أحمد ندا - بابا

كنتُ أخجل من كلمة "بابا"، خاصة لمن تربى في الخليج، حيث ميل اللهجة المصرية للترقيق مثار سخرية الجميع. كنت أراوغها بكلمات من قبيل "والدي" أو "يا حاج"، تندّر هربت به من حرج المفردة وتصوّري المُقحم عنها، إنها للأطفال وليّني التفكير.. حتى أيقنت بفصاحتها. قال الشاعر ابن الوردي (691 - 749هـ) عمر بن مظفر:

أيا دادا حكت صِدغاكَ واوا ** فما أحلى ثناياكَ العذابا

لقد صدتْكَ أمُّكَ عن رضانا ** فيا ماما دعي للصلح بابا

قال الجاحظ في البيان والتبيين: "والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال، كقولهم: ماما بابا، لأنهما خارجان من عمل اللسان، وإنما يظهران بالتقاء الشفتين".

لا حرج إذن ولا ادعاء فصاحة، لكن القوة الاجتماعية للتأويل أكبر من إيماني بفصاحتها. ألا تكره النِسويات كلمة "النسوان" ويعتبرنها مفردة معيبة؟ سأبقى مختبئا وراء خجلي منها.

**

شهران مضيا على غيابه، وعام على مرضه الأخير. تنازعتني مشاعر متناقضة، بين غضبٍ مستعرٍ منه لأن صورته الجبارة في ذهني انهارت، من ذلك الهزيل المريض الواهن؟ ثم ما هذا الجسد المغمض المستسلم لأيدي المغسِّلين؟ وأسف على ما آل إليه، الزمن عنيف وقادر على تقويض كل شيء حتى الأفكار، حتى الصور الذهنية التي نحملها للآخرين.

في مسرحية هاملت، ينادي –في أحد مونولوجاته- "لم أرد لأبي أن يكون أبي، ولا أن يحب أبي أمي"، أظن أنها من المسرحية، بحثت عن ذلك المقطع في جميع نسخها ولم أجدها. قلتُ ربما هو تصوري لكلام هاملت. قلتُ ربما تقمصت هاملت حتى اختلط كلامي بكلامه. وكأن أبي قد تسلل إلى تصور ذهني، زال مع انتفاء وجود الاقتباس في المسرحية.

تلك الهيبة، وذلك الجبروت، وهذا الصوت الهادر الذي طالما أرعبني وألجمني، كيف صار إلى ما صار إليه من شكوى مرض وبكاء، قبل أن يصمت مرة وللأبد؟

**

عشتُ عُمرا ألوك عبارة "قتل الأب" بيقين سلفيٍّ لا يتزعزع، قتل الأب الأدبي، الأب الروحي، أقولها وفي رأسي صورة أبي البيولوجي مقطوعة، أنادي بقتل الأب كأنني أنتقم من تجبره على كل شاكلة ممكنة.

في التحليل النفسي كان مصطلح "قتل الأب" للمرة الأولى، يقول فرويد في "الطوطم والتابو" إذا كان الحيوان الطوطم هو الأب، فإن الوصيتين الرئيسيتين للطوطمية، الأمرين التابويين اللذين يؤلفان جوهرهما، هما عدم قتل الطوطم وعدم الاستخدام الجنسي للنساء اللواتي ينتمين إلى هذا الطوطم؛ تتطابقان في المضمون مع جرمي أوديب الذي قتل أباه واتخذ من أمه زوجة، كما تتطابقان مع الرغبتين الأصليتين للطفل اللتين تشكلان لعدم كبتهما كفاية أو لاستفاقتهما نواة ربما لجميع العصابات النفسية".

الأب/الطوطم، هو مثال يحتذى، قبل أن يكون معرضا للقتل "يعتبر الحيوان الطوطم حيوان سلف ونسب للجماعة المعنية". إن قتل الأب يعتبر هو أساس فكرة الطوطم، فهو الفكرة الأساس في المسيحية، حيث الأب/ الطوطم قتل على يد أبنائه. "نحن نعلم أن ثمة صلات متشبعة ما بين الإله والحيوان المقدس (الطوطم، حيوان التضحية) لذلك من الطبيعي الافتراض أن الإله نفسه هو الحيوان الطوطم، إنه تطور في مرحلة متأخرة، فلعل الطوطم هو الشكل الأول لبديل الأب، والإله هو الشكل المتأخر الذي استعاد فيه الأب من جديد هيئته البشرية".

وبعيدا عن التفسيرات الفرويدية العنيفة، لفكرة الدين والعلاقات الإنسانية، أليس الأب هو التجسيد المتكرر لفكرة الإله، هو صاحب السلطات جميعها: الدينية واليومية والسياسية والاقتصادية. أليست فكرة "الهيبة" هي بنت ذلك التراكم؟

أعرف أنني كرهت أبي لفترات طويلة، أو هكذا ظننت، فعل الكراهية أشق كثيرا من كتابته، لكن لنقل كرهته، كرهت رمزيته التي تجاوزت معناها إلى ما هو أبعد، الأب السلطان، والأب الشيخ، والأب المخضرم، والأب الناقد.

ديستويفسكي، انتقم من أبيه، وطلب مسامحته في كل رواياته تقريبا، لكن أكثرها وضوحا في روايته الأشهر "الإخوة كارامازوف" فيودور كارامازوف الأب بصلفه وتصابيه وقسوته، في مقابل ابنه "إيفان المثقف المضطرب هو أيضا في علاقته بأبيه. ربما هي الحالة التي استرعت انتباه فرويد، هي ما حفزته للحديث عن "الشعور بالذنب" تجاه الأب..

فإذا أردنا أن نجمل، قلنا إن العلاقة بين الشخص وبين الأب كوجود، قد تحولت- مع احتفاظها بمحتواها- إلى علاقة بين الأنا والأنا العليا؛ أي إلى إخراج جديد على مسرح جديد. مشيرين إلى أن ردود الأفعال الطفولية هذه، والناجمة عن عقدة أوديب، قد تختفي إذا لم يمدها الواقع بأي عنصر جديد. لكن شخصية الأب تبقى هي نفسها، لا بل إنها تتدهور مع مر السنين، ما يبقي على حالها كراهية دستويفسكي الشديدة لأبيه ورغبة الموت الموجهة ضد هذا الأب السيئ. لكن من الخطير أن يحقق الواقع مثل هذه الرغبات المكبوتة. لقد أصبح الخيال واقعًا وتدعمت جميع الوسائل الدفاعية. وبالتالي، اتخذت نوبات دستويفسكي ذلك الطابع الصرعي؛ فهي ما زالت تحمل نفس معنى التماهي مع شخص الأب كشكل من أشكال العقاب، لكنها أصبحت مريعة كالموت المخيف لأبيه نفسه. أيُّ مضمون أضيف إليها من ثم، خاصة أيّ مضمون الجنسي؟ هذا يستعصي على التخمين.

**

"في صباي، عندما تأكدت ملامح مشيتي، قالوا لي إن مشيتي تشبه مشية أبي، فهو يميل بصدره قليلا إلى الأمام، كأن صدره يقود حركته كلها.

وفي شبابي، صرت أحاول - في مشيتي - أن أمنع صدري من الانكباب مزيدا إلى الأمام، لأن ذلك كان يقارب انحناءة الشيخوخة لدى أبي.

الآن، أدرك أنني أمشي محنيا باطراد، ولا أحاول مقاومة ذلك، لأنني أوغل في عمر الحكمة، وأسلم بأنني لست إلا أبي، مثلما كان أبي هو جدي.

ما نحن إلا الشخص نفسه، الطيف الذي يتجلى ثم يشف ثم يتلاشى، ثم يعود إلى التجلي من جديد.

هذا أمر محزن إن فكرنا فيه بأنانية. أما التسامح، فإنه يمنحنا نافذة واسعة بلا حدود، لنطل على جمال لا حدود له".

هذه القصة البديعة لمحمد المخزنجي، أرعبتني، خاصة أنها أخذت وقتا طويلا بالتفكير في معناها، أنا صوتي مثل أبي، طريقة عصبيتنا واحدة، تفاصيل صغيرة لا يعرفها غيري. التشابه الكبير في الصفات والطباع، رغم الاختلاف الجذري في التفكير بيني وبينه، ربما هو ما جعل صدامنا مروعا وعنيفا.

لذلك تفهمت جيدا لم كان خلق "البطل الخارق" في عالم الكوميكس "السوبرهيروز" أيتاما، غياب "نموذج" وسلطة ضبطية، وبالتالي يغيب الصراع الاجتماعي بشكله الأسري ويأخذ منحى فانتازيا: قناع ومحاولة فردية لتحقيق العدالة. صعب جدا تواجد بطل خارق مع سلطة أبوية يعيش معها في حالة جدلية مستمرة، لكن من الممكن الاحتفاظ بالصورة الطفولية للأب بكل ما فيها من مثالية وقدرات "خارقة" على الحماية يعوضها البطل مستقبلا.

البطولة الحقيقية للأبطال الخارقين في الانفصال عن البنية الأسرية، لا القناع والقدرات الاستثنائية.

**

لم أبكِ على أبي، بل كببت عليه الشتائم في سري، كيف يذهب قبل أن أصفي حساباتي معه؟ ولماذا أصابني هذا الخرس بعد ذهابه، لن أقول موته. أريد إعادة اختراع أبي، دون طوطم، دون حسابات فرويدية ثقيلة، أريد فقط أن أقرأ عليه قصيدة:

كنتُ أودُّ أن أراكَ
بكامل جبروتك،
ولم أكن أعلم ذلك عن نفسي.
تأوهاتك،
جسدك الذي انكمش
كثمرة جافة
صرت أخاف أن أفتتها
بينما أحيطها بقبضتي
لأحميها من الغبار.
متى نبت خوفي عليك؟
أثير غضبك
لا لشيء
إلا أن أحييَ بعضك
فربما أنت مختبئ
في مكان ما داخلك
تريد أن تقتنص الفرصة
كي تطلق سلطتك علي.
وجهك هو الذي حفزني
ألا أقول لك شيئا مما سبق
يدك استعادت صفعتها
فانهارت مشاعري
دفعة واحدة
مثل بيت من المكعبات.
أنت لم تعد أنت
وأنا ممدد على الأرض
جنب سريرك
أراقب قطرات البول
وهي تنقط
في كيس بلاستيكي شفاف.
وأقول ربما كل ما نحن فيه
هلوسة
سوف تفيقني منها
بركلة وسبة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى