هندة بوسكين - مرجعيات البيان عند ابن وهب الكاتب(ت335هـ ) و أثرها في التفكير البياني العربي.

1. موقع ابن وهب الكاتب في الإشكالية البيان العربي:

فُتح موضوع البيان العربي بقوة قبل ثمانين عاما و بالتحديد سنة 1931م، يوم أن قدم طه حسين بحثا حول البيان العربي حرره في مقدمة كتاب صدر في تلك الحقبة بعنوان " نقد النثر "1 المنسوب خطأ إلى قدامة بن جعفر(ت337) و تبين فيما بعد وبالضبط سنة 1963 أنه جزء من كتاب " البرهان في وجوه البيان" 2 لابن وهب الكاتب 3 أشار فيه طه حسين إلى أن البيان في جميع أطواره ابتداء من الجاحظ إلى عبد القاهر الجرجاني كان وثيق الصلة بالفلسفة اليونانية و بالبيان اليوناني ؟؟ .

حرك هذا الحكم الخطير ثلة من الباحثين شكلوا فئتين متنافرتين: أما الفئة الأولى فقد تعمقت في الفكرة ونشرتها في مؤلفاتها 4 بينما رأت الفئة الثانية أن الأثر الأرسطي في البيان العربي يكاد يكون باهتا أو معدوما إذ " وجد هؤلاء في نتيجة بحثهم و تنقيبهم أن البلاغة و النقد العربيين هما أولا و قبل كل شيء من العلوم العربية الإسلامية ، و أنهما لم ينبعا من فكر أرسطو و لا من الفلسفة اليونانية و لكن من الدراسة الشاملة و العميقة و التحليلية لمتن الشعر من جهة، و من التأمل في النص القرآني، و الجهود المبذولة في الكشف عن مكامن الإعجاز فيه من جهة ثانية" 5 و هذا ما أقره أمجد الطرابلسي في مقدمته لكتاب " الأثر الأرسطي " للباحث "عباس أرحيلة " الذي بدوره حاول الغوص في خلفيات مقولة التأثير الأرسطي في البيان العربي في عصرنا، لمراجعتها و وضعها في سياقها و حجمها، دون انبهار أو استلاب أو ذوبان ؛ فكانت له تساؤلات من بينها: هل أخضعت الأمة الإسلامية هويتها البيانية لمقاييس خارج ذاتها ؟؟ وهل أقامت نشاطها الإبداعي على فراغ نظري ؟ و هل أحدث الكتابان المشهوران " الشعر و الخطابة " الأرسطيان ثورة في قضايا النقد و البلاغة العربيين؟ .

توصل الباحث ـ عباس أرحيلة ـ بعد جهد إلى أن أفكار أرسطو ظهرت بشكل خصب في المستوى النقدي و البلاغي في القرنيين الهجريين السابع و الثامن مع المدرسة المغربية التي مثلها حازم القرطاجني و ابو القاسم السجلماسي و ابن البناء المراكشي، ظهر عند رجالها نوع من التعامل المثمر مع بعض أفكار أرسطو الفنية و الأهم في هذا أن الباحث ـ عباس أرحيلة ـ استثنى مع هذه المدرسة بعض الكتب المشرقية التي سبقتها زمنا و برز فيها الطابع المنطقي في التخطيط و التفريع و التحديد مثلها أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب بمؤلفه ـ البرهان في وجوه البيان ـ في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة، و بقي دوره مدفونا إلى أن نبش عنه في العقود الأخيرة 6 ابتداء بتشويه الباحث ـ طه حسين ـ ليتبعه كل من الدارسيْن ـ إبراهيم سلامة ـ ثم ـ شوقي ضيف ـ وغيرهم ممن تجاهلوه عند تعاطي الدرسيْن النقدي و البلاغي على حدَ سواء منطلقين منأن الأبحاث البيانية بعد القرن الثالث الهجري اتجهت اتجاها منطقيا تحليليا و قد غفل هذا الاتجاه , الاتجاه الفني الجمالي و السبب يعود في نظرهم إلى ما عبر عنه طه حسين بالغارة الهيلينية التي وجهت المعتزلة و هم منشؤ البيان العربي من الأدب إلى الفلسفة بقوله " لقد أنشأ متكلمو المعتزلة هذا البيان، إذا صح التعبير ، و تعهدوه ، و قلما كان يفلت من أيديهم. و قد بقي أقرب إلى الأدب منه إلى الفلسفة ما بقي أولئك المتكلمون يدرسون الأدب العربي و ينهلون من موارده العذبة. فلما أصبحوا أكثر اشتغالا بالفلسفة منهم بالأدب أصبح بيانهم أقرب إلى الفلسفة منه إلى الأدب " 7 رد محمد عابد الجابري على هذا الحكم الخطير الذي وقف عنده طه حسين رافضا إيَاه و مبينا السبب الوجيه في هذا التحول قائلا : إ ن " تحول الدراسات و الأبحاث البيانية من الاهتمام بشروط إنتاج الخطاب إلى الاهتمام بتحليل الخطاب تحليلا بيانيا منطقيا لم يكن ، في نظرنا ، بسبب هجوم العقل اليوناني على المتكلمين المعتزلة و تحولهم المزعوم من الأدب إلى الفلسفة . إن الذي حدث، في الواقع, هو أن التيار الآخر من الدراسات البيانية الذي كوَنه الفقهاء و علماء الأصول هو الذي امتد تأثيره إلى الساحة البلاغية, فصرف الناس من الاهتمام بالخطابة،أي بشروط و تقنيات إنتاج الخطاب البليغ إلى الانكباب على دراسة قوانين تفسير الخطاب المبين" 8؛ فأيَ المسلكين سلك ابن وهب الكاتب في مشروع البيان العربي؟؟

إن البحث في طيًات هذا الإشكال يحيلنا على الخلفيات التي بنى على إثرها ابن وهب الكاتب تصوره في درس البيان و المرجعيات التي اعتمدها في تحديد وجوهه البيانية، مع العلم أن مؤلف كتاب البرهان تناول الدرس البياني بعد ما عرف مصطلح البيان الدقة في الطرح العلمي ما بين القرنيين التاليين: نهاية القرن الثاني للهجرة, وبداية القرن الثالث للهجرة, بدء بالإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي نزع في البيان النزوع الأصولي، و انتهاء بأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الذي نزع في هذا المشروع النزوع البلاغي, يتبعهما في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكاتب بأثره الكبير في مراجعة مشروع البيان والانتقال به من حالة في كتاب " البيان والتبيين " إلى حالة أخرى9.

2. محاولة "ابن وهب" المبكرة في إعادة صياغة التراث البياني العربي:

اعتبر "ابن وهب الكاتب " في الدراسات الأدبية المعاصرة نموذجا متميزا في درس البيان العربي ينضاف إلى البلاغي المشهور"أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ " المؤسس الأول للبيان العربي في الطرح الأدبي و الرائد الأول لهذا الدرس ، كلاهما حاولا التنظير للبيان العربي و لأنواع الدلالات البيانية، لكن كلا على طريقته و حسب متطلبات عصره10.

فماهي مرجعيات "ابن وهب" التي هيئته ليكون أول ناقد لكتاب "البيان و التبيين" في القرن الرابع للهجرة, و ليقتصر درسنا على التساؤلات التالية في بلورة فكرة إعادة صياغة الموروث البيان العربي.

ü مرجعيات البيان في مشروع ابن وهب الكاتب؟

ü و مدى تأثيرها في مشروع ابن وهب البياني؟

ü و هل درسُ ابن وهب للبيان العربي في ظل هذه المرجعيات كان بوعي منه؟

1 ـ مرجعيات البيان في مشروع ابن وهب الكاتب :

أثًرت مكتسبات ابن وهب الثقافية و العلمية في إعادة صياغة البيان العربي،إذ هو الفقيه 11 الشيعي الإمامي 12 الذي " جمع إلى علمه بالأدب و روايته ، علمه بالتأويل و بالفقه و أصول التشريع و المنطق و الفلسفة اليونانية " 13، و رغم زخمه المعرفي و إطلاعه الواسع على المنطق 14 لم يتمتع بشهرة كالتي تمتع بها معاصراه،" قدامة بن جعفر " و " عبد الله بن المعتز"، حيث سكتت المراجع عن التعريف به و بكتابه قديما و حديثا، و لم يتسن للدارسين الكشف عن علمه إلا في عهد قريب، و وقتها اعتبر بثقافته الواسعة ،ثاني اثنين يمثل علامة دالة على دخول "الغارة الهيلينية" على البيان العربي في القديم ، وفي القرن الرابع بصفة خاصة15 .فما مدى صحة هذا الحكم في حق ابن وهب الكاتب ؟

إن "ابن وهب" عاش في عصر عُرف بالنهضة في الإسلام، وفي زمن نبع فيه ثلة من العلماء فهو:

1- عصر الصدام بين النحاة و المناطقة16، مثله النحوي الكبير" أبي سعيد السيرافي" (ت 368) و المنطقي الشهير "متى بن يونس "(ت 328) أجريت بينهما مناظرة مشهورة قال في ختامها "الوزير ابن الفرات" لأبي سعيد يهنئه " عين الله عليك ، لقد نديت أكبادا و أقررت عيونا و بيضت وجوها و حكت طرازا لا يبليه الزمان "17.

ـ انعكس بعض هذا الصدام في مشروع ابن وهب، وهو صدام آت من نظامين مختلفين حددهما "محمد عابد الجابري" في النظام المعرفي البياني الذي ينطوي تحته النحاة ، و النظام المعرفي البرهاني المتضمن لأهل المنطق؛ أدى تمكنُ ابن وهب إلى الجمع بين النظامين مستعينا بالأول في مضمون البيان و مادته، و بالثاني في المنهج و التبويب و التفصيل و التقسيم18و يظهر مسلكه جليا في مقدمة كتابه "البرهان في وجوه البيان" من خلال قوله " و قد ذكرت في كتابي هذا جملا من أقسام البيان ، و فقرا من آداب حكماء أهل هذا اللسان ، لم نسبق المتقدمين إليها ، و لكن شرحت في بعض قولي ما أجملوه ، و اختصرت في بعض ذلك ما أطالوه ، و أوضحت في كثير منه ما أوعروه ، و جمعت في مواضع منه ما فرقوه ، ليخفّ بالاختصار حفظه ، و يقرب بالجمع و الإيضاح فهمه " 19و لشدة حرص ابن وهب على متطلبات المرحلة المنهجية ختم كتابه قائلا " و قد انتهينا إلى الغرض فيما أردنا أن نتكلم فيه من أقسام البيان، و توهمنا أن قد سلكنا من الإطالة له بعض ما لعله يُظن بنا مخالفة لما وعدنا به في أول كتابنا من الإيجاز ، و لم آت في كل فصل إلا بأقل ما يمكن أن يؤتى به . و إذا نظرت في كل باب منه و جدتنا قد اختصرناه ، و إنما طال الكتاب لكثرة فنون القول و أقسامه ، و اختلاف معاني البيان و أحكامه ، لأنا لم نحب أن نحل بشيء منه حتى ندل عليه ، و نشير إليه"20.

2- عصر ثبَتتْ فيه الثقافةُ اليونانية و علومُها أقدامها و ذلك باستيعاب " العقول العربية ما تناقلته الأجيال من ذلك التراث الأجنبي و خاصة منه الأرسطي "21 و تظهر بوادر هذا الاستيعاب في :

‌أ- ترجمة متى بن يونس لكتابي "الخطابة" و "الشعر" لأرسطو.

‌ب- ترجمة يحي بن عدي (ت364) ترجمة جديدة للمنطق الأرسطي .

‌ج- تقريب الفارابي المنطق من الذهنية العربية .

‌د- استعانة قدامة بن جعفر بالثقافة اليونانية في تأليف "نقد الشعر" 22.

سهل هذا الاستيعاب وجود ترجمات أسهمت في نشر الثقافة اليونانية و خاصة منها الأرسطية إلى جانب الثقافة الأصولية التي تمتع بها ابن وهب و أحال عليها كثيرا في مؤلفه البرهان ، مما يدل على استنارة عقله بالمعرفة التي واكبتها عناية المنطق في التحليل.

3- عصر، اشتغل فيه المتكلمون و في مقدمتهم "المعتزلة" بقضية "الإعجاز القرآني" 23 أدى هذا الاشتغال إلى نضج التفكير النظري و خاصة منه العقدي و ذلك باحتداد الحجاج العقلي24 و دخول الثقافة الإسلامية في" حوار مباشر مع بعض الثقافات الأجنبية و إن ظل هذا الحوار مقتصرا على فئة قليلة جدا" 25. فقد صرف هذا النضج الفكري فئة المتكلمين و البلاغيين إلى تحليل مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم و" التحقوا بسبب ذلك بزملائهم اللغويين و الفقهاء و الأصوليين الذين انشغلوا منذ البداية، بوضع قوانين لتفسير الخطاب البياني، و بكيفية خاصة الخطاب القرآني الذي يمثل أعلى مراتب البيان "26. عاد هذا الانشغال بالفضل الكبير على ابن وهب الذي استطاع بحذقه و فطنته إتباع منهج في التحليل وطريقة في التفكير تحفظ التراث البياني و تعيد صياغة البيان الصياغة العلمية.

2 ـ أثر مرجعيات ابن وهب الكاتب في مشروع البيان:

1- الشمول المعرفي:

انطلقت نظرة ابن وهب للبيان من منزعين اثنين27 المنزع الأصولي ، من جهة استفادة ابن وهب من تعريف الإمام الشافعي للبيان "و البيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع " 28 الذي قفز به في الفكر العربي الإسلامي –آنذاك- قفزة نقلته من مستوى المواضعة اللغوية الجارية إلى مستوى المصطلح العلمي "29.

استغل ابن وهب هذا المفهوم المجرد للبيان ، موظفا إياه في منهجه العلمي المنطقي و هو يعيد صياغة البيان العربي للانتقال به في بيداغوجية التأليف عند العرب من الطرح الموسوعي إلى الطرح العلمي الدقيق الذي تطلبته المرحلة.

نتج عن هذه الصياغة إشراك جميع وجوه البيان التي تفطن لها علماء الأصول و تبنى بعضها الجاحظ في كتابه البلاغي المشهور " البيان و التبيين " لكنه سرعان ما تخل عنها، و اقتصر على وجه واحد تمثل في دلالة اللفظ ، وهذا ما سعى ابن وهب في استدراكه بعد درسه للبيان و التبيين.

إن التراجع الذي أحدثه الجاحظ في مفهوم البيان ترك ابن وهب يستدرك الناقص فيه، مستفيدا من طروحات البيانيين السابقين له و في مقدمتهم الجاحظ الذي اشتهر فيه برؤيته البيانية اللغوية التي تهتم باللفظ اهتماما بيانيا متفاوتا أي بلاغيا 30 فأفرط في الاهتمام بالسامع بإقحامه و إفحامه، و هذا ما لم يكن من اهتمامات الأصوليين الذين حُصر درسهم في فهم النص القرآني و استنباط أحكامه الشرعية بناء على قاعدة الأصل و الفرع بعيدا كل البعد عن السامع و متطلباته.

هكذا تصور ابن وهب مشروعه البياني ، مستغلا المنزعين المذكورين في مسألتي " الفهم و الإفهام " أو " الظهور و الإظهار " أو " البيان و التبيين" فاستدرك ما ضُيَق بعد اتساع و أعاد للبيان تنوعه الوظيفي الذي انعكس بوضوح في مفهوم البلاغة و مجالاتها31.

يعود فضل ازدهار درس البيان إلى الأطروحات التي مزجت بين الحقول المعرفية التي برزت آنذاك: الأصولية و المنطقية و الطائفية, شكلت كما يرى الجابري في جملتها مرجعيات ابن وهب العلمية و الثقافية، جمعها ذهنه وصاغ على إثرها بيانا نتلمس فيه شرح الشافعي له " عالم من الأفكار تتضمنه أصول ، تتشعب عنه فروع ، و تعبر عنه لغة معينة ذات أساليب تعبير خاصة "32.

إن غوص ابن وهب في هذه المرجعيات واستغلاله إيَاها استغلالا متداخلا متكاملا، فتح له باب الإبداع في طرح موضوع البيان بإعادة صياغته وفق متطلبات المرحلة ، فصاغ البيان العربي صياغة علمية جمعت بين الفهم " الأصولي" المستنبط (لقوانين تفسير الخطاب) 33و الإفهام " البلاغي " المنتج للخطاب وفق شروط التبليغ 34فكان من نتاج هذه النزعة العلمية الاهتمام بمفهوم البيان اهتماما يحرص على شروط المعرفة ، و الأسباب الموصلة إليها، ووسائل التبليغ و التواصل، التي تعنى بكيفية استنباط المعرفة و استثمارها في الواقع الملموس35 و هذا ما تحدث عنه كل من الباحثيْن المعاصريْن: " محمد عابد الجابري " و "محمد العمري" عند ما طرحا أبعاد مشروع البيان عند ابن وهب 36 لخصها " محمد العمري" في :

1. استنباط المعرفة عن طريق بياني "الاعتبار " و " الاعتقاد":

تقوم وظيفة هذين البيانين " الاعتبار " و الاعتقاد " على وظيفة أساس هي " التفكير و التأمل " تليها وظيفة لا تقل أهمية عن الوظيفة السابقة ، حصرها الباحث في " وظيفة الاختزان " التي تفيد الوصول للعلم النافع، يأتي فعلها عن طريق العقل الذي يعني عند ابن وهب "حجة الله على خلقه و الدليل إلى معرفته"37. اهتم ابن وهب بمهام العقل و عدَها من جوهر كلامه و ذلك بتقسيم العقل إلى موهوب " الأصل" و مكسوب " الفرع" 38 و جعل الفرع وسيلة لإبقاء الأصل و تطويره وذلك باستغلال العقل للدليل الخارجي و توظيفه بالوجه اللائق فيرفع الإنسان إلى درجات العلم و المعرفة، بينما معكوسه يُنزل الإنسان منزلة عدم التمييز بينه وبين بقية الكائنات الأخرى، فتزول الوظيفة التي خلق الله لأجلها الإنسان لأنه غير قادر على استنباط المعرفة.

2. تداول المعرفة و استثمارها عن طريق بياني" العبارة " و" الكتاب":

يكون تداول المعرفة بالتعبير و النقل معا، ينطوي التعبير تحت " بيان العبارة "، و النقل تحت " بيان الكتاب " يمثل البيانان في هندسة البيان العربي عند ابن وهب الجزء الثاني من مجالات كسب المعرفة و استنباطها.

عدً ابن وهب " التعبير" و " النقل " من وسائل كسب المعرفة في الجزء الثاني من وجوه البيان، إذ علومهما تعد مرجعيات أساسية يأتي ترتيبها بعد القرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف و يشكلان المصدر الهام في فهم نصوص القرآن و استنباط أحكامها، تمثلها علوم اللسان العربي التي تحفظ المنطوق و المكتوب من الكلام، فحفظ اللسان هو حفظ العقل و القلب معا و" الجهل بالعربية جهل بالمعتقد ، و للسان خصوصية لا بد من معرفتها حتى يدرك ذلك المراد "39.

سعي ابن وهب وراء المعرفة جعله يجتهد في تفصيل وسائل هذين البيانين" العبارة" و "الكتاب" فوقف على خصوصيات القول و الكتابة في اللسان العربي قائلا " وللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم وجوه و أقسام و معان و أحكام متى لم يقف عليها من يريد تفهم معانيها و استنباط ما يدل عليها لفظها لم يبلغ مراده و لم يصل إلى بغية، و منها ما هو عام للسان العرب و غيره و منها ما هو خاص له دون غيره "40.

عملا بالنزعة العلمية استطاع ابن وهب ولوج درس البيان بتقديم المعارف اللازمة في بعض وجوه البيان بالاستدلال و الإقناع بالوسائل المنطقية و الخطابية كما ارتبط عنده وجه من الوجوه البيانية بتجويد قناة التواصل مثل الكتابة 41، و بهذا الشكل لم تخرج المرجعيات الأساسية التي اعتمدها ابن وهب عن دائرة المورث العربي الإسلامي الأصيل استغلهاكاتب البرهان منطلقا من كتاب ثمين، عرف الصدارة في البيان العربي إنه " البيان والتبيين " للجاحظ .

كما لم يمنع هذا التشبع المعرفي ابن وهب من وصل الإحالات الأصيلة بإحالات أجنبية يعود إليها ابن وهب كلما سنحت الفرصة خاصة ما تعلق منها بالثقافة الأرسطية، و يبقى موقع هذه الإحالة و غيرها من إحالات أرسطية أخرى أتى بها ابن وهب لتعزيز ثقافة العرب و المسلمين و بيان مكانتها في مختلف سياقاتها، و نكتفي بصياغته القائلة " و قد ذكر أرسطاطاليس الشعر في كتاب الجدل، فجعله حجة مقنعة....." لينهي قوله " .... و قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق بالتقدمة و أولى بالإتباع ، وقد قال: " إن من الشعر لحكما "42.

2ـ التأصيل المعرفي:

تمثل التأصيل المعرفي عند ابن وهب في المادة البيانية التي تعامل بها أو معها ، سواء المادة البيانية التي فكر بها ، أو المادة البيانية المستشهد بها .

إن المتمعن في المادة المعرفية التي تعامل بها و معها ابن وهب استنباطا و تداولا لا تخرج عن دائرة المعرفة العربية الإسلامية التي استغلها ابن وهب استغلالا علميا من" قرآن ، حديث، أقوال الصحابي علي بن أبي طالب، أقوال الإمام الشيعي أبي جعفر الصادق، فقه، نحو,أدب بنوعيه " المنظوم و المنثور" و كلام حكماء العرب " .

3ـ التصميم المنطقي المنظم :

استعان ابن وهب بما واكب معرفته من منطق داخلي 43 فقدم في البيان دراسة منظمة تعتمد على بناء الموضوع على أصول و فروع و بطريقة تقريرية ، طريقة الأصوليين من فقهاء و متكلمين ، و ليس بالطريقة التي اعتمدها الجاحظ في بيداغوجيته البيانية44 بسبب اهتمامه المفرط بالسامع.

إن التصميم الذي اتبعه ابن وهب كان نتيجة متطلبات المرحلة التي سعى على إثرها ابن وهب لتحويل بيداغوجية الكتابة و التأليف من التنويع في الموضوعات " موسوعة الطرح " و " الترويح على السامع" ، إلى اعتماد عرض الفكرة و تقريرها بخطاب استدلالي45.

نتلمس في إتباع ابن وهب هذه البيداغوجية، جانبا من تأثره بالنزوع البرهاني، و لعل عنوان كتابه ' البرهان في وجوه البيان" لأوضح دليل على نزوعه هذا المنزع في رأينا؛ كما ترتب عن هذا النزوع هندسة المادة البيانية و عرضها في شكل وجوه أربعة (الاعتبار ، الاعتقاد ، العبارة و الكتاب ) تقوم على الاستدلال والإقناع، بطريقة تسير من الكل إلى الجزء ، و من المشترك إلى الخاص، يمكن تلخيص محاورها بتشجير46 يبرز كل الجزئيات و التفاصيل الصغيرة في موقعها الطبيعي47 .

و بهذا يكون ابن وهب بوعيه العميق و إطلاعه الواسع قد أفادنا إفادة كبرى في إحصاء رؤوس المسائل البيانية ، و تقسيمها إلى أنواع "ففلسف الأدب بطريقته و أحيا أقسامه و حدد كل قسم منها تحديدا منطقيا على وجه سليم من الناحية المنطقية ، و من حيث التبويب و استيفاء الأقسام مما لا نكاد نرى له نظيرا في كتاب الجاحظ "48 دون أن يلحق بمصنفه " البرهان في وجوه البيان " عند التأليف أي نوع من الجفاف في الأسلوب لأن ابن وهب انحدر من قوم تتأصل فيهم صناعة الكتابة.

3ـ درس ابن وهب الكاتب مشروع البيان في ظل المرجعيات:

حاول "ابن وهب" أن يوظف حصيلته الثقافية في قراءة "البيان العربي بطريقة" لا يقحمها و لا يشرع لها ، و لا يطبقها ، و إنما يسـتأنس بها في الفهم و التفهيم "49 و يظهر ذلك عندما قام بإجراء منهجي إزاء البيان عند الجاحظ و ذلك بإعادة النظر في البيداغوجية البيانية الجاحظية ، و هو الفعل نفسه قام به معاصر له "قدامة بن جعفر " إزاء البلاغيين في قضية الشعر عندما ألف "نقد الشعر"50 و يعد فعل كل من ابن وهب و قدامة بن جعفر مطلبا من متطلبات القرن الرابع للهجرة في المستوى المنهجي أملته المرحلة آنذاك.

إن ثقافة ابن وهب و فعله ، أديتا ببعض المحدثين من أمثال "بدوي طبانة ،أحمد مطلوب ،محمد العمري ، محمد عابد الجابري ، عباس أرحيلة و غيرهم " إلى إنصاف هذا الرجل الذي درس البيان دراسة مستوعبة عميقة ممعنة اهتدى بها إلى ما حوى كتاب البيان والتبيين من دقائق البحث في أصول البيان بعامة و الأدب بخاصة فجاء مصنفه البرهان في وجوه البيان " يحمل أصداء الثقافة المعاصرة له ، و يشكل خطوة في دراسة البيان العربي دراسة علمية ، و يذكر بعض أراء أرسطو خاصة و يفتح صدره لاستقبال الثقافات الأجنبية عامة " 51 دون أن تهيمن عليه الغارة الهيلينية التي أدعى "طه حسين" تأثيرها في البيان العربي القديم ، و بالضبط في القرن الرابع للهجرة، و ذلك يوم أن حقق طه حسين كتاب البرهان في وجوه البيان مع عبد الحميد العبادي معتقدا كل منهما أنه "نقد النثر" العائد لقدامة بن جعفر ، و لم يكتف طه حسين بهذا فحسب بل ختم التحقيق بحكم خطير ألصق بمصنف " البرهان في وجوه البيان" باعتبار المرجعية في البيان العربي سلطتها أجنبية يكون فيها " أرسطو المعلم الأول ليس فقط في الفلسفة و إنما أيضا المعلم الأول في علم البيان" 52، ترك هذا الفعل ، أثرا سلبيا بالغا في الدرس البياني عند المحدثين ، من أثره تأنيب شوقي ضيف لابن وهب و التطاول عليه بقوله " و كأنه يريد أن يقول أن البحث في البيان ليس من شأن المتكلمين من أمثال الجاحظ و إنما هو من شأن المتفلسفة الذين استوعبوا استيعابا دقيقا كتابات أرسطو في المنطق و الجدل و الشعر "53.

لكن استمرار البحث باجتهاد الدارسين و الباحثين المعاصرين رد اعتبار جهود الرجل الذي جمع بين الأدب, العلم و الثقافة الأجنبية " و لم يعرب لحظة عن انبهاره بالتراث الهيليني ، و لا فكر أن يكون مشروعه استجابة له ، أو استلهاما له ، أو إعجابا به "54؛ و منها مكانة البيان العربي الأصيل.

حقيقة استفاد ابن وهب من جملة الحقول المعرفية بما فيها الثقافة الأجنبية التي طعمها بالروح العربية الإسلامية الأصيلة، و منح بهذا الفعل منها منح الريادة في مشروع البيان ،بحسبه متم هذا المشروع الذي بنى صرحه كل من الإمام الشافعي و الجاحظ، شكلا الاثنان أصول المشروع البياني العربي ليكمل ابن وهب مشوارهما في مرحلة النضج المعرفي الذي واكبته ثقافة منطقية ." و إذا كان ابن وهب ارتبط صراحة بالجاحظ و بالتالي بالبلاغيين و المتكلمين فان حضور النحاة و الأصوليين الفقهاء في مشروعه ، حضور قوي مضمونا و شكلا .أما المنطق ، منطق أرسطو فهو حاضر فعلا و لكن لا " كمؤسس " و لا "كموجه" بل فقط كـ "آخر" يساعد حضوره على الوعي بـ "الأنا" إنه " الضد " الذي يتميز به البيان55.

الهامش:

1 " البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر الجرجاني" طه حسين ، في "نقد النثر" المنسوب خطأ لأبي فرج قدامة بن جعفر، دار الكتب العلمية، لبنان, 1980 من ص: 1 إلى 31.

2 البرهان في وجوه البيان ، لأبي الحسن إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب تقديم و تحقيق حفني محمد شرف مكتبة الشباب 1969مـ القاهرة ، النسخة المعتمدة من قبل لجنة إحياء التراث بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية و الفضل يعود إلى الأستاذ علي حسن عبد القادر الذي لفت الأنظار إلى كل من الكتاب و صاحبه.

3 ابن وهب الكاتب، من أبناء القرن الرابع للهجرة، سكتت المؤلفات عن ذكر حياته و التحقيق في مؤلفه "البرهان في وجوه البيان" إلى وقت قريب.

4 ممن ثار ضد أفكار ابن وهب الكاتب، إضافة إلى " طه حسين " في مقدمة تحقيق " نقد النثر" المنسوب خطأ إلى قدامة بن جعفر، نجد إبراهيم سلامة بمصنفه :"بلاغة أرسطو بين العرب و اليونان "، و شوقي ضيف بمؤلفه: البلاغة تطور و تاريخ.

5 مقدمة أمجد الطرابلسي في كتاب الأثر الأرسطي في النقد و البلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري , عباس أرحيلة,منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية ، المملكة المغربية ، 1999 ، ص: 12/ 13.

6 انظر، الأثر الأرسطي, عباس أرحيلة، ص :16/17.

7 تمهيد البيان العربي ، طه حسين في نقد النثر، ص 46.

8 بنية العقل العربي, دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية, محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 8، بيروت2007، ج2 ص: 31.

9 انظر، المرجع نفسه، ج2 ص32.

10 انظر ، الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية و الممارسة الشعرية ، نحو كتابة تاريخ جديد للبلاغة و الشعر ، محمد العمري ، أفريقيا الشرق ، لبنان ، 2001 ، ص:70.

11 ينفي محقق كتاب " البرهان في وجوه البيان" محمد حفني شرف، انتساب ابن وهب للشيعة "لم يكن يعيها بمعنى الكلمة " هناك اختلاف في انتسابه للشيعة، ص: 12.

12 البلاغة العربية تطور و تاريخ ، شوقي ضيف ، دار المعارف ،مصر ، ط6 ،ص: 96.

13 البيان العربي ، بدوي أحمد طبانة ، مصر 1958 ،ط 2 ، ص:82.

14 تمهيد في البيان العربي ، طه حسين ، في نقد النثر ، ص:19.

15 انظر ، الأثر الأرسطي، عباس أرحيلة، ص:409.

16 نظر ، بنية العقل العربي ، محمد عابد الجابري، ج2 ص:33.

17 الإمتاع و المؤانسة، أبو حيان التوحيدي، تحق أحمد أمين ، مكتبة الحياة، بيروت (د ت) ، ج1 ص:128.

18 بنية العقل العربي، للجابري، ج1 ص:11.

19 البرهان في وجوه البيان ،ابن وهب الكاتب ، ص:51.

20 المرجع نفسه ، ص:362.

21 الأثر الأرسطي ، عباس أرحيلة، ص :391.

22 انظر المرجع نفسه ، ص:391.

23 انظر المرجع نفسه ، ص: 417 .

24 انظر، المرجع نفسه ، ص: 344 .

25 المرجع نفسه ، ص410 .

26 بنية العقل العربي ، للجابري، ص:31 .

27 انظر ، المرجع نفسه ، ج2 ص: 37 .

28 الرسالة ، محمد بن إدريس الشافعي ، تحق ، أحمد شاكر ، البابي الحلبي ، القاهرة ، 1940 ، ص: 21 .

29 بنية العقل العربي ، ج2 ، ص:22.

30 الموازنات الصوتية، محمد العمري، ص:73.

31 و هذا بتخصيص ابن وهب لنوع من البيان " بيان الكتاب" الذي يستحق أن يكون كتابا مستقلا ،انظر الموازنات الصوتية، للعمري، ص:71 . أسهمت رؤية ابن وهب التي تغذت بالتنوع المعرفي لديه كذلك ، في جمعه أثناء الدرس بين صناعتي الشعر و النثر ،و عد آنذاك أول جامع بينهما ، فبحث في الشعر و مباحثه و لم يغفل الكتابة و أدواتها و فصَل فيهما تفصيلا علميا دقيقا تجلى في كل من بيان العبارة و بيان الكتاب ، و انتقل بذلك في بيداغوجية التأليف من ثقافة " الشفوية " إلى ثقافة " الكتابة و التدوين " معتبرا الكتابة فنا و علما.

32 بنية العقل العربي ، ج2 ص:22 .

33 المرجع نفسه ،ج2 ، ص:24 .

34 انظر، المرجع نفسه ، ج2 ،ص:24 .

35 الموازنات الصوتية ، للعمري، ص: 84 .

36 انظر، المرجع نفسه ، ص:84.

37 البرهان في وجوه البيان، ابن وهب، ص: 52 .

38 البيان العربي ، بدوي أحمد طبانة ، ص:80 .

39 الأثر الأرسطي ، عباس أرحيلة، ص:412.


41 البرهان في وجوه البيان ، ابن وهب، ص:112 .

42 الموازنات الصوتية ، العمري، ص: 85 .

43 البرهان ، ابن وهب، ص:134.

44 انظر ، بنية العقل العربي ، الجابري، ص:37.

45 المرجع نفسه ، ص: 33 .

46 المرجع نفسه ، ص:33 .

47 المصطلح النقدي في كتاب البرهان في وجوه البيان لابن وهب الكاتب ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا ، عبد الحفيظ الهاشمي ، إشراف : الشاهد البوشيخي المملكة المغربية 1990، انظر التشجير في مقدمة المؤلف. الموازنات الصوتية ، العمري،ص73: ، انظر أيضا البيان العربي ، بدوي طبانة ، ص:87 ، الأثر الأرسطي، عباس أرحيلة ، ص: 411 .

48 البيان العربي ، بدوي طبانة ، ص:82 .

49 الأثر الأرسطي ، عباس أرحيلة، ص: 409.

50 انظر ، الأثر الأرسطي ، عباس أرحيلة،ص:418.

51 انظر ، الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية ، العمري، ص:72.

52 البيان العربي ، طه حسين ، في نقد النثر ص31 .

53 البلاغة تطور و تاريخ ، ص96 .

54 الأثر الأرسطي ، ص411

55 بنية العقل العربي ، ص37 .




أ. هندة بوسكين
جامعة الجزائر02 ( الجزائر )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى