت نفسًا عميقًا ثم أخذت في التمايل على أنغام الدفوف. ارتدت أبلة ألفت عباءة داكنة الحمرة. أمسكتْ طرف العباءة بيديها الدقيقتين، ورفعته حتى ركبتيها. برزت ساقاها البضّتان، وطلاء أظافر أصابع قدميها الأحمر القاني. كانت تتمايل على الإيقاع يمينًا ويسارًا، بهدوء أولا، ثم بدأت ترتعش وتقوى دقات قدميها على الأرض. برز أحد ثدييها من فتحة العباءة واختفى فجأة كأرنب مذعور. أومأت السيدة لأحد الرجال بطرف "لَيّ" الشيشة، فسارع بوضع كفيه تحت إبطي أبلة ألفت. ضربته أبلة ألفت بكوعها، وأبعدته عنها، وواصلت تمايلها المحموم. ابتعدت جميع الفتيات، وتحلقن حولها وهي تتمايل وتتلوى لا تكاد تلمس الأرض من خفتها كما لو كان الفحم قد قفز من الصفيحة وانتشر بساطًا تحت قدميها.

دارت أبلة ألفت وتمايلت وتلوت ورقصت مع أنغام الدفوف حتى الغياب. ومع تسارع الإيقاع تحولت لفراشة ترتجف وتنتفض. وفجأة ارتمت على مقعد مجاور وسط اهتزاز ضوء الشموع ودق الدفوف وعرق الرجال. سارعت بعض النسوة برش ماء الورد على وجهها.. فتحت عينيها بهدوء.. مسحت ما تبقى من قطرات على جبينها، وقامت تبحث عن حذائها، ثم انسحبت خارجة من الغرفة تاركة خلفها حالة من النشوة والترقب والأرق.

سكنت الحجرة لحظات.. رفع الرجال زجاجات مياه بلاستيكية وأفرغوا القليل منها في أفواههم والكثير على رءوسهم وصدورهم.. خيَّم الصمت برهة.. وعاودوا الدق.

هذه المرة اتجهت الأنظار نحو مقعد بعيد لم ألحظه.. الفوتيه المذهَّب الذي كان يتصدر الصالون تحت صورة أبي قبل أن ترفعها أمي بعد وفاته. جلست أمي، شبه نائمة، ترتدي جلابية رجالي بيضاء واسعة جدًّا عليها، وطرحة بيضاء تنسدل حتى وسطها.. أضاف اللون الأبيض إلى شحوبها.

يا الله! تجلس أمي ضعيفة، منهكة، مستسلمة. ارتمت ذراعاها إلى جانبيها، وسقط رأسها على كتفها اليمنى. أشارت "الكودية" مرة ثانية بطرف "لَيّ" الشيشة فقامت إحدى السيدتين وأخرجت البنات من الحجرة.

تسارعت دقات قلبي دون أن أعرف السبب. بدأت النسوة في ترديد كلمات غير مفهومة سوى المَذْهب "يوه يا سيدي يا سيدي".. "هِلّ علينا يا سيدي".. في حركة مباغتة رفع أحد الرجال طرف الملاءة الموجودة على الهيكل المنتصب وسط الغرفة، جفل ديك رومي أسود لامع كبير الحجم.. أدار رأسه عدة مرات في الحاضرين، اهتز اللغد الأحمر القاني أسفل رقبته، ثم أطلق صيحته الشهيرة "كر كركركر".

جذبه الرجل من القفص وذهب نحو أمي. أخرج سكينًا لمع نصله الفضي، وثنى رقبة الديك إلى الوراء، نحر عنقه بسرعة شديدة أمام أمي ورفعه فوق رأسها. انتفض الديك وسالت الدماء فوق رأسها ساخنة.. أو هكذا شعرت وقتها. تلطخت طرحة أمي وجلبابها بالدماء القانية. قامت "الكودية" وغمست كفها في الدماء النازفة من رقبة الديك، وطبعت كفًّا على صدر أمي، ولما ظلت على سكونها، بدأت الكودية في مسح وجهها بالدماء.. بدأت أمي ترفع رأسها بالتدريج، عاودت الدفوف نقرها، والسيدتان نواحهما، والرجال والحوافر اهتزازهم.

ترك الرجل الديك الذبيح، وهو لايزال ينتفض وينزف بالقرب من قدمي أمي، ورفعها من وسطها. أدارها بحيث أصبح ملاصقًا لظهرها، وأوقفها على قدميها. جرَّها إلى وسط الحجرة حول الهيكل العاري والقفص الذي هجره السجين قبل ذبحه. بدأت الدفوف تدق، والرجل ملتصق بجسد أمي. توقف لحظة وحرَّر يدا واحدة فك بها حزام الحوافر المعقود على وسطه وألقاه أرضا. أحكم التصاقه بجسدها واضعًا يده اليسرى على وسطها أسفل ثدييها دون أي حواجز بين الجسدين هذه المرة.


بدأت أمي الملطخة بالدم وعرق الرجل وجسده الساخن في التمايل.. والتمايل.. والبكاء الخافت.. ثم العالي.. ثم النحيب. رفعت يديها إلى أعلى، وحاولت بوهن أن تبعد الرجل عنها، زاد التصاقه المحموم بها، وارتفعت دقات الدفوف وصوت النسوة وصراخ أمي الهستيري، هبَّت دفعة هواء لا أعرف مصدرها أطفأت الشموع.. كل الشموع.. ظلام دامس غلف كل شيء.. فقط ذراعا أمي ينتفضان في الهواء، والديك يرتجف على الأرض، وأنا ارتجف في ركن منزوٍ.. دوَّت صرخة هائلة وسمعت ارتطام شيء على الأرض بقوة.

أضاءوا الأنوار.. الكودية تضع "لَيّ" الشيشة جانبًا بعد أن فرغ الحجر، تقبض الأتعاب من نينة أم أحمد.. الرجل يرتدي حزام الحوافر يستر به وسطه وبلله.. أمي مكومة على الأرض وجلبابها مشلوح حتى الفخذين وبجوارها الديك الرومي الذبيح وقد توقف انتفاضه ونزيفه.


  • نقلا عن بتـــانة نيوز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى