فكري داود - دَهْسُ الطِّين ـ1ـ خُيولٌ

كانا حصانين هذه المرة .. تلتصقُ بجَبْههَ أحَدِهما غرَّة كالحة، وتكسو بياضَ الآخر بُقَعٌ مُسوَدَّة، .. خلف رباطين من قماش، اختفت عيونُهما ـ منذ القدوم ـ، لمدة طالت.

هل تظل ( الفتوحات ـ في الأرض ـ مكتوبة بدماء الخيول؟!)(1) ...تأتي العرباتُ بالطمي، تنتظم أكوامُه، في بُقع متقاربة، ينساب عليـها الماء، تدور فوقها أقدام الخيول، كعقارب ساعة، فوق (مينا) سوداء، يحيلها الدورانُ، إلى أقراصٍ لزجة. فوق أحد الأقراص، دارتْ أقدامُهما ـ المسكونة بالارتجاف ـ دورتَها الأخيرة، آلافُ الأقراصِ انْدَهَسَتْ، تحت أظلافهما، قبل اليوم.

بين أنامل صاحب الورشة، تجري حبَّاتُ المِسْبَحَةِ، يصيح: (محروق أبو وِرَش الطوب.. الورش بتلهف الفلوس لهف) تَتوجَّه إشارتُه، نحو الحصانين العجوزين، يصيح من جديد: ( شِيلوا العَلَف ده .. خسارة في جِتِّتْهم ) تنتقل عيونُنا، بين الفُرْنِ المتمدد، كقطار ضخم ـ مرصوصةٌ أحجاره بحِرفية عجيبةـ، وبين هذا الدوران اللانهائيّ. ينصَبّ المخلوط المدهوس، في قوالب خشبية، ينتج طوبا طينيا، يفترش الأرض لأيام، تحت الشمس. رائحة الطين تملأ المكان، مختلطة برائحة الدود، القادمة من حقول الذرة القريبة.. تتسابق الأيدي، في رصِّ الطوب، داخل الفرن الكبير، تُبْدِله النار ثوبَه الأسود الكالح، بآخر أحمر بطِّيخِيّ عجيب. ثم تبدأ دورة جديدة. تمر الشهور، لا يرتفع الرباط القُماشِيِّ، عن عَينَيّ الحصان، قبل أن تتوقف رؤيته بفعل العتمة، تلوح في ذهني مقولة : العضو الذي لا يعمل يموت، واضعا ـ عن عمد ـ كلمة )يموت) بدلا من (لا ينمو) الموجودة في أصل المقولة. يكشف فَمُ صاحبِ الورشة ـ عندئذ ـ، عن ابتسامة باردة، يقول في تَشَفٍّ عجيب: ( خلاص ..) ... يعطي الأمر، برفع القيد عن ساقيه، وعينيه، يتساءل دون انتظار لجواب : ( وفين هيروح ؟) ...حصانين كانا هذه المرة: مرَّتْ معهما المراسِمُ المعتادة، بكل حزم: قدومٌ صبيانيّ متغطرس. رباطٌ طويلُ للعيون. فَقْدٌ مُدَبَّرٌ لنور البصر. َفَلَّتَتْ سنوات عمرهما ـ كأسلافهما ـ، دون إثارةٍ للدَّهشة. ترتبك ـ منذ مدة ـ سِيقانُهما، يصيب بدنَيهما السُّقوطُ، يَنَْدَبُّ البوزان في الطين. يزداد صدرُ صاحبِ الورشة ضيقا. لم يعد يفيد ضربُ السِّياط. لابد للأيدي الآدَمِيَّةِ أن تساعد البدَنَين لينتصبا من جديد. يتصبَّبُ العَرَقُ. بين وَقْعِ السِّياط، وحركةِ الأيدي المساعدة، تنتقل العيون: (ماذا تبقى الآن، ماذا، سوى عَرَقٌ يتَصَبَّبُ من تعب ..)(1) ليس من كَرٍّ وفَرٍّ في ساحات النِّزال، ولا حتى في حلبات المراهنة الدائرية، فلدوائر الطين من عمرهما أيضا نصيب. قدوم العربات مستمر، جحافل من طيور، تشبه (أبو قردان)، تطارد الخنافس الهاربة، من الطمي الجديد.انتحت يد مأمورة بالحيوانين جانبا، كهيكلين خشبيين متَّسِخَين، تلفُّهما الدَّهشةُ؛ ـ ربما ـ لِتوقُّفِهما عن الدَّهْس الآن، وفي عِزِّ النهار، ها هي حُرْقَةُ الشمس، فوق الجلد المسكون بالعلة، تُنْبِئهُما عن التوقيت. عينُ بندقية القنَّاصِ (مفنجلة)، قامةُ تاجر الجُلودِ مشدودة؛ مِشْرَطه متحفِّز، سدَّدتْ يدُه ـ حالاً ـ ثمن الجِلْدَين... أليس من حق أي مخلوق، أن يحتفظ بجلده، حيا أو ميتا؟! ـ سؤال ربما يلوح لأحد الحاضرين ـ.

تحتك أنيابُ صاحبَ الورشة، يهمس متحسرا: ( لو حَدّ يشتريٍ اللَحْمِ والعظم؟) تنبَّه الحضور لصَهيلٍ عَفِيٍّ، شَغَلَ الأنظارَ ـ للحظة ـ قدومٌ جديد، لحصانين أرْعَنَين، تتقافز أقدامُهما الغشيمةُ، قُرب الطين! أرْسلَ صاحب الورشة الأمرَ الأخير... أعَادَتْ البندقيةُ للآذان وَعْيَ اللحظةِ، و لم تستطع العيونُ، الاستمرارَ في متابعة، الدماء المتفجرة، من الرأسين العجوزين.


فكري داوود.jpg

تعليقات

ف
كانا حصانين هذه المرة .. تلتصقُ بجَبْههَ أحَدِهما غرَّة كالحة، وتكسو بياضَ الآخر بُقَعٌ مُسوَدَّة، .. خلف رباطين من قماش، اختفت عيونُهما ـ منذ القدوم ـ، لمدة طالت.

هل تظل ( الفتوحات ـ في الأرض ـ مكتوبة بدماء الخيول؟!)(1) ...تأتي العرباتُ بالطمي، تنتظم أكوامُه، في بُقع متقاربة، ينساب عليـها الماء، تدور فوقها أقدام الخيول، كعقارب ساعة، فوق (مينا) سوداء، يحيلها الدورانُ، إلى أقراصٍ لزجة. فوق أحد الأقراص، دارتْ أقدامُهما ـ المسكونة بالارتجاف ـ دورتَها الأخيرة، آلافُ الأقراصِ انْدَهَسَتْ، تحت أظلافهما، قبل اليوم.

بين أنامل صاحب الورشة، تجري حبَّاتُ المِسْبَحَةِ، يصيح: (محروق أبو وِرَش الطوب.. الورش بتلهف الفلوس لهف) تَتوجَّه إشارتُه، نحو الحصانين العجوزين، يصيح من جديد: ( شِيلوا العَلَف ده .. خسارة في جِتِّتْهم ) تنتقل عيونُنا، بين الفُرْنِ المتمدد، كقطار ضخم ـ مرصوصةٌ أحجاره بحِرفية عجيبةـ، وبين هذا الدوران اللانهائيّ. ينصَبّ المخلوط المدهوس، في قوالب خشبية، ينتج طوبا طينيا، يفترش الأرض لأيام، تحت الشمس. رائحة الطين تملأ المكان، مختلطة برائحة الدود، القادمة من حقول الذرة القريبة.. تتسابق الأيدي، في رصِّ الطوب، داخل الفرن الكبير، تُبْدِله النار ثوبَه الأسود الكالح، بآخر أحمر بطِّيخِيّ عجيب. ثم تبدأ دورة جديدة. تمر الشهور، لا يرتفع الرباط القُماشِيِّ، عن عَينَيّ الحصان، قبل أن تتوقف رؤيته بفعل العتمة، تلوح في ذهني مقولة : العضو الذي لا يعمل يموت، واضعا ـ عن عمد ـ كلمة )يموت) بدلا من (لا ينمو) الموجودة في أصل المقولة. يكشف فَمُ صاحبِ الورشة ـ عندئذ ـ، عن ابتسامة باردة، يقول في تَشَفٍّ عجيب: ( خلاص ..) ... يعطي الأمر، برفع القيد عن ساقيه، وعينيه، يتساءل دون انتظار لجواب : ( وفين هيروح ؟) ...حصانين كانا هذه المرة: مرَّتْ معهما المراسِمُ المعتادة، بكل حزم: قدومٌ صبيانيّ متغطرس. رباطٌ طويلُ للعيون. فَقْدٌ مُدَبَّرٌ لنور البصر. َفَلَّتَتْ سنوات عمرهما ـ كأسلافهما ـ، دون إثارةٍ للدَّهشة. ترتبك ـ منذ مدة ـ سِيقانُهما، يصيب بدنَيهما السُّقوطُ، يَنَْدَبُّ البوزان في الطين. يزداد صدرُ صاحبِ الورشة ضيقا. لم يعد يفيد ضربُ السِّياط. لابد للأيدي الآدَمِيَّةِ أن تساعد البدَنَين لينتصبا من جديد. يتصبَّبُ العَرَقُ. بين وَقْعِ السِّياط، وحركةِ الأيدي المساعدة، تنتقل العيون: (ماذا تبقى الآن، ماذا، سوى عَرَقٌ يتَصَبَّبُ من تعب ..)(1) ليس من كَرٍّ وفَرٍّ في ساحات النِّزال، ولا حتى في حلبات المراهنة الدائرية، فلدوائر الطين من عمرهما أيضا نصيب. قدوم العربات مستمر، جحافل من طيور، تشبه (أبو قردان)، تطارد الخنافس الهاربة، من الطمي الجديد.انتحت يد مأمورة بالحيوانين جانبا، كهيكلين خشبيين متَّسِخَين، تلفُّهما الدَّهشةُ؛ ـ ربما ـ لِتوقُّفِهما عن الدَّهْس الآن، وفي عِزِّ النهار، ها هي حُرْقَةُ الشمس، فوق الجلد المسكون بالعلة، تُنْبِئهُما عن التوقيت. عينُ بندقية القنَّاصِ (مفنجلة)، قامةُ تاجر الجُلودِ مشدودة؛ مِشْرَطه متحفِّز، سدَّدتْ يدُه ـ حالاً ـ ثمن الجِلْدَين... أليس من حق أي مخلوق، أن يحتفظ بجلده، حيا أو ميتا؟! ـ سؤال ربما يلوح لأحد الحاضرين ـ.

تحتك أنيابُ صاحبَ الورشة، يهمس متحسرا: ( لو حَدّ يشتريٍ اللَحْمِ والعظم؟) تنبَّه الحضور لصَهيلٍ عَفِيٍّ، شَغَلَ الأنظارَ ـ للحظة ـ قدومٌ جديد، لحصانين أرْعَنَين، تتقافز أقدامُهما الغشيمةُ، قُرب الطين! أرْسلَ صاحب الورشة الأمرَ الأخير... أعَادَتْ البندقيةُ للآذان وَعْيَ اللحظةِ، و لم تستطع العيونُ، الاستمرارَ في متابعة، الدماء المتفجرة، من الرأسين العجوزين.


مشاهدة المرفق 3338
----- هذا جهد محترم، ألف شكر على نشر الجزء رقم 1من قصتي دهس الطين. ويشرفني أكيد مداومة التواصل معكم.
فكري داود
 
أعلى