محمد عبد الله الهادي - البُلغـــة*.. قصة قصيرة

يالها من بُلـغة !!..

تلك " البُلـغة " التي جعلتْ غضب " وصيفي " يتصاعد ويصل لحافة الانفـجار ، الحافة التي توقف عندها عن السـير، مواجهاً " مصيلحي " ـ الجار والصديق ـ بعينـين تقذفان الشـرر ، وصوته المتهدِّج بالإهانة والمذلَّة يطرح سؤاله الاستنكاري :

ـ " جرى إيه يا مصيلحي ؟ " .

لم يكن بالطبع ينتـظر منه جواب ، ولم يكن ليسمع له ، ولسانه انطلق كالمقذوف الذي يصعب إيقافه ، ثم وهو يقـذف بـ " البُلغـة " الجديدة من قدميه ، وسحابة من الدمع المقيَّد تغشى عينـيه ، وتشل عقله ، وهو يدمدم بصوت غريب ، لم يكن بالقطع صوت " وصيفي " المعتاد ، لكنه صوت الغضب المستمد من غضب الطبيعة ، صوت فيه شيء من الرعـود والزلازل والبراكـين ، وهو يقسم القسم الذي لا يقبل نقضاً ولا إبراماً :

ـ " عليَّ النعمة يا مصيلحي ما آني لابسها في رجليَّ . . وعليَّ النعمة كمان ما آني رايح فرح قنـديل النهار آده " .

فوجئ " مصيلحي " وتسمَّر مندهشاً بوقع المفاجأة ، و" وصيفي " ينحني علي قدميه :

ـ " هات يا شيخ . . كفاية بقى " .

ويخلِّص بغلظة منهما " بُلغـته " القديمة ، ويصفق نعليها بقوَّة ، حاملاً إيَّاها تحت إبطه ، عائداً أدراجه علي نفس " المشَّاية " صوب الـدار ، غير مبال هذه المرَّة ، وهو يدوس ويدب الأرض بقدمين متحررتين مفلطحتين ، مهرولاً كجمـل غضُوب ، منتوياً التخلص منها ، ومع كل خطوة يهم بها ، كان يتعارك مع داخله بحزن ، وتذكر " سعـدية " :

ـ " المشورة السودا . . مشورتك يا سعدية يا بنت الفرطوس . . صح . . كلام نسوان . . آني استاهل ضرب البُلـغة . . " .

يشتم زوجـته ويشتم نفـسه ويشتم " مصيلحي " ويشتم الجـزيرة كلَّها ، يشتم كل الذين

وضعـوه في هذا المأزق ، وبخاصة " سعـدية " . .

هي السبب ، هي التي نصحته بإلحاح ألاَّ يذهب للعرس منتعلاً نعله القديم ، نصحته أن يستلف " بلـغة " " مصيلحي " الجديدة ، ولن يحدث شيء يا " وصيفي " ، لن تنـهد الدنـيا

يعني ، ساعة زمن ، تؤدِّي فيها الواجـب وتقول مبروك للعريس ، بالمرَّة ، تتعـشى " أكلة

حلوة " ، تتفرج وتفـرَّح نفسك وترجع مبسوط ، وترجعها له باللـيل قبل الصبح ما يطلع " صاغ سليم " ، والناس لبعضها يا " وصيفي " والجار للجـار . .

كان متكئاً علي كوعه فوق الحصيرة التي تهرأت أطرافها وتغير لونها بمجاز الدار ، ورغم أن " سعدية " كانت تغسلها كل أسبوع وتنشرها في عين الشمس ، لم تكن لها حيلة مع العيال ، الذين يأكلون وينامون عليها ، ولا يهتمون حتى ولو أطالها الوسخ ، لا يخافون إلاَّ من أبيهم " وصيفي " عندما يعود من الغيط ، يخشون ثورات غضبه المفاجئة ، عندما يهجم عليهم ويطرق ظهورهم بالعصا " الزنزلخت " التي يحتفظ بها لتأديبهم . مـدَّ " وصيفي " قدميه علي آخرهما و " سعدية " لا تكف ، أعطاها أذن واحـدة وأعطى الأخرى لعقله الذي يقلب المسألة علي كافة وجوهها ، كانت عيناه تتراوحان ما بين " سعدية " المربعة أرضاً بالقرب منه ، فاردةً حجرها بغطـاء " الحلَّة " ، حيث تجوس أناملها بسرعة ودربة وآلية بين حبيبات الأرز ، تنتقي الطوب والحصى ، قبل أن تغمره بكوز ماء وترفعه علي النار ، ولسانها لا يكف ، أيضاً ، بآلية عن سوْق الحجج التي تجعل كلامها معـقولاً ، يدخل رأس " وصيفي " الناشـفة . .

صحيح ، أنه لو ذهب للعرس بهذه " البُلـغة " القديمة ، وبحالتها هذه ، لصار معيرةً ، ولصارتْ هي مسخرةً وعيباًً في حقِّه ، سيمضغ أولاد الحـرام في سيرته ، وما أكثرهم .

وصحيح أيضاً أنه فقـير ، لكنه ، وكما عرفه أهل الجزيرة كلهم ، ينام ببطن خاوية ولا يمـد يـده لأقرب الناس إليه ، وهو الذي يعـلو صوته بـ " العزومة " علي كل عابر سبـيل حتى ولو كانت " مشنته " خالية من رغيف خـبز واحـد . كرامته يحملها علي طرف أنفـه كما يقـولون عنه .

ناس قريته " جزيرة مطاوع " مثل كل ناس الدنيا ، عندما يذهبون للأعراس ، فإنهم يرتدون أجمل ما لديهم من ملابس ، وينتعلون في أقدامهم أفضل ما عندهم من نعال لامعة ، وهو ، ومنذ مطالع شبابه الباكر اعتاد علي انتـعال " البلـغة " في قدميه ، لم يفكِّر يوماً في شراء حذاء جلدي أو حتى كاوتشوك ، لم تدخل قدماه يوماً في حذاء إلاَّ حذاء الجيش " الأميري " الأسود الكبير ، وتذكَّـر عندما أدخلوه مع الجند المستجدين ـ في معسكر الاستقبال ـ مخزناً كبيراً به تل عال من الأحـذية ، ظل يجوس فيه مع زميله " حسـين " حتى وجـد حذاءاً بمقاس يناسبه ، ورغم ذلك ، سببَ له هذا الحذاء ضيقاً شديداً في أيامه الأولى حتى اعتـاد عليه . . وهاهو زميل الجيش يزوج ابنه هذه الليـلة ويدعوه ، فهل يتخلف ؟ . .

الجلباب الكشمير أو حتى الكتَّان ، الصديري البفتة أو الدمُّور ، بزراير الصدف أو القواطين السوداء أو البيضاء ، الطاقية الصوف والشال البني أو العمامة البيضاء . . كان يعتقد واثقاً ، أن كل هذه الأشياء ، عظُم شأنها أو صغُر ، لا يكتمل بهاؤها علي فلاَّح مثله إلاَّ بقدمين مدسوستين في " بلـغة " فاقوسي ، أشهر " بـلغ " في مصر كلّها ، كأنها إحـدى ضروريات الرجـولة التي تنقص بنقصانها .

ورغم غضبه الجامح المندفع ، وصوته العالي " الفُضحي " ، إلاَّ أنه عُرف بين الجميع بأنه جعجاع ، وقلـبه أبـيض كاللـبن الحلـيب ، يطلع ويطلع ويطلع ، وفي الآخر ينـزل علي " الفاضي" . . لهذا ، كثيراً ما كانوا يواجهون غضبه بالابتسام ، ولا يأخذونه مأخـذ الجـد . ورغم ، أيضاً ، أن مشكلة " البُلـغة " لم تحل بعـد ، فإنه عندما رجع من الغيط ،

مال علي " جمعة الحلاَّق " وأزال شعـر ذقنه ، رجع للـدار واستحم وارتدى ملابس داخلـية نظيـفة ، وترك جلبابه مطبـقاً تحت الوسادة .

حتـماً يذهب للعـرس . .

لا يستطيع أن يتخلف عن هذه الليالي المضيئة التي لا تأتي إلاَّ علي فترات متباعـدة ، يغرق فيها لـ " شوشته " حتى تغسل روحه من كل أدرانها ، وتملأ جوانحه بالبهجة والسعادة ، وتجعل ضحكته العالـية تحتل كل مساحة وجهه .

ليال مضيئة قـد يصدح فيها " أبو عطيَّة . . مدَّاح خير البريَّة " بالقصص الدينية التي يعشقها ، ويكاد يحفظ مواقفها وتفاصيلها وأغانيها عن ظهر قلب ، يتربع في الصفوف الأمامية ، يسمع ويستعـيد ويهلل بعـد كل وصلة ، وقـد يصل به الوجـد مداه ، فيقـذف طاقيته لفوق صوب السماء عدَّة مرَّات ، دلالة فرح طاغ ، يخلق صلة علي نحو ما بينه وبين المطرب ، كأن المطرب يطرب له وحده دون بقية خلق الجـزيرة ، وكأنه السمِّيع الوحـيد في الكـون . أو قـد تكون فرقة " أبوشعيشع " الفنـيَّة ، بممثّليها الذين يُضحـكون بـ " فصولهم " الكوميدية حتى طوب الأرض ، وراقصاتها الجميلات اللائى يهزهزن في صحراء بدنه الحـيوية والإثارة والوعـد الحلـو ، ويعود لـ " سعـدية " آخـر اللـيل منتـفش الريـش كديـك عـفي . .

هل عرفتْ " سعدية " أن ليـلة " القنـادلة " فيها طبل وزمر وفرقة " أبوشعيشع " ؟ . .

أ لهذا لا تكف عن الثرثرة بالإلحـاح كي يذهب لـ " مصيلحي " ؟ . .

حتـماً يذهب للعـرس . .

أيام الشقاء لا تنتهي ، يوم يعـبر أفق حياته يجر خلفه يوماً آخر للشقاء ، و " وصيفي " أثقلتْ الأيام حياته ، مطالب " سعـدية " والعيال لا تنتهي ، وهو يُطحن طحناً ما بين الحرث والتزحيف والتخطيط والتلقيط والشتل والعزق والري والدرس والجمع والحصاد . . أعمال لا تنتهي ، وريعها في نهاية الموسم لا يسـد ، حتى ، الأفواه المفتوحة بالـدار ، يلف كالثـور علي مدار الساقية ، وهو ليس ثوراً يلف علي مدار الأيـام ، هو بني آدم من لحم ودم ، بني آدم له طاقة وحِس ، بني آدم له نفس وروح يمكن أن تصـدأ مع الأيام . .

حتـماً يذهب للعـرس . .

يجدد قواه ، يستعيد نشاطه ، يرى وجوهاً مغسولة وضاحكة ، يسمع أفواهاً تترنم بالغناء الجميل ، يهـز وسطه هزتين أمام " زوبة اللهلوبة " أشهر وأجمل راقصات الفرقة ، ويضحي بقرشين من القروش القليـلة التي معه نقوطاً لها . هذه أيام ما قبل الحصاد ، تعدم القروش في الجيوب ، فما بالك بشراء " بُلـغة " جديدة ، الأمر مؤجل حتماً ورغم الأنف . في الأيام العادية ليست هناك مشكلة ، يذهب للغيط ويعود للـدار راكباً قدميه الحافيتين المشققـتين الخشـنتين اللتين بلون طين قطـعة أرضه جانب الترعة . .

وهذه " البلـغة " القابعة أمام ناظريه ، التي جار عليها الزمن ، لا يتذكر بالضبط متى اشتراها من فاقوس ، ما يتذكره أن البائع " غُلب حماره " وهو يختار له واحدة تناسب مقاس قدميه ، كان قاعـداً علي الدكَّة الخشبية بالمحل تحت أرفف " البـلغ " المرصوصة فوق رأسه ، مئات " البـلغ " ولا واحدة تناسب مقاسه ، " وصيفي " يحشر فردة في رجله ويخلع الأخرى ، والبائع الصبور فقـد صبره وهو يتنهد بإشفاق علي نعاله من هاتين القدمين الكبيرتين ، وتطال حرارة " التنهيدة " أرنبة أنف " وصيفي " فيهب غاضباً ، مدافعاً عن نفـسه :

ـ " آني اشتري بفلوسي يا عم . . ولاَّ إيه يعني؟ " .

والرجل يطبـطب علي كتفيه يعـتذر له :

ـ " صبرك بالله يا أخ . . لازماً نلاقي مقاسك إن شاء الله " .

وعندما يضطر " وصيفي " في النهاية لشراء " بلـغة " ، تكون هي أكبر المقاسات بالمحل ، والحقيقة أنها لا تكون المقاس المضبوط علي قدميه مائة في المائة ، لكنها بالقطع تكون المتاح الذي يؤدِّي الغرض . يعود بها للجـزيرة عارفاً أنه لو منح قدميه حق راحتيهما فيـها ، فإنها لن تعـمِّر طـويلاً . .

لهذا ، ولكل هذا ، يكون حرصه الشديد عليها ، كثيراً ما كان يحملها " نعلاً علي نعل " تحت إبطه ، يقفز فوق الحمار ، ويسحب مقود بقرته ذاهباً للغيط ، تتدلَّى قدماه الحافيتان علي جانبي الحمار ، والجلد الذي ماتت خلاياه بالخوض و" الدوس " والشقاء المستمر بلون الطين . فما الحاجة لـ " البُلـغة " إذن ؟ ! ، عندما تراه " سعـدية " تضحك ملء فمها سائلةً إيَّـاه : لماذا أخـذها ولماذا أعـادها طالما لم ينتـعلها ؟ . .

لكنها " البلـغة " بنت " البلـغة " ، مثلها مثل كل الأشياء ، يجري عليها ما يجري علي كل الأشياء ، حتماً مع الشمس والمطر ، علي التراب والحصى والوحل ، علي السكك والمصارف وشواطئ الخلجان . . فإنها رويداً رويداً تفـقد شيئاً من روحها ، شيئاً من كرامتها وهيبـتها ، شيئاً من ذاتها . . ، كأن تتلف اللوزة ، يتغير لون الجلد وتتهرأ خيوطه ، يتفـتق جانب النعل . . وهكذا . يحملها " وصيفي " تحت إبطه صاعداً بها الدروب المؤدية لـ " القوزة " ، أعلى مكان بسرَّة الجـزيرة ، هناك بجوار السوق ، يكون " شحـاته الإسكافي " قـد دقَّ لسان حديدته وفرش فرشته ووضع صفيحة مائه بجواره ، وأخرج مقصاته ومدقَّاته ومسلَّاته وخيوطه وشموعه وإبره . ما أن يرى " وصيفي " كومة " بُلـغ " الجزيرة بجواره حتى ينتابه الضيق ، هو يريد إصلاحها علي عجل وبدقَّة ، ولن يتركها عـنده حتى لا تتوه في هذه الزحمة ، فتجد طريقها لقدمين غريبتين ، كما يحدث أحياناً لبعض " البُـلغ " ، فمصائب قوم عند قوم فوائـد ، وإذا حدث ، لا قدر الله ، هل يفعل كما فعل أحـد الناس من قبل عندما وقف علي باب جامع الجـزيرة يفحص " البُلـغ " في أقـدام المصلـِّين الخارجـين بعد الصلاة ، فصار أضحـوكة للقـوم . .

ـ " سلام عليكم يا عم شحـاته " .

يرفع الإسكافي رأسه ، وتهتز السيجارة اللف المعـلقة بركن فمه ، والتي غالباً ما يكون أحـد الزبائن قـد أخرج علبة دخَّانه " الفرط " الصفيح ، ولفَّ له واحدة وأشعلها ووضعها في فمه ، علَّه يُعطي عناية خاصة واهتماماً زائداً بـ " بُلـغة السيجارة " :

ـ " أهلاً يا وصيفي . . أنت فين يا راجل من زمـان ؟ " .

ـ " دنيـا تلاهي يا عم شحـاته " .

يناولها إيَّاه ، يُلقي عليها نظرة سريعة لكنها فاحصة ، ثم ينحِّيها فوق زميلاتها ، هو مشغول جداً ، منهمك تماماً في التصليح والرتق وإعادة الرونق الزائل وتجديد شباب " البُـلغ " ، فلا يعرف " بُلـغة " هذا من ذاك ، لأنها جميعها تتشابه إلي حد كبير ، وإن كان يوحي لهم بغير ذلك ، يقول لهم إن " البُلـغة " تنادي صاحبها لأنها تعرفه ، كما إنها تشبهه إلي حـد كبير ، مثـلاً فيه " بلـغة " ضاحكة وأخرى مكشرة ، " بُلـغة " غجرية كصاحبها الذي يتعارك مع الذباب الذي يحط علي صفحة وجهه ، وأخري وجهها بشوش متسامح تستمدُّه من طيـبة صاحبها ، " بُلـغة " جميلة الطلعة تتبـختر بدلال في قدمي صاحبها وأخرى نزل عليها سخط الله فتتواري خجلاً عن أعين الناس ، " بُلـغة " خـير تقود قدمي صاحبها للخـير وأخرى شـر ـ والعيـاذ بالله ـ تقـود صاحبها للمهالك . .

الإسكافي يقول ، ولسانه يجري بالكـلام بنفس سرعة أنامله في الإصلاح . .

ما أعجـب كلامك يا إسكافي ! . .

هكذا يقولون لبعضهم البعض ، وهم ملتفُّون حوله ما بين مربع أو مقرفص أو " كـاعٍ " علي كوعه ، هذا الرجل " شحـاته " المعجون بماء العفـاريت ، يجعل من " البُـلغ " التي يركبونها نساءً جميـلات وقبيـحات ومختـلفات الطـباع . .

يسأل واحـدٌ منهم وهو يناوله سيجارة لـف أخـرى :

ـ " يعني البُـلغ زي النسوان يا عم شحـاته ؟ .

يؤكد لهم علي صدق كلامه ، بأن " البُلـغة " كالمرأة والمرأة كـ " البُلـغة " فعـلاً ، ويتساءل بمـكر العـارف بالإجابة مقـدماً :

ـ " من منكم . . ولا مؤاخذة . . يقدر يستغني عن مراته أو بُلغـته ؟ " .

يضحـكون وهم يؤمنون علي صـدق كلامه :

ـ " كلامك صح يا عم شحـاته " .

يتبادلون معه الضحكات والقفـشات ، الإسكافي رجل خفـيف الظـل ، وابن نكتة ، يُلقي علي مسامعهم آخر نكتة عن " البُـلغ " ، ويضحك معهم من أعماقه ، كأنه هو الذي يسمعها لأول مرَّة ، حتى تدمع عيناه من فرط الضـحك ، ومن بين قهقـهاته يتساءل :

ـ " خير اللَّهم اجعله خير . . إحنا اصطبحنا ببُلـغة مين النهار آده ؟ " .

يضحك " وصيفي " حتى يستلقي علي قـفاه . .

" بلـغة وصيفي " التي تم إصلاحها هذه المرَّة ، قطعتْ نفس الطريق لـ " القوزة " ذهاباً وعودةً مرَّات أخرى كثيرة ، وبدأ عمرها في النازل ، واستمر النزول للحـد الذي لم يعـد تفيدها جراحة إنقاذ جديدة ، كعجوز بلغ بها العمر عتيَّاً فلا يجدي معها طب الطبيب ولا دواء الصيدلي . عندئـذ ، انتعلها " وصيفي " عمَّال علي بطَّال ، وقلَّ حرصه عليها ، كأنه يستخلص منها الأنفـاس حتى الرمق الأخـير . .

فجأة ، وبلا مقدمات ، أطلَّ ظـفر إصبـعه الكبير من جانب بوزها ، وظـلَّت تنكمش من تحـت كعـبيه فلم تعـد تحملهما ، وأخيراً نشف جلـدها وتقوَّس وشاخ . .

هاهي منكمشة ومضعضعة بالقرب من الحصيرة تغـفو ولا تشكو ، غير قادرة عي القيام بوظيفـتها الأساسية . و" سعدية " لا تكف عن الثرثرة التي تضايقه ، لن تسكت إلاَّ إذا شال فردة " البُلـغة " وضربها بلغتـين علي جانبيها ، حتى تنقطه بالسكوت ، بعـدها ، يمكنه أن يلقـيها فوق أية كومة سباخ لتتـحلل وتذوب وتفنى . .

وحتـماً يذهب للعـرس . .

عرس " القنادلة " يناديه بصوت الندَّاهة ، و " قنديل " ابن صديقه " حسين " ينتظر مباركته ، وطعام العرس لن يكون له طعم بغيابه ، وحلـقة السامر ستكون باردة إن لم يشعـلها برقصة أمام " زوبة " ، وستنام " سعدية " مكسورة الخاطر بعـد صلاة العشاء مباشرة ، لن تسهر ، ولن تنتظر سبعـها آخر اللـيل كي يجـبر خاطـرها . .

ـ " أعـوذ بالله من الشيـطان الرجيم " .

استعاذ من الشيطان بصوت عال ، وهو يمد يـده لـ " البُلـغة " ، قلبها ظـهراً لبطن ، صعب حالها عليه ، نهـض ، ألقاها تحت قدميه وحشرهما فيها ، ارتدى جلبـابه ، خرج ، أمام الدار كـاد يتعثر في أولاده وأولاد " مصيلحي " الذين يلعبون في التراب ، علي باب جـاره صفَّق ونـادى :

ـ " مصيلحي . . مصيلحي يا أخويا " .

جاءه الصوتُ من جوف القاعة " الجوَّانية " يدعـوه :

ـ " تفضل يا وصيفي . . ادخل . . الـدار دارك " .

تنحنح كثيراً وهو يجتاز المجاز ، يقدم فردة " بُلـغة " ويؤخر أخرى . .

سلَّم وجلس وترس ظهره للحائط فوجدها أمامه ، كأنها كانت تنتظر قدومه ، محطوطة علي أرضية الطـاقة المحفورة في الحائط المواجه ، ورغم العتـمة الكابسة علي فراغ الحجرة كان بريقها لامعاً ، كـ " بنت بنوت " جميلة تجذبه إلي حسنها جـذباً ، خالها تضـحك له ، وتقول له بدلال : تحت أمرك وإذنك يا سيدي ، هي بالقطع فرسه وهو فارسها المنتظر ، حانتْ منه التفاته لـ " بُلـغته " العجـوز فاغتـم ، وتعكَّـر مزاجه للبون الشاسع بين الشـباب والهـرم . .

بالأمـس ، عندما رآها في يد " مصيلحي " عائداً بها من فاقـوس ، قال له :

ـ " مبروك يا مصيلحي . . تدوبها في عرق العافـية " .

هما جاران كالأخوين ، يتزاوران بمناسبة وبدون مناسبة ، يكفي أن يجلسا سوياً في أوقات الفراغ ، يتحدثان ويتسامران عن الزرع والقلع والضرع والماء في ترعة " بهجت " ، ولا مانع من أن يخوضا قليلاً في سيرة فلان أو علاَّن ، يمتصَّان أنفاس دخَّان الجوزة المعسول ، يحتسـيان أكـواب الشـاي . .

وكأنه اتفاق باطني ، غير مُعلن ، تكون زيارة هنا والأخرى هناك ، كأنما يتقاسمان كل شيء ، لكن أمر " البُلـغة " مختلف بالقطع ، والحال ليس مثل بعضه دائماً ، " مصيلحي " كان يربِّي ماعزاً في داره وباعه لـ " حسَّان الجزَّار " ، ومن ثم اشترى " البُلـغة " لنفسه و " الكتانيلاَّ " لزوجته وأحـذية الكاوتشوك لعيـاله . .

" وصيفي " يتأمل " البُلـغة " الجديدة ، يحلم بها في قدميه ، وهي تطير به ـ كبساط الريح ـ طيراً للعـرس . ورغم كل الروابط التي تربطهما سويَّاً ، فإنه وجـد حرجاً بالغاً في مفاتحته بالأمر ، لم يجـد حتى الكلام المناسب ، الذي يصلح كمدخل يطلب به طلبـه ، يخرج من موضوع ويدخل في آخر ، و" مصيلحي " يعمِّر حجراً جديداً لـ " الجوزة " ، ويناوله البوصة ، و" الجوزة " تكركر ، وأنفاس الدخَّان تتصاعـد وترتطم بالحوائط السوداء ، لتزداد سواداً فوق سوادها ، وطال الوقت علي " وصيفي " ، وهم السلف يركب رأسه ويثـقل كاهله ، حـام بالكـلام من بعـيد ـ كطائر خائف ـ حول عرس " القنادلة " ، ودعوة " حسين أبو قنديل " له :

ـ " حسين يا مصيلحي ؟ . . أنت تعرفه . . زميل الجيش معي . . تلات سنين بالتمام والكمال مع بعض . . فرح ابنه البِـكري قنديل الليـلة . . عقبال أولادك " .

ـ واجب يا صاحبي . . تعيـش وتجـامل عقبال عنـدك إن شاء الله " .

ـ " بس البلـغة . . " .

ولم يكمل " وصيفي " ، انحشرتْ الكلـمات في زوره ، وانتبه " مصيلحي " وحـدَّق في " البُلـغة " القديمة ، وفهم بذكـاء ومكـر الفلاَّح القراري :

ـ " أكيـد تلزمك بُلـغة جديدة . . طبعاً فرح وناس من هنا وهنـاك . . صح ؟ " .

هـزَّ " وصيفي " رأسه من أعلى لأسفل عدِّة مرَّات دون أن يفتح فمه بكلمة ، لكن عينيه تفضـحانه ، وهما تتراوحان ما بين وجه صديقه والوجه الضاحك لـ" البُلـغة " الجـديدة في الطـاقة :

ـ " تحت أمرك يا أخويا . . أنت عارف إنها لسَّه بشوكها . . مش لمست الأرض " .

ـ " فاهم . . البُلـغة في عيني وعلي راسي يا مصيلحي . . كلها ساعة زمن أو ساعتين . . مسافة السكَّة يعني " .

مـدَّ " مصيلحي " يده لـ " البُلـغة " ورفعها بحرص مبـالغ فيه ، وناولها إيّاه :

ـ " خلِّي بـالك منـها " .

نهضا سوياً ، دسَّ " مصيلحي " قدميه في " بُلـغة " " وصيفي " القديمة ـ التي أفاقـتْ من غفوتها للحظة ـ بامتعاض مفتـعل ، أغـاظ " وصيفي " وهو يحـشر قدميه الكبيرتين في " البُلـغة " الجـديدة ، سـائلاً إيَّاه :

ـ " إيـه رأيـك ؟ " .

ـ " تمـام . . بس رجليك . . " .

وفهم " وصيفي " وافتعل ضحكة صفـراء وهو يتظرف :

ـ " أعمل إيه . . نفسي أجيـب مقص وأقص الزيادات اللِّي فيـهم " .

علي " المشَّاية " الموصلة لبداية طريق " القنادلة " مشيا سوياً ، و" مصيلحي " وقـد تأخـر قليـلاً ، عيناه علي " بُلـغته " في قدمي صاحبه ، وصـرخ فجأة :

ـ " حاسـب . . حاسـب يا وصيفي . . يا راجل كنت حـتندب بيها في الوحـل " .

" المشَّاية " الضيقة التي تخترق الزرع كلها مطبَّات وقلاقل ومخلفات زراعية وروث مواشي وماء طافح من حافة القـناة المجاورة لها ، ومع كل صرخة " حاسـب " أخرى ، يقـفز " وصيفي " قفـزاً مبتـعداً عن مصدر الخطر ، وبدلاً من النظر أمامه للطريق انكسرتْ عيناه صوب " البُلـغة " في قدميه ، وكأنه ماشي علي قشر بيض ، راح يتقافـز حول البيض حتى لا يكسره ، ناس الجزيرة يمرُّون بهما ويلقون عليهما السلام ، والدم يهرب من وجه " وصيفي " ، ويخمِّن أن هؤلاء الناس الذين هم أهله وناسه ، لابـد أنهم عرفـوا الأمـر بـ " المفهومية " ، وبدأ الحرج يركـبه ويكـدِّر صفوه :

ـ " حاسـب . . حـوِّد شـمال يا وصيفي " .

لابـد أنهم يسـخرون منه ويضربون كفَّا بكف ، صرت مهـزأة يا " وصيفي " :

ـ " حاسـب . . خلِّيـك يمين شوية " .

" مصيلحي " لا يكف ، ولا علي باله أحـد من الناس سوى " البُلـغة " الجديدة وخوفه المرضي عليها . وفكَّر " وصيفي " بأنه ، حتى ولو خلعها وشالها علي رأسه ، فإن " مصيلحي " حتماً سيصرخ فيه ويقـول له : حاسب عليها من غراب البين ليخطـفها . .

اقتربا من نهاية " المشَّاية " ولم يتركه " مصيلحي " يمضي لحال سبـيله ، حتى خال أنه لن يتركه إلاَّ عنـد باب العرس ، وربما وقف ينتـظره هناك حتى ينتهي الفرح وينفض المعازيم . ومع بداية الطريق المؤدِّي لـ " القنادلة " ، لم يكن " مصيلحي " قد كـف ، لا من الصراخ بكلمة " حاسـب " ولا من " النظـر " لقدمي " وصيفي " ، ومع كل خطوة حريصة وخائفـة ومترددة من الوقوع في الخطأ لـ " وصيفي " ، كان الغضب يتصاعـد ويسد عليه الطريق المؤدِّي للعرس ، ويصل به للـذروة ، للحـد الذي أحسَّ فيه بالـذل والمهانة ، احتدم غضبه المتـنامي ووصل لحافة الانفـجار ، فوقف في مواجـهة " مصيلحي " وقـذف " البُلغـة " الجـديدة من قدميه ، وخلَّص " بُلغـته " القديمة من قـدمي " مصيلحي " وأقسـم ألا يذهب لعرس " القنـادلة " ، وحمل " بُلغـته " القديمة تحـت إبطه عائـداً للدار ، منتوياً فعـلاً ، بعد أن يتواري عن عيني " مصيلحي " ، أن يتخلَّـص منها فوق أقرب كومة سباخ ، لكنه تذكَّر " سعدية " فجأة ، ومشورتها الهبـاب التي أحوجته لهذا الجـار الناقص أدب " مصيلحي " ، فأجَّـل التخلص منها لحـين عودته للـدار ، وهناك ، لن يمنعه مانع من أن يحملها في كـفِّه ، ويرفعـها لفوق ، ويضرب بها " سعـدية " " بلغـتين " علي جانبـيها ، حتى تـبرد ناره ويهـدأ بـاله ويرتاح


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البلغة : حذاء خفيف يفضله الفلاَّحون المصريون ، دخلت صناعته مصر مع المغاربة إبَّان العصر الفاطمي ، واشتهرت منطقة فاقوس بصناعته

تعليقات

عندنا بننطقها بضم الباء ، أعجبني الكتابة بالعامية و الفصحي ، بالتوفيق
مرحبا اخي علي هلال .. وشكرا على تدخلك .. نحن ننطفها هنا بالباء المفتوحة .. وهو مداس شعبي تقليدي يصنع باليد في مدن فاس ومراكش وباشكال وانواع متعددة.. وتقابلها "الريحية" للنساء والمشكلة بخيوط الذهب والتلوينات الزاهية... تقديري الصادق
 
أعلى