محمد سهيل أحمد - آخر الشرفات

كنت سألقى الشيخ في مكانه اليومي المعتاد إزاء النهر. لكنني اليوم حثثت خطاي مسرعًا إليه. كنت أريد أن أراه.. قبل فوات الأوان!

بدا البيت أمامي، على مبعدة عشرين أو ثلاثين مترًا، أشبه بسلحفاة غادرت لتوها ضفة نهر. لم أنشغل، مثل كل مرة، بتأمل شناشيل الأمس، جدرانه المتداعية، بل هرعت إلى الداخل مرددًا:

ـــ هل من أحد هناك؟

رددت الغرف الخاوية الأصداء!

فكرت.. ''ليس سوى مكانه اليومي.. لا بد أنه هناك.. حسبما يرغب''.

خرجتُ بلا تردد إلى الشرفة لأجده هناك.. كان يقتعد كرسيًا متآكل الذراعين.. وقد اعتمر بذلته الأثيرة إلى قلبه، بذلة البحارة البيضاء بنياشينها ونجومها وأزرارها الصدئة.. كان مستغرقًا في النوم.

دنوت منه وأنا بين الريبة واليقين.. أتكون زيارة متأخرة؟!

أمعنت النظر الى وجهه. تناوشه الهزال حتى ضمر الجسد برمته وانمصّ الوجه مثل ليمونة. أطلت التحديق في رأسه، مثبتًا بصري على الوجه الذي بدا بحجم قطعة نقدية. خيل إليّ أن كائنًا غير مرئي كان يقف عند رأس الشيخ كيما ينفذ المهمة الموكلة إليه. كلاَّ.. لعله ليس نحاتًا بل فنان تشكيلي دأب على زيارة الرجل الطاعن في السن من أجل أن يعده لمعرض ما آت لا محالة..

لقد أدى الرسام مهمته ببراعة بحيث يفقد الرأس وظيفته ككرة ملأى بالأفكار ليستحيل إلى صندوق دائري يحاكي شكل جمجمة. لقد كان وجه جدي في تلك اللحظة أقرب ما يكون معدًا للحظة مباغتة قادمة.. كان أقرب في الشكل واللون الى وجوه المسافرين!

انبعث صفير مركب عملاق..

كان من الواضح أن خطوط الوجه قد تم تحديدها برشاقة إزميل خفي لتمنح إيحاء بولوج عالم بعيد. في لحظات حسبت الشيخ قد رحل حقًا وإن ما أبصره أمامي ليس سوى هيكل متهالك لملاح جاب ألف بحر وبحر..

فتح العجوز عينيه. أسرع الى عصاه قابضًا عليها ملوحًا بها ذات اليمين وذات الشمال مدمدمًا:

ـــ لصوص.. لستم سوى لصوص ميراث..!

أفلحت في القبض على عصاه وإيقاف تلويحاته العشوائية:

ـــ أنا حسين.. يا جدي..

ــــ حسين؟

ــــ حفيدك..

ــــ أوه.. حسبتك واحدًا منهم..

ــــ من هم؟

ــــ ما من مرة قدموا إليّ إلا وتشاجروا حول البيت وجرار الليرات التي يحسبون أنني دفنتها في الحديقة.. إنهم لا يعلمون أنني لا أملك سوى هذا البيت الهرم المتداعي.. حتى أنت أيها الصبي لم تعد تزورني.. أولم تلاحظ أن البيت بلا أثاث؟

ــــ بلى..

ــــ لقد نتفوني.. ريشة إثر ريشة..

ــــ أنا هنا.. عسى ألا أكون قد تأخرت عليك..

ــــ كان من الخطأ أن ابتاع بيتاً..

أشار إلى أقصى الجنوب:

ــــ بيتي هو البحر! انهضني..

بذلت جهدًا وأنا أشد بدنه الثقيل إليّ. طلب مني أن أذهب إلى غرفة السطح وآتيه من مخبأ دلني عليه بصندوق أسراره الذي طالما أثار فضولي منذ بواكير الصغر..

ارتقيت السلالم المفضية للسطح. وجدت الصندوق، لحسن الحظ، عدت به إليه.. رفع غطاءه الجوزي المغبر في بطء شديد.. أخرج منه بوصلة ومسبحات وقواقع:

ــــ خذ الصندوق.. خذه إليك.. إذا أزحت غطاءه ستجد في أسفله حزمة من الأوراق، ستمنحك الكثير من الأسرار عن البحر وعني..

تناولت جسيماً غريب الشكل:

ــــ ما هذا؟

ــــ الأبلوني أو صفيلح البحر.. إنه كائن بحري كان منتشرًا في الخليج باتجاه (مسقط) وصور.. غير أنه في السنوات الأخيرة مال إلى الانقراض.. هو في الأصل كائن رخوي، كل نشاطاته تبدأ مع حلول الظلام.. إن الصندوق يضم غرائب أخرى لا أشك أنها ستعجبك.. سأريك شيئًا آخر أغرب وأكثر بلاغة..

التقط من قاع الصندوق صدفة بيضاء رخوية بيضوية الشكل:

ــــ لتكن معك على الدوام..

ــــ هل تجلب الحظ؟

ــــ ربما، لكن الحكمة بالتأكيد..

ــــ كيف؟

ــــ بإمكانك إذا ما وضعتها على أذنك أن تسمع هدير البحر.. سيتسنى لك أن تسمع همسات أدق المخلوقات في أبعد الأعماق غورًا.. لكن لا تفعل ذلك الآن، ينبغي أن تكون لوحدك.. أنت والقوقعة ولا ثالث بينكما!

صرتُ أُكثر من زيارته فأعثر عليه راقدًا أو منهمكًا في تأمل النهر بمنظار تجلطت عليه عروق ملح. اعتاد أن ينهض في الصباح الباكر، يفطر سمكًا، يستحم، ثم يقتعد الكرسي، في كامل لياقته، بلحيته البيضاء ووجهه الناحل وعينيه التي لم ينطفئ بريقهما. وفي أحيان قليلة يحلو له أن يرتدي جلبابًا من القطن أبيض شفافًا..

ذات أصيل مشبع بزفرة الضفاف جلست بالقرب منه. كان ذاهلًا يتأمل النهر في صمت:

ــــ هل تريد المنظار يا جدي؟

ـــ أسكت أيها الفتى.. لم تعد المناظير تجدي نفعًا.. أما بصري فقد كلّ حتى لم أعد أبصر جيدًا.. ما زلت أبصر ما لا يبصره الآخرون..

ــــ ماذا؟

ــــ مركبًا بحجم بلدة.. لعله التيتانيك.. هل سمعت بالتيتانيك؟

ــــ شاهدت فيلماً عنه..

ــــ إنني أبصره جيداً.. إنه يتهاوى باتجاه الأعماق القصية، تتقافز من سطحه مئات الهياكل البشرية..

ثم جعل يردد:

ــــ المركب يغرق! إن المركب يغرق! أسمع ما لا تسمعه أنت.. عزفًا منفردًا من أوتار كمان. أبصر بقعًا من الزيت تلطخ مرايا البحر.. كنت فيما مضى أستيقظ من حلم متكرر: تقذف بي أمواج عاتية إلى ساحل مهجور.. أزيل ما علق بجسدي من عوالق وأشنات ورمال لأكتشف بقايا من مذاق البحر على طرف لساني.. ليس الملح بل المرارة..

كان الشيخ لا يفتأ يوصيني كلما زرته:

ـــ لا تنسى القوقعة!

انتبهت ذات يوم إلى أن الشرفة التي اتخذ منها الشيخ إطلالته على النهر الكبير كانت تنزلق بتؤدة.. إلى أسفل حيث أول الماء.. كانت المياه تعانقها من جميع الجهات، كما لو كان النهر يبسط أذرعًا أخطبوطية كيما يطوق بها الشرفة.. يومًا إثر يوم جعلت الشرفة تتهاوى الى أسفل.. بدأ الأمر على نحو غير ملحوظ ثم أدركه الشيخ لأنه أطلعني على ذلك الانزلاق فأخبرته بأنني قد لاحظت ذلك حتى قبل أن يطلعني على السر، بيد أنه طلب مني ألا أخبر أحدًا بذلك!

لم ينقطع يومًا عن التحديق إلى عرض النهر.. الى الضفة الأخرى التي استطالت مساحة الأفق فيها بعد أن تهاوت الملايين من أشجار النخيل.

كانت ضفة قرعاء!

كان يستخدم المنظار وفي مرات كان يستخدم عينين كليلتين وغالبًا ما تأملها بقلبه..

ذات غروب وصلت إليه متأخرًا.. دلفت إلى الداخل مسرعًا إلى حيث الشرفة وفي داخلي إحساس مبهم كئيب:

ــــ أيها الشيخ..

لم أجد جدي ولا الشرفة لكن خيل إليّ وأنا أحدق في أعماق النهر، أن الشرفة والشيخ قد التحم أحدهما بالآخر فانزلقا معًا إلى أسفل، منفصلين عن البيت.. باتجاه الأعماق حيث الجيد والأجود والرديء والأردأ..

همست مرددًا:

ــــ إنه الانطفاء الأخير.. إنها آخر الشرفات!


*قاص من العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى