رشيد شباري - الفاتحة.. قصة قصيرة

كنت أزعم أن الرحيل إلى الجنة قبلة للمتراخية أذهانهم النبيهة وأدعو إليها سبيلا حتى رصفت لذلك السبيل في المنعرجات الشاهقة حيث أناطح السحاب فيما القوافل تتوافد أفواجا أفواجا، وكنت أنا الزاهد والشاهد وكنت أنت المترنحة على أطراف مخي تعبثين بأنظمة الدفع والكبح الفارزة للكلام الهادي إلى الصراط المستقيم.

انسدلت اللحى من ماركس إلى ابن لادن وتناطحت التيجان وتساقط بعضها فيما نما غيرها على غفلة منهما معا، وكنت حينها تهمسين لي حنقا بالوصف والحكي أن انهلوا جميعا من عيون الضلالة والغي والسذاجة، والرثاء على حال البشر وسوء المآل، وكنت أعاند سخريتك بالإيمان المطلق بالغيب والنبوءة معا سحرا موعودا أو حلما موءودا.

كانت قهقهاتها تصم الآذان تحديا سافرا للنبوءات الدنيوية والأخروية وشكا أقرب إلى اليقين في نباهة البشر أن يشيدوا عشا آمنا من صروف الدهر فأحرى لما بعد الموت اليقين، وكنت أكابر في العناد باليقين دون الشك في حتمية الأقدار، وما هو إلا الزمن بيننا وبين يأسك القبع وراء أكمة الكآبة المستوحشة في ذهنك البئيس.

اكتشفت بعد وحين من الدهر، وأنا الحاذق المتذاكي، أنها تتحاشى النظر في عيني وهي ترمي بالحقيقة كلها في وجهي، خوفا أو تقديرا لمشاعري، أن لا أولى ولا أخرى، إن هي إلا الصدفة تنمو وتدور وما أنت سوى حلقة في دائرة لا متناهية اصطدمت إحدى حلقاتها بشعاع شفاف أشرقت فيه روحي وما تكاد إلا أن تختفي حيث يتجلى غيرك، وهي على حالها تدور إلى ما تشاء أن تترامى حلقاتها تلفا أو خطأ في التقدير، فلا أنت هنا ولا هناك، وحينها فقط أدعوك إلى وليمة مسكها دخان اللحى المسدولة سواء لرفاق دربك في الصراع الطبقي، أو لإخوتك في الله ومؤطري جند الله.

اغرورقت عيناي، بفعل كثافة الدخان أو ربما كربا وكمدا، وقد لف الدخان كل المسارات المؤدية إلى كل الأحلام وأتلف الرؤية وضوحها، وصرت كمن يراقص الأشباح فيما يشبه التعويذة المستحضرة عنوة لاستنهاض الحواس كي تبوح بمكبوتاتها المجروحة أو المطعونة، وكنت أنت تتطلعين بنشوة الشامت تستعرضين شريط العبث منذ الولادة حتى النهاية كمسلسل تنقلك حلقاته من ألم إلى وجع إلى مأساة ثم كفن وممات فصلاة.

ضحكت.. ضحكت.. ضحكت..

ضحكت، حتى فاجأتني غصة جعلتني أستنجد بلعابي وقد جف ريقي، وأدركت حينها وأنا أنتفض اختناقا كم هي ضئيلة هي المسافة بين الوجود والعدم.

أستنجد بك وأنت القاطنة كل التجاويف الدخلانية في جسدي المتصدع، أنت العارفة بتفاصيل الغضاريف والتمفصلات فيه، وكنت الطامع في إنجاد أنثاي مني، وكنت الطامعة في إذلال الذكر فيك، وأنت الغائبة الشامتة ولا من منقذ.

يراودني شرود الموت وتنسدل ستائر الغشاوة على عيني، ويتحلق اللفيف حولي، وأنا النائم الناقم الحالم القابض بتلابيب الحياة، أستعيد روحي بالكاد وأفتح عيني.. رأيتها وقد انفصلت عن جسدي، عاتبتها لوم الأحبة:

- لماذا هجرتني لما احتجت رفقتك؟

فأجابت بخشونة ناعمة:

- لا أطيق النظر في عيون الموتى. فاجأني السؤال، سؤالك عما وراء الموت، وأنا اللائم تثاقلك لما كنت أنازع مصيري المؤجل إلى حين. فأجبتك كاتما الحقيقة عنك:

إني لم أمت، وإنما هجرة أطهر بها نفسي من شرور آدميتي لأعاشر حيوات أخرى استطلاعا لجوهرها غير المدرك وعودة بثقل من كمد لا يقل عما يعتري سائر البشر.

- هيه.. ألم تدخل الجنة؟

سألت بمكر ينم عن استهزاء حارق.

- ولم أدخل النار.

أجبت بمكر مشروع أو شرعي، فالمكر حلال وكلنا ماكرون، وتابعت القول:

- رأيت فيما يرى النائم، أنهارا من الكونياك والويسكي والروج المعتق، أنهارا الألبان وأشجار الرمان والفستق، رأيتك أنت بكرا لم تدنسك عيون البشر.. رأيت الملكوت والربع الخالي.. رأيت السنين الآتية والخوالي، رأيت..

قاطعتني بقهقهة مدوية واسترسلت في كلامها المعاند:

- لم تر الحانات وبائعي السجائر بالتقسيط، لم تر ماسحي الأحذية وبائعات الهوى، لم تر ماركس وهتلر وبن لادن، لم تر أم كلثوم وبوب مارلي وشارلي.. إذن أنت لم تهاجر ولم تبرح روحك جحرها الذي هو أنت كما أنت وليس كما تريد.. أنت الغارق في لجة اليأس تستجدي انقشاع المحجوب لتعلن في العالمين نبوءتك، إتلافا لقوانين الكون وتسفيها لكل الأديان الداعية إلى الإيمان بالغيب عقيدة وشريعة..

أشعر بوخز كلماتها تلسع النظم المؤثثة لدماغي المثقل بكوابيس الأمل اللذيذ.. أشعر بصدقها وهي الصديقة الوفية المالكة حبال التحكم في أقوالي وأفعالي..

أشعر بنبضها في أحشائي ودفء ملمسها الدافق على مسام جسدي.. أشعر الآن أنها تهجرني لتراني كما أنا.. واهم مخدوع.. بائس يائس، أستحق الشفقة بدل الطعن في رؤاي التي هي زادي ودليل الوجود فقررت القول:

- أنا المهاجر إلى مستقر السر أبغي الخلود صفة كاملة أو العدم صفة كاملة.. فقد كفرت بالتمني باكتساب درجات الوجود الخالص نصفه، حيث أنا العاري، الكاسي بالأوصاف المنتصبة أمامي، أنا الواهم المخادع، البائس اليائس.. ونصفه الأخروي وراء حجب..

أنا المتعب الحزين. تعبت من الشفقة النافذة إلى الأعماق، من عينيك اللامعتين عطفا ورحمة، تعبت من ثقل هذا الجسد الذي يغلفني، ويستعبدني، وكلما ترددت في مسايرته إلى نزوة مشينة يوخزني بوجع لا سلطة لي على مقاومتها، فقدت مناعة التحمل، تعبت من هذا الظل القاتم الملازم لروحي كلما حاولت حجز مكان ما داخل بقعة ضوء هاربة من هذا العالم المدجج بإشعاعات الظلام..

أنهيت كلامي الذي رميته في وجهها دفعة واحدة ككرة الريكبي، أما هي، فكانت لأول مرة تتركني أعلن قولي فيما يشبه المؤامرة البوليسية الهادفة إلى استدراج الضنين نحو البوح. فكان لي أن فرغت حنقي من جوفي الكاتم للصوت مذ ابتليت بها، أو قل مذ سكنتني وأنا أتعلم الإمساك بحبلي السري، وكانت هي تراقب قولي وهو يتدحرج من فمي مرفقا بندف الريق الناصع المتطاير من بين شفتي:

أخرسها الكلام أم أخرسها الشجن، لست أدري، كفكفت دمعي وضغطت بكلتا يدي على صدغي لفرط الألم المنبعث منهما ونمت.

نمت نوما هادئا لا حلم راودني ولا كابوس هاجمني، فقلت في نفسي ما أحلى الموت..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى