كثيرا ما قرأنا عن روايات تسببت في إشعال الثورات أو الحروب. «كوخ العم توم» لهارييت بيتشر ستو، التي قيل إنها كانت سببا في الحرب الأهلية الأمريكية وتحرير العبيد. «الأم» لمكسيم غوركي التي قيل إنها كانت سببا في الثورة البلشفية و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم، التي قيل إنه قرأها عبد الناصر وكانت سببا في ثورة يوليو/ تموز عام 1952 في مصر.
كنت أصدق ذلك وأنا بعد في مرحلة الصبا وبداية القراءة. وشيئا فشيئا أدركت أن هذا كله من باب المغالاة، فالحرب الأهلية الأمريكية كانت بين الشمال والجنوب. الشمال الصناعي والجنوب الزراعي الغني بالثروات الطبيعية، وتحريرعبيد الجنوب لتأخذ العبودية شكلها الآخر في الدولة الرأسمالية الصناعية! حيث الحياة لرجال المال. والثورة البلشفية سبقتها حركات كبرى من اليسار والشيوعيين الذين قاموا بثورة أولى عام 1905 على النظام القيصري فشلت، ثم ثورة نجحت عام 1917 بعد حروب قاسية. أما ثورة يوليو فلم تكن ثورة إنما كانت انقلابا عسكريا استغل ضعف النظام الملكي وثورات المصريين المتكررة ضد الملك والاستعمار البريطاني والتقط الجيش الحكم. وشيئا فشيئا أدركت وآمنت بأن الرواية لا تصنع تاريخا. أقصى أهداف الرواية أن تصنع إنسانا سويا من قارئها. فالكاتب لا يكتب عما حوله لكنه يبدع عالما موازيا، لذلك تعنى الرواية بالشخصيات الجانحة أكثر من الشخصيات السوية، والشخصيات المأزومة اكثر من الشخصيات السعيدة، ووراء ذلك فلسفة قد يدركها الكاتب الموهوب تُعنَى بوضع الإنسان في الكون والحياة والزمان المطلق، والمكان المطلق بصرف النظر عن الوطن والمجتمع.
الرواية هي عالم مهما امتلأ بالتشوهات فهو عالم مواز وحياة موازية من الصعب أن تقابلها مباشرة في الحياة، حتى لو قابلت البعض يحمل بعض ملامح الشخصية التي قرأت عنها في رواية، لكن يظل ما لا يُعلن أن الكاتب وهو يفعل ذلك يبحث بالفعل عن عالم أجمل. ولأنه لا يمكن أن يكتمل الجمال في الدنيا يظل الكتاب يكتبون، سواء في الدول التي تتسم بالحرية والديمقراطية أو في الدول الديكتاتورية معا. ففي كل منهما تغريب للبشر ومسخ لهم بطرق تختلف. والكاتب أبدا لا يعلن ذلك. هو مشغول بعوالمه. يستقي سعادته من كتاباته، لكن مؤكد أنه في أقصي مكان في اللاشعور يتمنى الكاتب عالما أفضل مما حوله، أو يقول لنفسه ذلك. وهذا سر استمرار الكاتب، فبعد كل رواية لا يتزحزح العالم عن مكانه، ويظل هو يكتب وقد يتراجع العالم إلى الوراء ويظل يكتب.
وبدون الحديث عن أي دولة عربية، أقف عند مصر التي أعرفها لأعلن بثقة أن مصر سياسيا واجتماعيا تراجعت كثيرا جدا. يمكن لأي قارئ أن يقيس الأمر على بلده، لكنني لن ابتعد عن مصر. ويمكن جدا حين يتقدم العمر، كما هو الأمر معي، أن تنظر حولك وتسأل لماذا حقا كنت أكتب ناشدا عالما أفضل؟ ولست أنا وحدي طبعا. كل الكتاب الموهوبين من كل الأعمار كانوا وما زالوا غير متوافقين مع المجتمع. هي لحظة ثقيلة على النفس حين تفكر بما جدوى ما كتبت، رغم أن ما كتبته لاقى استقبالا جميلا من النقاد ورائعا من القراء، وتمت ترجمة الكثير منه إلى لغات أخرى، وحصل صاحبه على جوائز مرموقة. كل ذلك قد يكون له أثر عكسي. ما دمت قدمت كل هذا الجمال لماذا لم يتحسن وضع البلاد، ولماذا صارالخراب يعم كل شيء؟ وهل كان أفضل لو ابتعدت عن هذا كله وتعلمت صنعة وعشت لا يعرفك إلا الزبائن في محلك التجاري، أو مصنعك الصغير، أو حتى أمضيت حياتك موظفا لا يعرفك إلا زملاؤك ومن يتردد عليك، وحين تحال إلى المعاش لا يسأل عنك أحد وتشعر بانتهاء الزمن، وأنه لا معنى لوجودك الذي سينتهي رفضت أو وافقت!
قد يقول الموهوب لنفسه من باب الراحة النفسية «هذا العالم لا يستحق ما كتبت» لكن حين يكون ما كتبته جميلا بشهادة من أشرت إليهم نقادا وقراء ودوائر ثقافية حقيقية تمنحك الجوائز يكون السؤال حقيقيا ومؤلما لصاحبه. طبعا الإجابات جاهزة فنحن الكتاب لا نملك من أمر المجتمع ولا النظام السياسي شيئا، وهؤلاء الذين يتربعون على قمة السياسة هم سببب الخراب وهذا يريح الكاتب. لكن يظل الألم لأنه في النهاية حدث ما لم تتوقعه. سعادتك مع الكتابة جعلتك تظن أن العالم الأفضل سيتحقق، حتى لو لم تفكر في ذلك. وهنا يأتي السؤال ماذا ستفعل أيها الكاتب؟ هل ستحرق كتبك كما فعل أبوحيان التوحيدي؟ لقد لحقوا ببعضها ونشروه. هل ستوصي بحرقها وعدم نشرها لأحد الأصدقاء كما فعل كافكا؟ سيخذلك صديقك وسينشرها؟ هل ستنتحر؟ لا جدوى فالكتاب كثيرون مستمرون كما أن الكتب نُشرت واتسعت مساحة وجودها مع الإنترنت، وليس مهما أن تقضي ورقيا عليها فلن تستطيع منع المواقع من الاستمرار في نشرها سرقة أو بحق. لن تستطيع أن تخفي شيئا صار ملك البشر ولا شيئا لم تنشره لأن إغراء أن ينشر لك صديق كتابا لم ينشر في حياتك – الإغراء الصحافي أقصد – كبير. إذن ليس عليك إلا أن تستمر قائلا لنفسك الحقيقة، وهي أن ما كتبته جعلك تعيش في عوالم أجمل. صحيح إنك تعود لترى القبح في فترة الاستراحة بين رواية ورواية، لكن تنقذك الرواية التالية وتأخذك بعيدا عما حولك. لقد عشت أيها الكاتب الموهوب مع شخصيات جمالها إنه حتى وهي تتمرد عليك أثناء الكتابة تحبك لأنها تريدك أن تقوم ببنائها بشكل أجمل. هم الأحباء الحقيقيون، وهي شخصيات لا يمكن أن تخطئ في حقك ولا تطالب بسجنك كما يفعل الحمقى في كثير من الأحيان وهم يتصورون أن الشخصيات هي كاتبها. إذن أنقذتك الرواية مما هو قبيح ومتدن، رغم إنه يزداد حولك، وأنقذتك من خراب الحياة وخراب الأرواح، رغم أنه يزداد حولك. وانتهِ أيها الكاتب من هذا المقال قبل أن تبكي. يكفي بكاؤك وأنت تودع أصدقاءك من الشخصيات وهي ترحل أو تفشل في الرواية، أو تموت. هذا البكاء الجميل هو البكاء لكن ما حولك لا يستحق البكاء. لقد صنعه الأشرار وعليك أن تقاوم برواية جديدة. أيها الكاتب النبيل لا تغلق طريق الأحباء.
كنت أصدق ذلك وأنا بعد في مرحلة الصبا وبداية القراءة. وشيئا فشيئا أدركت أن هذا كله من باب المغالاة، فالحرب الأهلية الأمريكية كانت بين الشمال والجنوب. الشمال الصناعي والجنوب الزراعي الغني بالثروات الطبيعية، وتحريرعبيد الجنوب لتأخذ العبودية شكلها الآخر في الدولة الرأسمالية الصناعية! حيث الحياة لرجال المال. والثورة البلشفية سبقتها حركات كبرى من اليسار والشيوعيين الذين قاموا بثورة أولى عام 1905 على النظام القيصري فشلت، ثم ثورة نجحت عام 1917 بعد حروب قاسية. أما ثورة يوليو فلم تكن ثورة إنما كانت انقلابا عسكريا استغل ضعف النظام الملكي وثورات المصريين المتكررة ضد الملك والاستعمار البريطاني والتقط الجيش الحكم. وشيئا فشيئا أدركت وآمنت بأن الرواية لا تصنع تاريخا. أقصى أهداف الرواية أن تصنع إنسانا سويا من قارئها. فالكاتب لا يكتب عما حوله لكنه يبدع عالما موازيا، لذلك تعنى الرواية بالشخصيات الجانحة أكثر من الشخصيات السوية، والشخصيات المأزومة اكثر من الشخصيات السعيدة، ووراء ذلك فلسفة قد يدركها الكاتب الموهوب تُعنَى بوضع الإنسان في الكون والحياة والزمان المطلق، والمكان المطلق بصرف النظر عن الوطن والمجتمع.
الرواية هي عالم مهما امتلأ بالتشوهات فهو عالم مواز وحياة موازية من الصعب أن تقابلها مباشرة في الحياة، حتى لو قابلت البعض يحمل بعض ملامح الشخصية التي قرأت عنها في رواية، لكن يظل ما لا يُعلن أن الكاتب وهو يفعل ذلك يبحث بالفعل عن عالم أجمل. ولأنه لا يمكن أن يكتمل الجمال في الدنيا يظل الكتاب يكتبون، سواء في الدول التي تتسم بالحرية والديمقراطية أو في الدول الديكتاتورية معا. ففي كل منهما تغريب للبشر ومسخ لهم بطرق تختلف. والكاتب أبدا لا يعلن ذلك. هو مشغول بعوالمه. يستقي سعادته من كتاباته، لكن مؤكد أنه في أقصي مكان في اللاشعور يتمنى الكاتب عالما أفضل مما حوله، أو يقول لنفسه ذلك. وهذا سر استمرار الكاتب، فبعد كل رواية لا يتزحزح العالم عن مكانه، ويظل هو يكتب وقد يتراجع العالم إلى الوراء ويظل يكتب.
وبدون الحديث عن أي دولة عربية، أقف عند مصر التي أعرفها لأعلن بثقة أن مصر سياسيا واجتماعيا تراجعت كثيرا جدا. يمكن لأي قارئ أن يقيس الأمر على بلده، لكنني لن ابتعد عن مصر. ويمكن جدا حين يتقدم العمر، كما هو الأمر معي، أن تنظر حولك وتسأل لماذا حقا كنت أكتب ناشدا عالما أفضل؟ ولست أنا وحدي طبعا. كل الكتاب الموهوبين من كل الأعمار كانوا وما زالوا غير متوافقين مع المجتمع. هي لحظة ثقيلة على النفس حين تفكر بما جدوى ما كتبت، رغم أن ما كتبته لاقى استقبالا جميلا من النقاد ورائعا من القراء، وتمت ترجمة الكثير منه إلى لغات أخرى، وحصل صاحبه على جوائز مرموقة. كل ذلك قد يكون له أثر عكسي. ما دمت قدمت كل هذا الجمال لماذا لم يتحسن وضع البلاد، ولماذا صارالخراب يعم كل شيء؟ وهل كان أفضل لو ابتعدت عن هذا كله وتعلمت صنعة وعشت لا يعرفك إلا الزبائن في محلك التجاري، أو مصنعك الصغير، أو حتى أمضيت حياتك موظفا لا يعرفك إلا زملاؤك ومن يتردد عليك، وحين تحال إلى المعاش لا يسأل عنك أحد وتشعر بانتهاء الزمن، وأنه لا معنى لوجودك الذي سينتهي رفضت أو وافقت!
قد يقول الموهوب لنفسه من باب الراحة النفسية «هذا العالم لا يستحق ما كتبت» لكن حين يكون ما كتبته جميلا بشهادة من أشرت إليهم نقادا وقراء ودوائر ثقافية حقيقية تمنحك الجوائز يكون السؤال حقيقيا ومؤلما لصاحبه. طبعا الإجابات جاهزة فنحن الكتاب لا نملك من أمر المجتمع ولا النظام السياسي شيئا، وهؤلاء الذين يتربعون على قمة السياسة هم سببب الخراب وهذا يريح الكاتب. لكن يظل الألم لأنه في النهاية حدث ما لم تتوقعه. سعادتك مع الكتابة جعلتك تظن أن العالم الأفضل سيتحقق، حتى لو لم تفكر في ذلك. وهنا يأتي السؤال ماذا ستفعل أيها الكاتب؟ هل ستحرق كتبك كما فعل أبوحيان التوحيدي؟ لقد لحقوا ببعضها ونشروه. هل ستوصي بحرقها وعدم نشرها لأحد الأصدقاء كما فعل كافكا؟ سيخذلك صديقك وسينشرها؟ هل ستنتحر؟ لا جدوى فالكتاب كثيرون مستمرون كما أن الكتب نُشرت واتسعت مساحة وجودها مع الإنترنت، وليس مهما أن تقضي ورقيا عليها فلن تستطيع منع المواقع من الاستمرار في نشرها سرقة أو بحق. لن تستطيع أن تخفي شيئا صار ملك البشر ولا شيئا لم تنشره لأن إغراء أن ينشر لك صديق كتابا لم ينشر في حياتك – الإغراء الصحافي أقصد – كبير. إذن ليس عليك إلا أن تستمر قائلا لنفسك الحقيقة، وهي أن ما كتبته جعلك تعيش في عوالم أجمل. صحيح إنك تعود لترى القبح في فترة الاستراحة بين رواية ورواية، لكن تنقذك الرواية التالية وتأخذك بعيدا عما حولك. لقد عشت أيها الكاتب الموهوب مع شخصيات جمالها إنه حتى وهي تتمرد عليك أثناء الكتابة تحبك لأنها تريدك أن تقوم ببنائها بشكل أجمل. هم الأحباء الحقيقيون، وهي شخصيات لا يمكن أن تخطئ في حقك ولا تطالب بسجنك كما يفعل الحمقى في كثير من الأحيان وهم يتصورون أن الشخصيات هي كاتبها. إذن أنقذتك الرواية مما هو قبيح ومتدن، رغم إنه يزداد حولك، وأنقذتك من خراب الحياة وخراب الأرواح، رغم أنه يزداد حولك. وانتهِ أيها الكاتب من هذا المقال قبل أن تبكي. يكفي بكاؤك وأنت تودع أصدقاءك من الشخصيات وهي ترحل أو تفشل في الرواية، أو تموت. هذا البكاء الجميل هو البكاء لكن ما حولك لا يستحق البكاء. لقد صنعه الأشرار وعليك أن تقاوم برواية جديدة. أيها الكاتب النبيل لا تغلق طريق الأحباء.
