عدي الزعبي - المتنبي في الفسطاط

"أراد الله أن يعيش وحيداً ويموت وحيداً ذلك الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس."
طه حسين. "مع المتنبي"


" الله يعلم ما تركي زيارتكم = إلا مخافة أعدائي وحرّاسي"

يبتسم أحمد جالساً وحده في عتمة ركن غير مرئي تقريباً. الرجل الذي يعشق الشهرة يتخفّى في لياليه بعيداً عن الأعين. تعيد المغنية البيت ثانيةً. تطيل في الشطر الأول؛ تترنّم ببحة حزينة تأسر السامعين.

مذاق الخمر حامض قليلاً، يرتشفه على مهل. لا يشرب أبو الطيب كثيراً، عادةً ما ينادم الناس في المناسبات فقط.

" ما لي وللناس يلحونني سفهاً؟"

يغمض أحمد عينيه ويتشرّب صوتها البديع. لم يكن معجباً بشعر أبي نواس كثيراً، ولكنّ للقصيدة اليوم معنى مختلفاً. هل صوت الجارية ما يحرّك فيه كل هذا الحزن الدفين؟

"إني عشقت وهل في العشق من باس؟"

تتلاعب بمهارة بترتيب الأبيات والأشطر. تعزف وحدها على الطنبور. يسود صمت لدقيقة أو نحوها، ثم تأتي موسيقا الأوتار بطيئة، هادئة، متمكّنة؛ تدعو أحمد إلى التأمل في ما يخشاه.

تأتي جارية ببعض العنب.

تهمس، "ما مرّ شيء مثل العشق على راسي. عاشق يا هذا؟"

"لا والله، لم أعشق يوماً!"

تضحك، "من منا لم يعشق؟"

يأكل حبة عنب، ويعطيها حبة.

"هل عشقتِ يوماً؟"

" أجل، مرات ومرات".

"وأين المعشوق؟"

"قُتل الأخير في معركة الإخشيد في دمشق".

تكرر المغنية، "وهل في العشق من باس؟"

"للمغنية صوت بديع".

"أجل، من أشهر مغنيات الفسطاط. للأسف، لا تغني إلا مرة في الأسبوع".

"لماذا؟"

"تعاني من داء غريب. صحتها دوماً سيئة".

تكرّر مرات، "وهل في العشق من باس؟"

تقترب الجارية منه، تضع يدها على يده، "ما لك لا تشرب؟"

"لا أشرب كثيراً".

"لعمري إنك لرجل مختلف عن الرجال هنا".

تبتسم بتحبب.

تقترب أكثر، يلامس صدرها ذراعه.

"لا تعشق ولا تشرب؟ ماذا تفعل إذن؟"

ابتسامتها ساحرة. يمسح على شعرها ببطء، تتمطّى كقطة.

تعيد المغنية بأسى، "ما للعداة يلحونني سفهاً؟"

"أريد العيش في مدينة لا عداة فيها، وأريد ما لا يُطال يا ...ما اسمكِ؟"

"فيروزة. خادمتك فيروزة".

"أريد ما لا يُطال يا فيروزة. أريد ما لا يُطال".

"ولو قدرنا على الإتيان جئتكمُ

سعياً على الوجه أو مشياً على الراس".

"هل تسافرين معي يا جارية؟ نذهب إلى مكانٍ بعيد".

تتغنج الجارية مقتربةً منه. تعرف أنها جميلة، وككل الجميلات، لها دالة على الرجال.

"أو تشتريني؟ ولو غلا سعري؟"

"أشتريكِ. لمَ لا؟"

"أريد الذهاب إلى حلب، أريد أن ألتقي بسيف الدولة وصحبه. كل هذا الصخب يدعوني إليه يا ... ما اسمكَ؟"

" أحمد".

"أريد الذهاب إلى حيث تغصّ المدينة بحياةٍ لا تنضب".

"آه، وأنا أيضاً يا فيروزة... حلب، أجمل مدن الشرق، أصغر من بغداد ودمشق، صحيح. ولكن الحياة تُعاش في حلب فقط".

"إذن، تشتريني ونذهب إلى حلب؟"

"لا يا فيروزة، لا أستطيع الذهاب إلى حلب".

"لا أريد الذهاب إلى الفاطميين في المغرب. هؤلاء قساة القلوب متعصّبون مخبولون، لا يشربون ولا ينكحون. أين نذهب؟ بغداد، إذن؟"

"لن ترحّب بغداد بنا".

" أين نذهب؟ أكلّ بلاد الله مغلقةٌ؟"

" أجل. كل بلاد الله مغلقةٌ".

تكاد العتمة تأكل المغنية.

أوتار الطنبور تخبر أحمد بما تريده المغنية، بما يريده أحمد، وبما تريده الجارية أيضاً.

"أين تريد السفر؟"

"نرتاح قليلاً في أرض الوطن، ثم نرى أين ستقودنا مصائرنا".

تمسح يدها شعره الأشعث.

"أين تعمل يا أحمد؟"

"أنا تاجر، أبيع بعض ما عندي لمن يشتري".

تهمس في أذنه، "لستَ تاجراً. أنت فقيه أو عالم".

"ربما يا فيروزة. ربما".

حزن الندامى،

وبلاد الله المغلقة،

وكاس أحمد المترع،

وعشقٌ يصيب الجارية كل مرة كنوائب الدهر،

يرتوون من ألحان الطنبور الهادئ، الرزين، الصادق.

"ربما عليّ ألا أبيع بضاعتي، وأحفظ ماء وجهي في وطني".

"لا فائدة من الركود في بلد، ألم يقل أبو تمام: اغترب تتجدد؟"

"أو تعرفين أبا تمام؟ اغترب تتجدد إن وجدت الكرامة يا فيروزة. هذا زمن لا كرامة فيه".

تقترب منه أكثر، تشمّ لحيته وعنقه.

"متى نذهب يا أحمد؟"

"لا أعرف يا فيروزة. عليّ أن أرتّب أموري بحذر".

يتراجع أحمد قليلاً: ليس معتاداً على المشاعر الجيّاشة.

تبتعد فيروزة مُحرجة.

كأن المغنية تخاطب كل البشر، يأتي صوتها مفعماً بالصدق والحزن والطيبة.

"وقد قرأت كتاباً من صحائفكم:

لا يرحم الله إلا راحم الناس".

يترك بعض الدراهم على الطاولة ويغادر.

تتأمّل فيروزة مشيته الواثقة ورأسه المرفوع.

تعرف فيروزة الكثير من الرجال، يسعون لفتح العالم بصرامة المحاربين: تجّار وفقهاء وعلماء وأصحاب إقطاعيات وأمراء؛ عسكر وعبيد وحرس وخدم وغلمان وخصيان ولصوص وقطّاع طرق؛ طلّاب علم ومتصوّفة وأتباع للشيعة أو العلويين أو القرامطة.

سيختفي أحمد ويغادر إلى مكان لا يعلمه إلا الله.

ليس للرجل قلب ولا نظر.

تتمنى له خاتمةً هادئة.

كل امرئ يستحق خاتمة هادئة.

يرتفع صوت المغنية صادحاً،

"لا يرحم الله إلا راحم الناس".

يفتح صوتها كل النوافذ.

تعود الجارية إلى خدمة السكارى بابتسامة حزينة، واثقة، سمحة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى