منى بنت حبراس السليمية - أبي كما عرفته

لا أعرف من أين تكون البداية، ولست أدري إن كان علي أن أبدا ببدايته هو، أم ببدايتي معه، فإن كانت الأولى فعلمها عند الله وعنده، وإن كانت الثانية فأذكر أني وثقتها ذات يوم في قصة قصيرة جدا، كان نصها:

"أفقت فجأة من العدم، على طفلة صغيرة تعبر الشارع المحاذي لبيت خرجت منه مسرعة، إلى الضفة الأخرى حيث يقبع دكان صغير يبيع الحلوى، فلم تنتبه إلا والسيارات تزمر لها بقسوة أرعبتها، ولا تتذكر من ذاك المشهد غير سيارة صبغت باللونين الأبيض والأزرق الغامق، وعلى سقفها مصباح أزرق مطفأ، أنزل سائقها نافذته فإذا به يلبس قبعة لا تشبه الكمة التي يلبسها أبوها، فقال لها: أتريدين أن تموتي؟ وتذكر أنها هزّت رأسها، ولكنها ما عادت تذكر ما إذا هزته نفيا أو إيجابا .. ولكنها لن تنسى بعد ذلك عصا والدها بعد عودته من العمل .. لم تفهم كل ما حدث، ولكنها فهمت ما معنى العصا".

بيد أن ذلك الوعي الأول للذاكرة المقرون بالعصا، لم يكن غير ظاهر سطحي يخفي خلفه شخصية تضج بأنهار من الرقة والحساسية، ولكن (أبي) مع ذلك، ليس بالرجل الذي يُغري بالاقتراب منه، أو إقامة علاقات فورية معه، فقد عرفه المقرَّبون وغيرهم بأنه ذو شخصية شديدة الصرامة، حادة الطبع والمزاج، وهي نظرة آمن بها أفراد أسرته أيضا!

عرفت أبي شاعرا قبل أن أعرف الشعر، فلم تكن هذه المعرفة مما يُفرح فتاة في سنها الطفولي، فقد اعتقدت طويلا بأن شاعرية أبي ما هي إلا عقاب جماعي لنا نحن أفراد عائلته، إذ لم يكن بمقدورنا حينها أن نفهم كثيرا مما كان يقوم به أو يأتيه من تصرفات الشعراء، فارضاً علينا – قسرا – الرضوخ والاستسلام لخاطر قصيدته المفاجئة، أو لقائه بشاعر ينسيه وجودنا معه، فيحدث كثيرا أن نكون معه في السيارة ونسمعه يدندن بأبيات قصيدة تولد، وعبثا نحاول لفت انتباهه إلى شيء آخر، أو أن يلتقي (أبا سرور)[1] في مشوار ما، فينزل إليه محادثا ومقيما وقفة شعرية طويلة لساعات تطول أو تقصر ناسيا وجود من ينتظره في السيارة بلا تكييف.

ولا أنسى الليالي الطوال التي كان يقضيها ببيت الشيخ موسى البكري في حي "المحشورة"، فلا تنتهي جلساتهما المطولة إلا ونحن محمولون نياما إلى البيت. أو يفسد علينا مشاهدة التلفاز بمكالمة مع أحدهم تستغرق ساعات في تهذيب قصيدة أو شرح قاعدة نحوية، ولما كان هو سيد البيت وتاجه، لم يكن من اللائق أخذ جهاز التحكم من يده أو تقديم التماس بأن يأخذ زاوية بعيدة عن التلفاز لإجراء محادثته.

وعندما كبرت قليلا، أيقنَ بحس الشاعر واللغوي أنني سأتجه في هذا الاتجاه، فلم أسلم من حدسه، فما أكثر ما فاجأني ببيت شعر أو جملة طالبا إليًّ إعرابها، والويل لي إن قلت "زيد فاعل مرفوع بالضمة"، فهذا بالنسبة له إعراب مدارس، وليس إعرابا أصيلا كما يتوخاه في ابنته التي توسَّم فيها أن تكون يوما امتداده الأدبي.

كما يحدث أن يقرر منعي من مزاولة شأن من شؤوني، ليوعز إليّ بالتقاط كتاب بعينه من مكتبته، فأهرول سريعا في سبيل تقليل الفاقد من الوقت الذي أنفقه في المسافة بين المكتبة ومجلسه، ومتى ما مددت إليه بالكتاب بإحساس المتخلص من الواجب، أفاجأ بإمعانه في حرماني بطلبه أن أفتح على صفحة معينة وأقرأ ما بقلبها، ولأتحمل بعدها جريرة نصبي الفاعل أو رفعي المفعول في أثناء القراءة المرتبكة التي تخفي وراءها غير قليل من الاحتجاج المكتوم.

وما كنت لأدرك ميزة ذلك إلا بعد مدة من الزمن، عندما لاحظت أنني أقرب أبنائه إليه، وأنني أستطيع الجلوس بقربه متى شئت، ذلك القرب الذي يجعلني ملاصقة له تماما لينظر في الكتاب نفسه الذي بين يدي، فأحببت طقوسه كلها، ورحت اتأملها كما لو كنت أكتشف شخصا آخر لم أتح لنفسي الفرصة لأتعرف عليه بهذا القرب من قبل.

وأجمل المواقف التي لا تنساها الذاكرة في جلساتي بقربه، كانت عندما ينهي قصيدة فيسألني عن رأيي فيها، فتلك غاية الثقة والتكريم يمنحها لي، لاسيما أنه كان كثيرا ما يأخذ بما أقول. أو عندما يطلب مني أن أضع عنوانا لقصيدة جديدة فيثبته كما أقترح. وعندما اقتنى هاتفا محمولا، كنتُ وسيلته في كتابة مقطوعاته الشعرية على صفحة الرسائل النصية؛ ليبعث بها إلى أصدقائه الشعراء في مطارحاتهم الشعرية التي صاروا يتبادلونها عبر رسائل الهاتف، لاسيما أبيات التهنئة بالعيد التي افتقدتها كثيرا في العيد الأول بعد رحيله، فقد "كان عندما يقبل العيد يناديني إلى جانبه ويقول لي: "اكتبي"، فيولد البيت والبيتان وتنساب قصيدة! ثم يسألني: "ما رأيك؟" فأتأمل في عينيه وأقول: "رائعة مثلك يا أبي"!

يبتسم خجلا من روعته المتدفقة على لسان ابنته، ويطلب مني أن أبعثها لكل أحبابه.. فأفعل. أتراهم يفتقدون أبياته المهنئة بالعيد كما أفتقد جلستي بجواره لأخط حروف بيانه؟"[2]

عرفت أبي جنديا من جنود الشعر المخلصين، فلست أنسى رثائياته التي كان يصر أن ينجزها في اليوم نفسه الذي يَفقد فيه عزيزا، فيهاتف مدير مركز المستقبل للحاسب الآلي بسمائل آنذاك طالبا إليه الإبقاء على مركزه مفتوحا حتى ينهي كتابة قصيدته لطباعتها؛ لتصبح جاهزة للقراءة صباح اليوم التالي، ويصر على تشكيل نسخة منها نموذجا نهتدي به في تشكيل النسخ الأخرى بالأقلام الحمراء التي كان يشتريها لنا لهذا الغرض، ورغم النموذج أمامنا كنا نخطئ أحيانا، وهي الملاحظة التي ما كانت لتفوت الشيخ محمد بن عبدالله الخليلي عندما قال له "أثر العجلة بادٍ في التشكيل" فيرد عليه: "العتب على الأولاد الذين لا يفرقون بين فتحة وضمة!"

وقد ألِفَ أبي إطلاق عنوان فرعي على رثائياته مسميا إياها (بنات ليالي حزن)، التي كان أشهرها رثائيته في وفاة الشيخ عبدالله بن علي الخليلي (فقيد الضاد)، ورثائيته في وفاة خاله خلفان بن عامر التوبي الذي وافته المنية ليلة عيد الأضحى، فأسماها (عيد وفقيد)، ورثائيته في وفاة أستاذه الشيخ موسى بن عيسى البكري المسماة (ذوب اللجين)[3]، وآخرها قصيدته (حسام) التي قالها رثاء في وفاة نجل صديقه الحميم السيد قحطان بن ناصر البوسعيدي.

كنا نعرف خصوصية تلك الرثائيات وظروفها النفسية، فرغم انزوائه وشروده في العادة في أثناء كتابة قصيدة، كنا نعرف أن القصيدة المكتوبة هذه المرة هي قصيدة رثاء تحديدا، فقد عرفنا تقلبات ملامح وجهه مع كل قصيدة يكتبها، وكذلك نبرة دندنته التي لا نخطئها، فقد تعودنا أن نراه – عندما يكتب قصيدة قومية أو وطنية – يزم شفتيه، ويبدأ في الدندنة بها بعد فراغه منها، وكأنما يفرغ حماسه على الورق أولا، ليتأتى له استرجاعه إلى روحه بعد فراغه من الكتابة، في حين أنه عندما يكتب قصيدة إخوانية أو مطارحة ودية، فإن الدندنة ترافق الكتابة، بل ويكتبها بنفسية أكثر انشراحا وانبساطا، فلا بأس أن نقاطعه أحيانا؛ لأنه مهما غضب لن يبلغ غضبه الحد الذي نعرفه إذا زمجر لقطعنا تدفق قريحته، وكأنما يقاسمنا احتفاءه بأصدقائه، ولكنه عندما يكتب مرثية ما، فإنه يُشيع في البيت حدادا من نوع خاص، فيغلق التلفاز، ويكثر من تغيير جلسته بين الفينة والأخرى، فنعرف أنها قصيدة الألم التي يجب أن نوليها احتراما أكبر؛ فلا مقاطعة، ولا تلفاز، ولا ضجيج.

أبي الحريص على شعره وعلى تجميعه وحفظه من الضياع، لم يتخَّيل أن يكون بين أبنائه من هو أكثر حرصا منه، فلست أنسى استغرابه عندما بكيت بمرارة بسبب ضياع قصائده التي كتبتها له على جهاز الحاسب الآلي، الذي أُخذ على غفلة مني لصيانته في أحد مراكز صيانة الحواسيب الآلية، التي دائما ما تتخير أسهل الطرق لصيانتها فأتت على كل ما فيه. ابتسم يومها وقال: "لا بأس، ما زالت عندنا النسخ الورقية"، ولكن مواساته لم تكن كافية لإسكات حرقتي. غير أني كنت أعرف أنه بات ليلته سعيدا وبت مقهورة على صائن الحواسيب الآلية.

وعندما اكتشفت ولعي بالأدب، اتخذت لنفسي عادة معه لم يعرف عنها، ولم أكشفها له، وقد أتاحت لي هندسة البيت تنفيذها بشكل لا يخلو في كثير من الأحيان من المغامرة، إذ يفصل باب زجاجي بضلفتين تنزلقان على بعضهما بين مجلسه الذي يستقبل فيه ضيوفه وغرفة الضيافة، وفي اليوم الذي يستقبل فيه طلابه الذين تعود في فترة ما على إعطائهم دروسا في النحو والأدب[4]، أعمد إلى فتح الباب الزجاجي بالقدر الذي يتيح لي سماع ما يدور في جلسة الدرس ثم أسدل الستارة عليه، وأجهز دفتري وقلمي خلفهما، ومتى ما بدأ الدرس أتخذ مكاني خلف الباب الزجاجي – الذي يبقى خارج نطاق الاستخدام إلا ما ندر – وأستمع إلى ما يدور بينهم. وكم كانت الأمور تسير بشيء من الهدوء متى ما ضمنتُ خلو الغرفة التي أكون فيها من أحد سواي، ولكن الورطة الحقيقية إذا ما دخل عليًّ أحدهم وبدأ يتكلم بصوت عالٍ، فإن الصوت حينها سيتسرب إلى المجلس ويكتشف أبي أمر الباب الزجاجي المفتوح!

وكثيرا ما سألت نفسي عما يغريني بهذه المغامرة ما دام أبي معي في البيت وأستطيع أن أبدأ معه درسا متى شئت؟ فأدرك أن ثمة فرقا بين الدرسين، لاسيما أنه بدأ في تطبيق دروس منظمة معنا بشكل يومي ذات صيف بعدما فرض علينا اقتناء دفاتر خاصة لدروسه التي يعطينا إياها في البيت، ولكنه أًحبط عندما لم يجد الرغبة في ذلك من الجميع، وكنتُ منهم، دون أن نعرف سببا لعزوفنا عنها. بيد أن السبب وراء ذلك يكمن في طريقته التوبيخية التي نفضل عليها أساتذتنا في المدارس؛ فهؤلاء يكتفون برائحة الإجابة الصحيحة فضلا عن الإجابة نفسها، بينما أبي كان يزمجر لمجرد أن الإجابة ليست نموذجية! وفي تسمعُّي لدروسه التي يعطيها لضيوفه خلف الباب الزجاجي، حققت لنفسي الفائدة وجنبتها التوبيخ في آن!

من وحي الصحبة:

قبل عام كامل من وفاته، حصلت على رخصة القيادة، وهو ما جعلني رفيقه الدائم في مشاويره البعيدة والقريبة، لاسيما بعدما ساءت صحته وصار متعذرا عليه أن يقود السيارة بمفرده، في وقت كنت فيه متفرغة تماما من الالتزامات الوظيفية، إلا من محاضرات معدودة في الأسبوع خلال السنة التحضيرية لمرحلة الماجستير، فمعه دأبت على ألا يقطع حديثه إذاعة أو تسجيل، أطلق العنان للحديث معه في كل شيء، فكثيرا ما كانت ترده – ونحن معا في مشوار – رسالة نصية على هاتفه تحوي أبياتا شعرية أو سؤالا نحويا، فندخل في نقاش به يمتد طوال المسافة التي نقطعها بين مكانين، ولا تقتصر أحاديثنا على الشعر أو النحو وحدهما، بل كثيرا ما يتناول حديثنا التاريخ والذكريات، والزراعة أيضا وأحوالها المتعثرة دائما في مزرعته.

ولعل أجمل المشاوير التي قضيناها معا وأمتعها، هي تلك التي كنت أذهب فيها معه إلى معرض الكتاب، فلأنه كان الجيب التي تدفع لي ثمن ما أقتنيه، كنت لا أبتعد عنه قط، ولكني تركت هذا الهم ورحت في لحظات أتأمل الرجل في وجوده بين الكتب؛ فلأبي طبع خاص مع الكتاب، فقد اكتشفت أنه لا يُعنى كثيرا بالكم الهائل من الكتب المعروضة أمامه، في حين أنه يكون على استعداد تام لتمشيط المعرض كاملا ركنا ركنا ودارا دارا من أجل البحث عن عنوان عقد العزم على اقتنائه، فليس من السهل أن يتنازل عن رغبته فيه أو الاستعاضة عنه بعنوان بديل، ولا يتعثر في أثناء بحثه عنه بكتاب آخر حتى يجد بغيته، ومتى ما تحقق له ذلك، فإنه لا يتورع بعدها في إنفاق ما بجيبه وبطاقته البنكية كلها في شراء الكتب، فقد تعلمت منه أن الفقر من أجل كتاب غنى.

مع أبي في أروقة المعارض، يتيسر لي الالتقاء بأناس ما كنت ألتقيهم إلا عن بعد، أو من وراء شاشة، أو عبر سطور كتاب، بيد أني معه أكاد أصافحهم، ولا يستنكف من تعريفهم بي، فينسى الزمان والمكان، حاجزا الطرق على المارة بانتصابه في الممر للقاء صديق تصادف وجودهما معا هناك، ولكم أحرجتني قهقهته العالية التي يلتفت إليها الرائح والغادي، تلك القهقهة التي لا يجود بها مع من اتفق، ورغم حرجي أعرف أنها لحظة استثنائية بالنسبة له.

بيد أن نسيانه الكامل لذاته في زحمة الكتب، أوقعنا في مأزق قبل أعوام من نضج وعينا تجاه الكتاب، فلا ندري أي خاطر كان يشغله جعله بعد فراغه من شراء ما يريد، يفترش المساحة الخضراء الصغيرة أمام بوابة المعرض الخارجية، ويصفُّ الكتب التي اقتناها أمامه ليقرأ فيها لساعات، ليقابل بعد ذلك قلقنا عليه وانزعاجنا من الانتظار الطويل بهدوء يبعث على غيظ الجاهل بعشق الكتب.

وفي معرض الكتاب الأخير قبل رحيله، ذهبت بصحبته خمس مرات، وهي الدورة التي بذل فيها مجهودا في المشي والوقوف الطويل ما لم يبذله قبل زمن ليس بالقصير، فأثّر ذلك على قدميه كثيرا من بعد، ولكنه في كل مرة ينسى آلامه ويصبح في اليوم التالي مستعدا لجولة جديدة، ليقول لي بعدها:"سنبدأ برنامج قراءة معا، أنت تقرئين وأنا أستمع"، فقد بذل في تحقيق ديوانه الجهد الذي أنهك عينيه، ومع ذلك كان يقرأ لي من كتاب على طريق العودة تاركا لي مهمة قيادة السيارة.

فقد كنتُ أجد المتعة في صحبته رغم البدايات الصعبة التي كنت أقود فيها سيارته، فتوبيخه طال قيادتي أيضا، إذ كان يريد أن أقود بالطريقة التي يريد، وأن أوقف السيارة بالوضعية التي يشاء، وأن أمتثل لأوامره المفاجئة بالوقوف على الرصيف مهما كانت السرعة غير مواتية للوقوف المفاجئ. والآن، عندما أتذكر هذه المواقف أشتاق توبيخه، وسيارته التي أذهبها حادث أبت بعده العودة إلى سالف عهدها.

حياته الوظيفية:

لم يتسنَ لي أن أعرف الحقيقة الوظيفية لأبي، إلا وباغتتني حقيقة تقاعده وأنا لما أزل في المرحلة الإعدادية، وهو الذي لم يُقدم على طلب التقاعد لكبر في السن بقدر ما أقدم عليه لظروف صحية، غير أنني أعرف الآن أنه عمل إعلاميا في أبو ظبي ثم في سلك الشرطة قبل السبعين، وبعدها عاد إلى الوطن ليعمل معلما للغة العربية والتربية الإسلامية بمدرسة مازن بن غضوبة بسمائل، قبل أن ينتقل للعمل في أحد الأجهزة الأمنية، إلى أن تقاعد منه في النصف الثاني من عقد التسعينيات.

وقد كان أبي من بين الخمسة الذين ابتعثتهم الحكومة في السبعينيات للدراسة بجامع الأزهر الشريف بالقاهرة، والذين كان من بينهم الشعراء "أبو سرور" و "سيف الرحبي" و"سماء عيسى" و"سعيد بن هلال البوسعيدي"، إلا أن ضيق ذات اليد لم تمكنه من مواصلة المشوار، فعاد إلى الوطن مفضِّلا أن يكون قريبا من زوجته وطفل في عامه الثاني، مشفقا عليهما من العيش بمفردهما بلا عائل سوى والده الكبير في السن.

رحلته مع المرض:

لم تكن هذه المرحلة صعبة عليه وحسب، بل إنها كذلك على كل من عرفوه، فلا نعرف متى كانت البداية الحقيقية للمرض، لكنها بداية قديمة بعد كل شيء، وقد دفعته وطأة الألم المجهول الهوية للسفر إلى الهند بادئ الأمر، فعاد من هناك بفحوصات أثبتت وجوده في معدته، فتولى مستشفى حكومي مهمة استئصال المعدة في عملية صعبة كتب الله لها النجاح، ليعيش عاما آخر كاملا ملازما الأدوية الكيماوية.

في هذا العام، أنجز عملين مهمين، أولهما: أنه حضَّر وصيته التي أبيت قراءتها إلا مرغمة؛ ليسمِعنَي الجزء الذي يخصني فيها، وهو وصيته لي بإخراج ديوانه والإشراف على طباعته ونشره. يومها نظرت في وجهه وقلت له: "بل ستخرجه أنت وتشرف عليه". قد كان ردي كافيا ليعرف حجم الألم وحجم المسئولية التي سيلقيها على كاهلي، فقرر أن نشرع معا في مراجعة قصائده كلها، وبدوره عكف على تحقيق ديوانه بنفسه، وكتابة سيرة ذاتية قصيرة تقدمت هذه السطور في مقدمة ديوانه.

والآن، أنا على يقين بأن الشعراء متنبئون كبار، فقد كان يصر على مراجعة جزء أكبر من قصائده في كل يوم أكثر من اليوم السابق، في جهد مضن يأخذ منا سحابة النهار، ويحدث أن أتوسله لمنحي إجازة ليوم واحد في الأسبوع، ولكنه يأبى، ويمتعض إذا ما جئته يوما راغبة في الخروج في مشوار ما.

كنا نراجع معا بدأب والتزام قصائده المخطوطة، وكأننا في سباق مع الزمن، دون أن تفوتني ملاحظة صحته الآخذة في الانتكاس يوما بعد آخر، حتى صرت في المرحلة الأخيرة أقرأ له وهو يسمعني ويصحح لي متمددا على السرير. وما زالت تأخذني لحظات التفكر في حكمة القدر ورحمته بي أن أنهينا المراجعة النهائية تماما مساء الثاني من يوليو من عام 2008م، لنتفاجأ به صباح اليوم التالي يتلوى من شدة الألم، ليتم إسعافه مباشرة إلى المستشفى في خروجه الأخير من البيت!

ترى هل كان يصمد أمام تيار الألم الجارف في سبيل لحظة الفراغ من مراجعة الديوان كاملا؟ هل بعث تعليقي المنكسر على نص وصيته بقايا قوته، فأشفق عليَّ من هولها؟ أكان يحس بالتعب فأبى أن يقول ارحمي مرضي بينما كنت أطلب منه إجازة بين حين وآخر، حتى إذا ما فرغنا تماما أسقط دفاعاته كلها ليشرع أبوابه للقدر!

إنه الشموخ في مواجهة المرض، كان شامخا رغم ضعفه، ورغم أجهزة العلاج التي ركّبت فيه، فمرضه لم يمنعه من القهقهة والضحك مع أصدقائه الزائرين، فيبادلهم البيت بالبيت، والقصيدة بالقصيدة، بل إن مرضه لم يؤثر في عزم ذاكرته التي سجلت قصائد حية كان يسمعها من شعراء برنامج الأمير.

وأخيراً:

"كانت شاشة التلفاز قبالته في غرفته الخاصة بالمستشفى الجامعي، غير أن الناظر إليه يحسبه نائما من فرط إعيائه، وكأن آلام جسده لم تبقِ له من خيار إلا الاستسلام للنوم الذي لم يأت.. الجزيرة كانت شاهدة عندما كنا نحاول تتبع الأسلاك الكهربائية المتصلة بكل جهاز رُكّب فيه، تمهيدا لمساعدة الأطباء على فصلها استعدادا لنقله لسيارة الإسعاف التي ستقله إلى مطار مسقط الدولي، متوجها إلى المستشفى الملكي بتايلاند كآخر الخيارات لوضع حد لآلامه.. صوت التلفاز كان خفيضاً، وعلى الشاشة يظهر الخبر العاجل: "وفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش...."، خفق قلبي بقسوة، وكأن رقصة أفريقية سريعة الإيقاع بدأت تؤدي طقوسها فيه، فقلت لنفسي: لماذا الآن؟

همست لأخي الواقف قبالتي أن أنظر "توفي محمود درويش"، فإذا بأبي النائم بيننا يسأل: "متى؟"

يا إلهي! ليس بنائم إذن!ً

"قبل لحظات" – أجبته

- "مستشهد؟"

- " مريضا في المشفى" .. قلتها ويزداد طرق الطبول في قلبي، وإحساسي يصرخ إنك يا أبي سترحل مثله.

وتمنيت لحظتها أن يكون ذاك سؤاله الأخير.
- "ممَ يعاني؟"

فررت من الإجابة بأن لا أدري.. لحظتها أحسست أنه يفكر حتما فيما أفكر فيه.

سافر ليعود بعد أسبوع أسوأ مما ذهب:

تلفت وراءك

موكب الأحباب يتبعك،

قم وألقِ نظرة على سربنا السائر خلفك،

وأرح قلوب المفجوعين بسقمك..

قم واهزأ بأجهزة طبهم،

وأزح عن صدرك أنابيب علاجهم،

فنحن الهواء،، ونحن الدواء..

ترجل يا أبي،

وقل لهم إن سيارة الإسعاف تخنق صوتك،

فقد أفسحنا لك مقعدا بيننا لن يملأه سواك..

أبي انظر:

قوافلنا تتبع خطاك..

فألق التحية على قلوب مستقبليك،

فقد شاقهم حضورك الصاخب،

الصمت لا يليق بك.. قم وأسمع الدنيا أبياتا من شعرك

ولكن، ما هي إلا أيام وسافر مرة أخرى وأخيرة إلى ديار علوية في الـ25 من أغسطس 2008م.. كنت أتخيل أن المشاعر وحدها تلد الشعر، ولكن الشعر لا يأتي وقت نشاء، هكذا كان محمود درويش يحاول وصوت القصف ينهش بيروت.

وعندما عاد التاسع من أغسطس هذا العام، تذكرت السرير الأبيض الذي كنا نحاول زحزحته برفق، وتذكرت الهمس وموت درويش العاجل.. أيقنت أنه قرر الرحيل في اليوم نفسه، قرر اللحاق به، فهذا يوم ينتحر فيه الشعر، ولكنه عندما عاد – التاسع من أغسطس - لم يحرك في الذاكرة إلا موتا واحدا، ولم يؤبن إلا شاعرا واحدا.. تذكروا درويش ونسوا أبي!!

تذكروا بيروتيات درويش ونسوا بيروتية أبي:

عرِّج على لبنان يا شـــــعر واعطر فأنفاس الصبا عطر[5]

أبي الذي غادر بصمت، ولم يعلم بموته إلا بلدته الصغيرة، يطلبه بعد عام على رحيله متصل على غفلة!! أأستطيع التحدث إلى حبراس؟

عفوا سيدي..اليوم هو من سيتحدث إليك فقط، وعليك أن تصمت !!
خذ ديوانه يحكي لك ما يريده هو، ولن يسعفك موته لتقول له ما تريده أنت.

ويسأل أحدهم في أحد المواقع: أحقا مات حبراس؟ كيف يرحل دون رثاء أو تأبين؟[6]

وتخنقني العبرة.. كيف ما استطعتُ أن أكون شاعرة مثلك يا أبي، فأودعك على طريقتك؟

ودع البدر مجتلى الأنـــوار فاختفى ضوء بســمة الأقمـــار
وتداعت له النجوم وغــارت وتوارت خلف المدى والمـــدار
فبدا الكون مكفهـر المحيــا يرتدي بردة مـــــــن الأكـــدار
حارت الكائنات في ظلمـات أســدلت ثوبها يد الأقـــدار[7]

هو الذهول يمضي مخلفا وراءه الصدى، وأمكنة غائرة في الذاكرة كأنها ما زالت تحتفظ بوشوم من مروا.. فالحياة قصيدة تكتب على الجدران.

خمسة أعوام تمضي ويرى ديوان "فيض الإحساس" النور أخيرا، ولم يعد قطعة قماش في يد حائك لم يلمسها، وكأن خمسة أعوام فقط عمر ديوان ضارب في الستينيات؛ لفرط ما تردد صدى صوته يتغنى بقديمه وحديثه، وكأن بلاد الرافدين ما زالت تنسكب من فوهة قلمه حمما، فلم يكن يدري أنه يكتب الألم الجديد:
محال أن يحـل بـروض قلبي معاد يبتغي إذلال عُــربــي
يروم النيل من عزي وشأوي ونعماء رعاها فضل ربـــي
أأسكنه فؤادي وهو ضـــدي وأمنحه ودادي وهو حربـي
تناول فتكه طفــلا وشيخـــا وخودا بين محراب وحجب[8]

أبي أنت لست كدرويش؛ لأنه قرر أن يموت السبت وفعل، ولكنك قررت الذهاب بعده وكفى.. ولكنك أبي/ فحتم أن تصير درويشي الذي أبكيه في يوم كيوم رحيل درويش، ولينشروا كما يشاؤون درويش المنشور باتساع المدى، وسأفتح أنا نافذة ضوء صغيرة على شعرك كوصية أخيرة تتلوها على عجل: "أوصي ابنتي منى بأن تتعهد بالإشراف على مراجعة ديواني وتنقيحه وطباعته""[9]

ـــــــــــــ
[1] الشيخ القاضي الشاعر/ أبو سرور حميد بن عبدالله بن حميد الجامعي.

[2] كتبت هذا النص في أول عيد فطر بعد رحيله، وكان قد رحل قبل حلول رمضان بأسبوع (23 من شعبان) من العام 1430هـ، ومما كتبته في عيد الأضحى التالي: " نعتقد – خطأ – أن كل عيد قادم يباعد بيننا وبين أحزاننا ... فمن ذا يظن أن عيد الأضحى سيكون أقل حزنا من عيد الفطر؟
هو العيد لحظات لتأمل فجوات الغياب ... " أبي زدني، فقد كبرت ولابد للعيدية أن تكبر معي " فتغوص يده في عمق قلبه ويمدها لي بحب يهزأ بالحدود!
وحده كان يفهم ان الزيادة في عدد سنين العمر تستلزم حبا أكبر!
ذهبت العيدية معك يا أبي؛ فمن ذا سيعيِّد موظفةً بعد الآن؟ وحدك تدرك أن الابن يبقى ابنا مهما ملك ومهما نال من مال الدنيا ... كنت تبدد حزنك شعرا على عزيز فقدته، فكيف نبدد الحزن عليك ولا قافية لنا ولا وزن؟

أتذكر هذه:
بماذا جئت يا عيــد أيهوى البال أعيادا؟
فقد حل الثرى ليث هصور للعلى شادا

قدري أن أرددها بعدك، ألست صداك؟".

[3] رغم حرصه على إنهاء قصيدة ذوب اللجين في ليلة، إلا أنه لم يتمكن منها إلا بعد ما يزيد على شهر، فكان يكتب البيت والبيتين ويمزقها، ويعقب: " آلمَ فقدُ موسى قريحتي ".

[4] وكان من طلابه وقاصديه: د. محمود بن مبارك السليمي، وأ. يوسف بن سيف العامري، وأ. محمد بن أحمد النبهاني، وأ. هلال بن محمد الخروصي وغيرهم.

[5] مطلع قصيدته المعنونة بـ (لبنان) بمناسبة تحرير الجنوب اللبناني في 25 مايو 2000م.

[6] رثاه الشيخ مرشد بن محمد الخصيبي والدكتور محمود بن مبارك السليمي والشيخ محمد بن عبدالله الخليلي والدكتور حميد بن محمد البوسعيدي والشيخ هلال بن سالم السيابي.

[7] مطلع قصيدته في رثاء الشيخ عبدالله بن علي الخليلي (فقيد الضاد).

[8] مطلع قصيدته (بلاد الرافدين) التي قالها في حرب الخليج الأولى.

[9] فكرة المقطع "أخيرا" كتبتها في الذكرى الأولى لرحيله في 25/8/2009م بعنوان "إلى حبراس في سنويته".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى