ساري موسى - ربّما أنا، ربّما المكان، ربّما أنتِ

ستّي:
كيف عليَّ أن أسلِّم عليك؟ هل عندكم صباح ومساء فوق؟ هل عندكم أوقات؟
أكتب إليك بخجلٍ يا ستّي. أسباب خجلي عديدة، فمثلاً أنا لا أكتب إليكِ الآن مدفوعاً من ذاتي، من اشتياقي أو حزني أو حبي، وهي كلها دوافع موجودة، وإن لم تكن بالقوة التي أرغب، إنّما أكتب إليكِ مدفوعاً بسؤال طرحوه عليَّ، ليس بإمكاني أن أحمله وأذهب به إليك لنتناقش في إجابته، فقلتُ أحكيه لكِ هكذا.
يسألون سؤالاً صعباً: لماذا تكتب؟
أول ما خطر في بالي هو الاعتذار عن الإجابة. أنا لا أعرف ماذا أكتب، أو لماذا أكتب. ما زلتُ في عالم الكتابة أصغر من حفيدك الصغير الذي حملته بين يديكِ أول مرة، وهذا السؤال جعل كبار الكُتّاب يقلبون شفاههم، أو يقدمون إجابات متلعثمة وغير مقنعة. بورخيس كان يغضب من سؤال لماذا نقرأ الأدب، فكيف بسؤال لماذا نكتب؟ لكنّي، من بين إجابات الكُتّاب، أميل إلى جورج أورويل: إنّه «حبّ الذّات الصّرف». الدافع الأساس في أيّ عمل نقوم به هو ذاتي بالدرجة الأولى. قد يكون تحقيقاً لما لا نستطيع تحقيقه بطريقة أخرى، لملء وحدتنا، لإعطاء معنى لبطالتنا، لإغناء حياتنا الفقيرة والضيقة بحيوات بطوليّة ومثيرة وسعيدة، أو بحيوات أكثر حزناً ووحدة لنواسي بهذا أنفسنا. قد تكون وسيلة للذهاب إلى أماكن لا يمكننا التواجد فيها، السفر إلى أزمنة لا تنقلنا إليها إلّا آلة جورج ويلز الزمنيّة، اختراع أشخاص لم نعثر عليهم في حياتنا وتبادل الحوارات معهم، أو إكمال أحاديث لم تكتمل مع أصدقاء رحلوا، كما أفعل معك الآن.
لن أخجل من القول إن المال حضر إلى ذهني من ضمن الإجابات. هو يحضر عندما أكتب بعض القطع وأرسلها دون قناعة كبيرة بجماليتها أو جودتها، وإنّما فقط من أجل بدلها الماديّ، وهذا أحد الدوافع الذاتيّة. ليست ثروات طائلة كما تعلمين، لكنّها تؤمن لي مصروفي بسبب فرق العملة، وهو ما سأفتقده بدءاً من الأسبوع القادم لأن الجريدة ستتوقف عن الصدور.
أتذكّر ما يمكن أن أعتبره البداية، الفترة التي أخذت أكتب فيها بانقطاعات ليست طويلة، وأقرأ معظم الوقت. يجب أن أذكر أن للمكان الذي أتواجد فيه، وللظروف التي يمر بها، دوراً ليس ثانوياً. لو كنتُ في بلد آخر لربّما كنت الآن لاعب كرة قدم، أو مزارعاً، أو كاتباً. لو كنتُ في بلد آخر على الجهة المعاكسة من سلّم التقدّم لكنتُ الآن، بكل تأكيد، عظاماً تحت التراب. لكنّني هنا، لذا رحت أتنقّل وحيداً بين الأحلام الصعبة التحقيق، تتقاذفني الاحتمالات، إلى أن وجدت نفسي في مواجهة كل ما يجري أحاول أن أصرخ بدون ضجيج، بالكلمات المكتوبة. لأحتجّ، أو أبكي، أو أهرب، أو أدفن رأسي في رمال بعيدة.
أعود إليكِ. السبب الرئيسي لخجلي منكِ، وعدم الكتابة إليكِ طيلة الثمانية أشهر ونصف الشهر لغيابك، هو أن المحاولة الكتابيّة التي جعلتني أغيب عن زيارتكِ في أسابيعك الأخيرة والاستماع إلى مزيد من حكاياتك، والتي كنت سأفاجئكِ بها وأهديها لك، ثم لروحك بعد مفاجأة ما جرى، لم تكن موفّقة. إلى هذه الدرجة أنا مقصّر بحقكِ يا ستّي، فسامحيني. لم تكن هديتي الأولى بمستوى هداياك الكثيرة، التي رويتها لي على مدى السنوات، وبكثرةٍ في الشهرين الأخيرين، اللذين أدركتُ خلالهما أنّك صاحبة الفضل عليَّ، خاصّة إن ضمّنت قصّتي قصصاً صغيرة، وربطتُ بين فكرتين ربطاً سلساً.
ما رأيكِ أنت؟ لماذا نكتب؟ لماذا تحكين؟ لماذا تحكي الجدات الحكايات؟ ولماذا نكتب نحن فيما تكتفين أنتنَّ بالحكي؟
تعالي إليَّ، في المنام مثلاً، حاملة معك الجواب لتحكيه لي، لأسمع صوتك من جديد.
لم أكن أريد أن أقول هذا أيضاً، لكنّك صديقتي التي لا أخفي عنها شيئاً. لم أنجح في إعادتك إلى الحياة. لم تنجح محاولتي في كتابة عمل يليق بكل ما عشته في حياتك الحافلة بالعذابات والصبر والدموع والكلام المباشر مع الله، وجهاً لوجه، حتى الليلة الأخيرة التي نظرت فيها إلى الأيقونة وقلت له فيها «خِدني لَعندكْ». لم تطلع معي إلّا قصة قصيرة ليس فيها شيء من التخييل، ألّفتها أنتِ باستجابة من الله، واكتفيتُ بنقلها إلى الورق.
سامحيني على هذا التقصير كلّه يا ستّي. بانتظار مجيئك وإجابتك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى