عمار علي حسن - غرفة تهزها الريح

في الرشفة الثالثة من كوب الشاي الساخن اقتحمت أذني كلمته الجارحة. التفت فوجدت فمه مفتوحا عن آخره, وسبابته ممدودة الي الأمام, ومقلتيه ثابتتين في تحد, يكاد أن يتطاير منهما شرر, وقبالة ناظريه ترقد مساحة صامتة من الفراغ. كان واقفا فجلس, وسحب نفسا من الشيشة تاركا الدخان يخرج من منخريه,
ثم أناخ رأسه علي مسند الكرسي الخشبي المتهالك, ولاذ بسكوت, مغمض العينين, فعدت أنا الي كوب الشاي, وشفطت الرشفة الرابعة.
عند الرشفة السابعة, كان بخار الشاي قد استكان في البرودة التي زحفت علي الكوب من غيمة السماء وظل الشجرة العجوز, وكان دخان شيشته قد خمد بعد أن توقفت القرقرة, لكن شخيره ارتفع وخالط زقزقة العصافير.
مرت ساعة تقريبا أثناءها مر النادل وسحب خرطوم الشيشة من يده, ثم رفعها, وألقي عليه نظرة شاملة, ومصمص شفتيه, وقال:
الله يخرب بيت الستات.
وحين فتح عينيه تلفت حوله وراح يضع مقلتيه في وجه كل واحد من الجالسين ويتفرسه مليا, ثم مد يده في جيبه, وأخرج ورقة متهالكة متآكلة الأطراف, وراح يقرأ منها بصوت هامس. رميت أذني إلي فمه, فتبينت بعض كلمات متقطة تشي بأنها شعر أو نثر بليغ, ولما انتهي طواها علي هيئتها ودسها في جيبه, ثم نادي بصوت زاعق:
شاي وحجر معسل سلوم.
عادل الي الرشف والسحب البطيء وهو يهش غيمة دخان كثيفة تحوم علي رأسه. وفجأة انفجر بردح وصراخ, وهو يعنف امرأة غير موجودة امامه. ثم خلع حذاءه وراح يضرب الهواء, ويجز علي أسنانه فتخرج كلماته محاصرة حبيسة ويقول:
لازم أربيك أنت وعيالك يا....
ورأي النادل الحيرة في عيني فهمس في أذني: امرأته جننته, خلعته وخطفت العيال وهاجرت, وقبلها سرقت أمواله.
ولما تهالك مكانه وكاد أن يسقط مغشيا عليه, قمت إليه أسند كتفيه, وأثبت جسده علي الكرسي, لكنه فرد طوله, ثم قال في انكسار:
عاوزك توصلني البيت.
وسري خوف مباغت في أوصالي, ونظرت الي النادل أستنجد به, فتنحنح واقترب مني وقال مبتسما: لاتخف, هو رجل مسالم, حين يتعب يطلب منا أن نذهب معه, وكثيرون هنا رافقوه الي المنزل, وأحسن ضيافتهم.
وتأبطته ورحنا نمشي علي مهل وهو صامت إلا من أنات متقطعة تذوب في أبواق السيارات وضجيج المارة ونداء الباعة الجائلين. وأمام مقر جريدة المصري اليوم وعلي الرصيف المحاذي لحديقة دارالعلوم توقف, وحملق في عيني الي درجة ارتجف لها قلبي, ثم مد يده في جيبه, وأخرج الورقة وقال آمرا: اقرأ
وجرت الحروف علي لساني في صمت فصرخ في وجهي: بصوت عالي, عاوز الدنيا كلها تسمع. كانت قصيدة شعر بعنوان الخائنة أطلت من أبياتها غير الموزونة ملامح إمرأة متجبرة وعيال ضعاف وأب مغلوب علي أمره. فلما انتهيت مد يده الي ذقني ورفعها حتي حلت عيناي في عينيه وقال:
حابسها في البيت هي وعيالها. مالوا إليها فقلت كلاب أولاد.......
لذت بصمت طويل فصرخ في:
مارأيك؟
فقلت له دون تفكير: الجزاء من جنس العمل.
فسرت راحة في ملامحه, فانبسطت بعد انقباضها الذي طال, وقال:
أنت رجل عادل, ولذا ستكون الوحيد في هذا العالم الذي سأسمح له برؤية الخائنة وعيالها الأشرار.
وانعطف بي في شارع الموادي وسار حتي اصطدمنا بسور مترو الأنفاق بين محطتي السيدة زينب وسعد زغول, ثم انكسرنا يسارا, وعند باب بيت قديم تهالكت جدرانه وقف, وقال:
كان بيتي وسرقته الخائنة وباعته بيعا صوريا للسمسار, ولم تترك لي سوي حجرة فوق السطوح, تضربها الريح فتهتز وأخاف أن تطير.
ثم صمت برهة وعاد يقول:
أتمني أن تخلعها العاصفة وتلقي بها أمام عجلات المترو, فتموت الخائنة هي وعيالها المتواطئين.
وصمت مرة أخري ثم قال بصوت مبحوح:
الأفضل أن تموت في قيودها من الجوع والعطش, ويموت معها صغارها الجاحدين.
وفكرت أن ابتعد عنه قليلا وأهاتف النجدة لتأتي فتنقذ المرأة وأولادها, لكنه سحبني بشدة رجت جسدي فإنزلق داخل عتبة البيت الذي بدأ مهجورا, وأقتحمني هلع وحيرة, وفكرت في أن أصحب يدي لكنه كان قد أطبق كوعه علي كوعي.
انتبه لترددي فقال مشجعا:
تعالي, درجات السلم سليمة, والدنيا نور.
وماءت قطة فمرق فأر مذعور من بين أرجلنا, وعوي كلب راقد بجوار السور وزعق بوق سيارة وصرخت سيدة في البناية المجاورة في وجه بنتها التي كانت تدلي رأسها من النافذة وسحبتها بعنف إلي الداخل, فقلت له مبتسما, وأنا أحاول أن أصحب ذراعي بلطف:
دقيقة واحدة, هأشتري علبة سجائر.
نظر إلي برهة, ثم خلق ذراعي, فسحبته وسرت متباطئا حتي ابتعدت عنه قليلا, ونظرت إلي الخلف فوجدته قد استدار ناحيتي, ولما بدا عليه أنه من الممكن أن يجري خلفي إن شعر بأنني أفر منه, توقفت بالفعل أمام كشك السجائر, وكان صاحبه قد رآني منذ قليل متأبطا ذراع الرجل, الذي نسيت أن أسأله عن اسمه, فقال لي مبتسما:
يسكن سطح بيت مهجور آيل للسقوط, ويتخيل أنه متزوج ولديه أولاد يحبسهم وأمهم الخائنة, ولا ينوي أبدا أن يفرج عنهم, أو يترك غرفته التي تهزها الريح.


عمار علي حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى