عزة بدر - بياع المحبة

صعد بخفة على سلم الباص رغم كبر سنه.. ذو وجه ضامر، ولحية بيضاء، خصلات شعره كثيفة تشبه مجموعة من خواتم فضية تتوهج حلقاتها بلمعة خاطفة، يخرج من جيبه كيسا صغيرا، يرتفع صوته أليفا ضاحكا: تعطينى جنيه يبقى عليه خاتم هدية! .. أعطته جنيها فأعطاها خاتما، حاد الحواف مسنونا.. لامسته بحرص .. تطلع إليها وقد فطن إلى أن الخاتم لم يعجبها
قال: ربنا يخلى لك زوجك
قالت: لست متزوجة
- معقول؟
أخاف أن تكون عينك عليّا!.. ضحكت طويلا
أشار إلى خاتم زواجه الفضى فى إصبعه.. «كان على عينى.. لكن أنا مرتبط»
رنت ضحكاتنا فى الباص.. جلجلت اندفعت رفيقاتها، وأعطته جنيها وقد استخفتها لحظات من الأنس، وبهجة الفكاهة فأعطاها خاتما هى الأخرى وهو يغنى
سكت فجأة ثم قال لها: خاتم أطفال!.. كان قد فطن إلى أن الخاتم لن يناسب أصابعها الممتلئة
اتسعت ابتسامتها، قالت: ستعطيه لابنتها.
فوجئت به يقول: «ربنا ينوّر تربتك»، غالبت دهشتها، وبصت لصديقتها
تطالعتا إليه، وقد اتسعت عيونهما، قال بعد تفكير، وهو ينظر لصديقتها: إلهى تدفنى معها فى تربة واحدة!.. ثم عاد يضيف: «تربة واحدة منوّرة»
تشاءمتا.. استغرقت إحداهما قليلا من الوقت لتقول بصوت أسيان: الموت هو الحقيقة الوحيدة فى الوجود فتبادرها الأخرى: صدقت والله
... رمقتها من بعيد، ثم تفرست فى وجهه، قررت أن تجرّب حظها هى الأخرى.. توقعت أن يجدد فكاهته أو يجدد دعواته، أن يقول شيئا مختلفا.
بضاعته فكاهته.. خواتمه مجرد وسيلة لكسب الرزق... طاعن فى السن، لكن جسمه الضامر يساعده على خفة الحركة
ملكها عطف عليه، وأخذتها به شفقة فمدت يدها إليه بجنيه مكونا من قطعتين نحاسيتين خمسينيتين
قال لها باسما: لك اثنان، كل خاتم بنصف جنيه
تطلعت إليه باسمة فأعطاها «دبلتين» حدقت فى كيس الخواتم، وقررت أن تنتقى نصيبها بنفسها
أشارت إلى خاتمين صغيرين بفصين لامعين
ابتسم، واستعاد «الدبلتين»، وأعطاها «خاتمين»، لكل منهما فص دقيق، أحدهما بفص أحمر، والآخر بفص برتقالى.. انتظرت مفاجآت كلماته كطفلة فى انتظار هدية
فقال لها: إلهى ما تطلّقى أبدا، ولا تخلعيه، وإن غضب منك صالحيه
ابتسمت لأنه لم يحدثها عن الموت، ولا عن «التُرَب»
لمح طيف ابتسامتها فقال: إلهى.. ما يمشى مع واحدة غيرك لا أمامك.. ولا من وراء ظهركخفق قلبها بشدة.. هل يدرك أزمتها؟
هل رأى فى دمعها المحبوس ظلالا أخري؟ هل استشعر عذاباتها؟
رانت على وجهها سحابة من أسى.. التقطها قبل أن تنهمر بالدمع.. قال باسما: قولى ماذا تريدين بالضبط؟.. أدعى لك بالطلاق أو بالخلع؟
عينك على واحد معين؟!.. كله كوم وأن تكون عينك عليّا كوم تانى.. أنا قلت لك مرتبط
ضحكت فتأملها بعينين باسمتين، وضعت الخاتمين فى بنصريها.. كل خاتم لم يتجاوز قدر أنملة من إصبعيها، الفصان يبرقان، الأحمر والبرتقالى.. نظر إلى الخاتمين فى إصبعيها قائلا: جميل.. خاتم عُقْلة!.. رمقناه وهو يخرج من جيبه ورقة مطوية.. قال إن فيها خبر وظيفة لا أحد يحكى عنها لعدوه!.. صرنا نفكر فى ألغازه وأحجياته.. ترى ماذا تكون هذه الوظيفة؟
لم يفصح عن شروطها ولا ماهيتها، لكنه قال: «أجرها فى الشهر ألف وثلاثمائة جنيه.. يعنى الشاب العازب يقدر يرتبط بأرملة.. أرملة حلوة، وبعدها يأخذ شقتها، أما أولادها إذا كان لها أولاد فعليهم أن يسرحوا فى الشارع ويبيعوا مناديل»
ثم همس وفى عينيه دمعة، وعلى شفته بسمة «أو يبيع خواتم».. ودقّ على صدره
شُغلنا بإشارته.. هل فى حياته هو الآخر حكاية لا يريد أن نعرفها؟ هل فى عينيه دمعة لا يريد أمامنا أن يذرفها؟!... شُغلنا بالشاب العازب الذى سيستولى على شقة الأرملة.. أهكذا يكون نصيب الأرامل؟ وأولادهن هل سيبيعون الخواتم أم المناديل؟
تأملته الفتاة التى لم تتزوج، سُرّت لأنها ليست مثل الزوجة التى لمعت عيناها بدموعها، ولمعت دموعها بظلال أخرى.. طمأنت نفسها لأنها ليست أرملة أيضا.. أما الأرملة الحقيقية التى اتشحت بالسواد الكامل، فقد نظرت إليه من مقعدها مكللة بالأسى.
لم تمد يدها بجنيه لتحصل على خاتم وبُشرى أو خاتم وذكرى أو خاتم ودمعة .. فى اللحظة التى قفز فيها برشاقة على غِرّة من على سلم الباص وهو يصفِّر محتفلا بشيخوخته المزهرة التى مَنَّت عليه بإحساس الصِبا فهمس للفتيات والنساء ضاحكا: «أنا عارف.. عينكم عليّا.. قلت لكم: أنا مرتبط»! .. فى اللحظة التى رمقه فيها باقى الركاب، وقد فاز وحده باهتمام النساء، قريبا من لوعتهن، وعذاباتهن، وارتسمت صورته وحده فى أعين تبكى وأخرى تبتسم.. فى اللحظة التى غادر فيها الباص انتبهت إلى أنى لم آخذ نصيبى من البهجة ولا من الدمع فناديته وهو يقفز فى رشاقة إلى باص آخر.
- «يا بيّاع المحبة.. جبلى معاك خاتم»
وأظننى سمعته يجيب
- فى الموسم اللى جاى
وأظننى رأيته وهو يُغمض عينا ويفتح أخرى وهو يقول
.«فى المشمش!.. أنا عارف عينك عليّا!.. لكنى مرتبط»

أحدث المراجعات

شدتني كثيرا حبكة النص، حيث اعتمدت نسيجا متينا أظهر مهارة في ترتيب المتواليات، انطلاقا من وضعية البدء مرورا بالتحولات وانتهاء بوضعية النهاية، هي خطاطة تميزت بإيقاع سريع منظم، اعتمد جملا قصيرة كان الربط فيها بيانيا يتحاشى ما أمكن أدوات العطف .. هي تقنية تكشف عن تمكن من أدوات السرد وقدرة على استعمالها ,, هي خلاصة سريعة تتعلق بالمبنى، من حيث المتن نجد أن البائع الشيخ يعكس قوة فاعلة تتمحور حولها شخوص القصة، وتلعب دورا رئيسيا في استبطان ذواتها والكشف عما يختلج بداخلها، لنصل في الأخير إلى أن هذه القوة الفاعلة الرئيسية ( الشيخ البائع ) هي محور الرهان الذي تأسست عليه بنية النص ,,
نص جميل يشدك إلى النهاية
مع تحياتي للأستاذة عزة بدر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى