وحيد بن بوعزيز - إمبراطورية الهيمنة بالتخييل - الاستعارة العظمى (الجزء الأول)

من هذا الباب سندخل إلى الأدب المقارن عموما وإلى الدراسات الثقافية خاصة وإلى باب التمثلات على الأخص، لقد خصص أصحاب هذا الاختصاص بابا في دراساتهم لهذا المجال حينما اعتبروا بأن صورة الآخر في الدراسات الأدبية عبارة عن تخييل استعاري اعتمدته إرادة القوة والسيطرة وترويض الآخر بواسطة اللغة.


الاستعارة من البويطيقا إلى الأنطولوجيا:

إن من يقوم بإطلالة على المنجز الاستعاري في الثقافة العربية يلاحظ قلة الاهتمام بتلك العلاقة المعقدة والمهمة الموجودة بين الفكر الاستعاري والعقل الإمبريالي. لقد تعودت الذات العربية على ربط المجاز عموما والاستعارة خصوصا بفكر بلاغي تقليدي يدور دائما في فلك التعريف الأرسطو-طاليسي الذي لا يرى في الاستعارة سوى نقل او استبدال كلمة بكلمة أخرى.(1)

حينما نقوم بتتبع أهم المحطات التي اجتازها الخطاب الاستعاري في الفكر الغربي نلاحظ بأن العصور اليونانية والرومانية والقروسطية والنهضوية والأنوارية شكلت مسارا روتينيا لهذا الخطاب، ولكن، مع مجيء القرن التاسع عشر وقعت رجة عنيفة جعلت الدراسات حول الاستعارة تتراجع بل تبشر بموتها. ويرجع السبب في ذلك إلى صعود النزعة العلمية التي راحت تفقأ عين الميتافيزيقا؛ وحينما نتكلم عن الميتافيزيقا فإننا نطرق الدينامو الفكري الخلاق والشرط الأساس الذي تنتعش به الاستعارة عموما.

إن ما يبين هذا التراجع والانكفاء الاستعاري من منظور فلسفي تلك الحملة المسعورة التي شنتها الفلسفة التحليلية على الفكر المجازي؛ لقد وضعت هذه النزعة الفلسفية الوضعية يقيادة مدرسة فيينا والتراث الذي تركه فيتغنشتين التفكير البلاغي عموما والمجال الجمالي ضمن ما تنعته بالمقولات الفارغة، والمقصود بذلك أن اللغة الممتلئة هي اللغة العادية والطبيعية. أما غير ذلك فهي مقولات خاوية على عروشها يحفها الوهم.

لقد تم انتقاد هذه النزعة المعادية للاستعارة من طرف تيارين بارزين، تيار ابيستيمولوجي يقوده الفيلسوف المعروف فيلهايم ديلتاي يرى بأن الخلط بين العلوم التجريبية وعلوم الحياة (العلوم الإنسانية) جعل الوضعيين يقومون بإسقاطات مستمدة من منطق الطبيعة على منطق مغاير في الدرجة وفي الجوهر، لهذا راح يدعو بطريقة مستميتة إلى التفكير في التمايز المعرفي بين علوم تمتح من الانسان المتميز وعلوم تمتح من الطبيعة. لقد كانت هذه الجرأة الفلسفية المنهاجية نقلة في زمن عرف انحسارا ودونية في الفكر الإنساني أمام إمبريالية وسلطة العلوم الصحيحة.

يقود نيتشه وهيدغر التيار الثاني، ويمكن ان نطلق عليه تيار رد الاعتبار لسحر العالم، فمع طغيان وتغلغل العلم إلى الحياة والعالم بصفة عامة، راح هذا العالم يفتقد سحره بسبب المادية التي اكتسحته وانطلت عليه، فهذه المقولة المشهورة لماكس فيبر، ونقصد بذلك مقولة “العالم بدأ يفتقد سحره” دفعت الكثير من الفلاسفة والأدباء إلى التفكير في إعادة العالم إلى سكّته، لهذا اعتقد الكثيرون بأن عودة الأدب والاستعارة بمعنى جديد سيضفيان على هذا العالم المريض معنى وحيوية بعدما كان جوهره الفراغ والخوائية، هذا التيار الأنطولوجي (الوجودي) بدأ يفكر في الاستعارة وفق انطلاقة جديدة، إذ بعدما كانت لا تخرج عن نطاق التفكير الجمالي والبلاغي الحجاجي في التفكير الأرسطي أصبحت الآن تفكر في الأنطولوجيا، تفكر في استرجاع الكينونة الضائعة والمبعدة. أصبحت خطيرة جدا لأنها لا تكتفي فقط بإنتاج أثر ما في المتلقي بل غدت تعيد ترتيب العالم وفق مبدإ الخلق وليس مبدإ المحاكاة.

يعد مارتن هيدغر انبثق تيار قوي جد في مجال التفكير التأويلي على الخصوص، اهتم اهتماما بالغا بالتفكير الاستعاري كمنقذ للكينونة وكمسترجع لليوتوبيا وكمؤثث للعالم. لن نطرق هنا كل الطروحات التي تبنت هذا الأمر ولكن على سبيل المثال نحيل إلى السجال القوي الذي دار بين جاك ديريدا وبول ريكور. ففي سنة 1971 كتب جاك ديريدا مقالا استفزازيا في مجلة Poétique يحمل عنوان: الميثولوجيا البيضاء، الاستعارة في النص الفلسفي، بعد سنة واحدة أعاد نشره ضمن كتابه المهم هوامش الفلسفة. لم يمر هذا المقال دون تعليقات لأنه مس عصبا حساسا تمثل في العودة بالتفكير الاستعاري إلى تخوم الفلسفة التفكيكية والتأويلية. إن هذا المقال استفز الكثيرين لهذا سنلاحظ بأن بول ريكور سيفكر في سنة 1975 طباعة كتاب الاستعارة الحية، ويخصص الفصل الثامن لمناقشة اهم الافكار المبثوثة في ثنايا كتاب ديريدا. لم يتوقف الامر عند هذا الحد بل راح هذا الاخير يكتب نصا آخرا في سنة 1978 بعنوان انسحاب الاستعارة، يناقش فيه اهم الانتقادات التي وجهها ريكور لنصه الأول.

إن هذا التفكير التأويلي الذي راح يعيد للاستعارة حيويتها ونشاطها ضمن مجال مغاير وانطلاقا من غائية أنطولوجية فتح الخطاب الاستعاري على جبهات جديدة عمقت من جوهره وطورت كثيرا الأدوات التفسيرية التي تستغل في مقاربة هذه الظاهرة. ولعل اهم شيء جاءت به هذه التحولات تلك العلاقة الموجودة بين العالم والكينونة. فحينما قال نيتشه كلامه المشهور: ما العالم إلا استعارة، لقد مضى ذلك الزمن الذي كان فيه البشر يؤمنون باللغة أثبت كلامه معظم من جاء بعده، فنحن نبني عالمنا وفق الصور التي نفكر بها، والعالم الذي نعيش فيه سوى مجموعة من التمثلات التي تتصارع فيما بينها.

في مقالة تحمل عنوان الاستعارة والتخييل وهي عبارة عن محاضرة شارك بها بول ريكور في الافتتاح الربيعي بالمؤسسة الفرنسية لعلم النفس التعبيري، بمدينة ليل بين 23-24 ماي 19811، يرصد هذا الفيلسوف خلاصة عشرين سنة من التعامل مع المعطى الاستعاري. يكتشف بأن الاستعارة كانت ضحية تفسير احادي انبنى على مفهوم الصورة Image وليس على مفهوم التخييل Imagination، لهذا نراه يدعو على غرار لاكوف وكثيرين إلى مقاربة الاستعارة وفق مبدإ التفاعل بعدما كانت تقارب وفق مبدإ الاستبدال.

لم ينف ريكور في هذا المقال المهم الدراسات السيميائية والشعرية والأسلوبية التي اعطت بعدا جديدا للتفكير الاستعاري، ويقصد هنا بطبيعة الحال الدراسة التي قام بها جان كوهن في كتابه المهم بنية اللغة الشعرية، فهذا الأخير حاول تفسير نظرية العدول انطلاقا من ثنائية التضام والتنافر وفق مبدإ الحصافة الذي طورته المجالات التداولية.

يؤكد ريكور بأن نظرية كوهن لا يستهان بها في مقاربتها لهذا المنجز ولكن يعتقد بأن الحلقة المفقودة في هذه النظرية هي المقولة التأويلية، لهذا يركز بان التحليل الاستعاري يمكن أن يدرس في ثلاثة مستويات، المستوى الصوري التفاعلي والمستوى الأيقوني والمستوى التخييلي-الإيبوخي؛ وبطبيعة الحال حينما نعود إلى مفهوم الإيبوخا المستمد من الفلسفة الفينومينولوجية التي أسسها إدموند هوسرل سنجد أن المقصود منه الكيفية التي تعلق بها الذات توجهاتها نحو العالم. إن جديد ريكور في هذا المقال يكمن في فهمه للاستعارة كتخييل فينومينولوجي يسعى إلى تعليق العالم. هذا المفهوم المتعالي جر ريكور إلى الاعتقاد بأن الاستعارة تعيد بناء العالم وتوزعه وفق تفاعلات الذات مع العالم الذي تتوجه إليه. يقول في هذا الصدد: ولأن مسألة الدلالة في حالة الاستعارة من منظور الإحالات، لا تعد سوى حالة خاصة من مسألة عامة تطال حقيقة وطموحات اللغة الشعرية… فكما بين نيلسون غودمان كل الأنظمة الرمزية تحتوي على دلالة استيضاعية في الحالة التي تصنع وتحطم وتعيد صناعة الواقع. أن نتساءل إذن، عن القيمة الإحالية في اللغة الشعرية يعنى بطريقة ما تبيين الطريقة التي تعيد بواسطتها الأنساق الرمزية تنظيم العالم لصالح الأعمال الأدبية وتنظيم الأعمال الأدبية لصالح العالم. في هذه الحالة تروم نظرية الاستعارة اللحاق بالنماذج العلمية، في الحالة التي نتصور فيها الاستعارة كنموذج لتغيير نظرتنا نحو الأشياء وإدراكنا للعالم.(2) لقد تبين لنا مع بول ريكور بأن الاستعارة تصنع العالم، بل يمكن أن تعد وسيطا تأويليا بيننا وبين العالم، لأننا كما ذهب لاكوف نعيش بها.

على الرغم من أن ريكور بين هذا الطابع التخييلي الانطولوجي في الاستعارة إلا أنه لم يشر إلى الأبعاد السياسية، فالاستعارة يمكن أن تكون أداة للهيمنة على الآخر وللسيطرة عليه. لهذا سنعود إلى ميشيل فوكو الذي يعتقد دائما بأن مفهوم الخطاب، بما فيه الخطاب الاستعاري يستغل للسيطرة وللرقابة وللإلغاء وللحصر.

من هذا الباب سندخل إلى الأدب المقارن عموما وإلى الدراسات الثقافية خاصة وإلى باب التمثلات على الأخص، لقد خصص أصحاب هذا الاختصاص بابا في دراساتهم لهذا المجال حينما اعتبروا بأن صورة الآخر في الدراسات الأدبية عبارة عن تخييل استعاري اعتمدته إرادة القوة والسيطرة وترويض الآخر بواسطة اللغة.


الهوامش:

· Aristote, Poétique, 1457 b 6-9, traduction, française J. Hardy, ed. des Belles Lettres, 1969.

· Paul Ricoeur, Metaphore et imagination, texte publié en 1982 dans la revue Psychologie Médicale ,14

· عبد الوهاب المسيري، اللغة والمجاز، بين التوحيد ووحدة الوجود، دار الشروق، ط 2، القاهرة، 2006، ص 89.

· يوري رام، من الدولة القومية إلى دولة بدون أمة، صراعات الأمة والتاريخ والهوية في إسرائيل اليهودية، ضمن كتاب جماعي بعنوان: تحديات مابعد الصهيونية، تر/ أحمد ثابث، المركز القومي للترجمة، ط 1، 2005، صص 42/43.

نقلاً عن "هوامش"

5 يوليو، 2016


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية - جامعة الجزائر 2

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى