خيرى شلبى - السور.. قصة قصيرة

كان لابد أن نجىء بالكرة. نظر العيال نحوى لأن شوطتى القوية هى التى طيّرت الكرة إلى المبنى المجاور. رفعنى العيال على أكتافهم. تسلقت السور؛ رميت بنفسى فى حوش المبنى.

يا له من منظر جميل كأنه الجنة

حوش المدرسة كان أحلى ما فيها. لما رأيته أول مرة فى العام الماضى حين أتى بى أبى وسلمنى لهذه المدرسة ظننت أنه لطابور الصباح فحسب؛ إلى أن ضرب جرس الفسحة وصرنا نهرول فيه ونلعب الكرة حتى يضرب الجرس مرة أخرى فندخل الفصول. أحببت المدرسة والحوش والعيال؛ أصبحت أصحو وحدي مبكرا، وألبس المريلة وحدي، وأعلق الحقيبة الجلدية على ظهرى، وأمشى وحدى فى الحوارى الضيقة حتى أغادر درب الجماميز وأصل إلى شارع بورسعيد حيث توجد المدرسة، فأدخل الحوش فرحا بزئيط العيال ونداوة الصبح على وجوههم، لا ينغصنى سوى مدرس الألعاب الذى لابد أن يفتش علينا فى الطابور ممسكا بالخيزرانة الرفيعة المربربة مثل الكرباج، ولابد أن يضربنا جميعا لأن أظافرنا طويلة وأيدينا متسخة وأحذيتنا مبرطشة كالحة ومرايلنا مترهلة غبراء ممزقة من الشد والتناحر واللعب الخشن؛ فنولول ثم نصمت فى الحال بصرخته نقطع خنسًا.

ينتهى مدرس الألعاب من الرواح والمجىء وتطويح الخيزرانة. نردد نشيد «بلادى بلادى» بأصوات مسرسعة؛ نحيى العلم؛ نمضى صفوفا إلى الفصول؛ ليبدأ الضرب بحد المسطرة على ظهور الأيدى لأسباب لا تنتهى؛ فإذا ما ضرب جرس الفسحة اندفعنا إلى الحوش كالقرود الهائجة؛ نجىء بالكرة؛ وهات يا لعب.

نطت الكرة ذات يوم فوق السور؛ هبطت فى حوش المبنى المجاور. اغتظنا؛ صرنا ننظر لبعضنا فى حيرة لا ندرى ماذا نفعل؛ فلم نكن نعرف أى شىء عن المبنى المجاور الذى لا يفصله عن مدرستنا غير هذا السور؛ فشكل المبنى من الخارج وهو مغلق البوابة على الدوام، ومنظر الحديقة التى تطل أشجارها فوق أسواره، والبوابة الداخلية العالية التى تطل على الحديقة من الداخل؛ كل ذلك كان يجعلنا نظن أن المبنى قصر رجل غنى من باشوات زمان.

كان لابد أن نجىء بالكرة. نظر العيال نحوى لأن شوطتى القوية هى التى طيّرت الكرة إلى المبنى المجاور. رفعنى العيال على أكتافهم. تسلقت السور؛ رميت بنفسى فى حوش المبنى.

يا له من منظر جميل كأنه الجنة: الأرض أحواض زهور بينها طرق واسعة منسقة؛ فى الوسط نافورة على شكل تمثال لامرأة جميلة تبخ الماء من فمها وأصابعها ورأسها؛ الأشجار تبدو كأن الحلاق نسق لها شعرها. أطفال كثار، صبيان وبنات؛ يشبهون الزهور، كلهم بيض وحمر، شكلهم جميل، شعورهم مسبسبة لامعة، ثيابهم جديدة ملونة بألوان زاهية مفرحة؛ لا يصيحون ولا يتعاركون، يقفون فى مجموعات يتكلمون ويضحكون، كلهم حلوين، كاللعب المعروضة فى الفتارين الكبيرة. هى إذن مدرسة كمدرستنا ولها جرس!

وقفت تحت الشجرة بين أحواض الزهور مبهورا أتفرج على العيال وهم يرطنون بكلام لا أفهمه؛ أتطلع إلى الجدران الحمراء كالورد، والأراجيح، والروافع، والخرائط واللوحات الملونة على الحوائط. قلت لنفسى: هل يعقل أن الله الذى خلق عيال مدرستنا هو الذى خلقهم أيضا؟! زعلت من أبى: كيف لم يأت بى إلى هذه المدرسة الجميلة؟! كرهت مدرستنا.

قلت لنفسى: لابد أن أبى لم يعرف هذه المدرسة، وما دمت أنا قد عرفتها فقد اخترتها وسأبقى فيها.

صار العيال ينظرون لى بخوف واستغراب ودهشة. ضرب الجرس؛ حتى جرسهم مختلف عن جرسنا إذ يشبه جرس التليفون الحديث. مضى العيال إلى الفصول فمضيت معهم؛ دخلت أول فصل؛ جلست على أول مكتب بجوار ولد قصير طيب لكنه كان يتزحزح بعيدا باشمئزاز، ثم سمعت همسات: المِسْ! المِسْ. ثم دخلت سيدة أنيقة كالخواجات. وقف العيال فوقفت معهم. أشارت بيدها فجلس العيال. شكل المِسْ جميل جدا، ووجهها مبتسم مريح للنفس على عكس مدرسى مدرستنا ذوى الوجوه المتجهمة المكشرة المكلبظة والصوت الخشن. قلت لنفسى: لن أمشى من هذه المدرسة فأنا أحببتها وعيالها وفصولها وحوشها.

رائحة العيال كلهم عطرة كرائحة المِسْ. أما أنا فرائحة عرقى الزنخة تطلع من عِبى. لابد أن المِسْ شمت رائحتى؛ صارت تنظر حواليها وقد اقشعر أنفها. وقع بصرها علىّ؛ فاتسعت عيناها اتساعا أخافنى؛ صارت تقترب منى وهى فى غاية من الدهشة والخوف كأنها تقترب من فأر أو ثعبان تسلل إلى الفصل. حدثت ربكة بين العيال كلهم؛ صاروا يشرئبون بأعناقهم ويشيرون إلىّ بأصابع صغيرة بيضاء منغزة.

بطرفى أصبعيها أمسكتنى المس من كتف المريلة؛ سحبتنى خارج المكتب. العيال كلهم يزأطون يرطنون يضحكون، وأنا واقف تحت السبورة تتهدل المريلة على كتفى؛ لا أستطيع الهرب من عيونهم الواسعة الصافية التى تنظر لى باستغراب وفضول تتوقف على وجهى الصدئ وشعرى المنكوش ومريلتى الوسخة والبرطوشة المتفتقة عن جورب فى لون الأرض.

قالت المِسْ:

ــ «إيه ده؟! إيه اللى جابك هنا؟! دخلت هنا إزاى؟! هه؟! انطق!! جاى تعمل إيه هنا؟! تعال!!».

سحبتنى من كتف المريلة بأطراف أصابعها جاعلة بينى وبينها مسافة كبيرة. دفعتنى خارج الفصل. نادت: «يا محمود أفندى»؛ جاء أفندى أنظف من مدرسى مدرستنا؛ وقف ينظر لى فى اشمئزاز وحيرة. قالت المس:

ــ «الولد ده دخل هنا إزاى؟! دى بقت فوضى!! شوف إيه حكايته؟!».

أطبق الأفندى على معصمى بقوة؛ سحبنى. مشيت تحت ساقيه أرتعش. مررنا على أحواض الزهور، والنافورة. خرجنا من البوابة. مضى بى إلى بوابة مدرستنا؛ طرق عليها بقبضته فى غيظ. ووربت البوابة؛ أطل منها وجه فرّاشنا.

ــ «خير يا محمود بك؟!».

دفعنى محمود بك إلى فتحة البوابة:

ــ «شوف البلطجى الصغير ده دخل عندنا إزاى؟! لقيناه قاعد وسط العيال فى الفصل! عمل حالة رعب!! لمّوا عيالكم!! ما ينفعش كده!!».

أمسكنى الفرّاش من قفاى بغلظة:

ــ «لا مؤاخذة يا محمود بك! أيوه.. الولد ده تبعنا!!».

ثم أغلق البوابة. مضى بى إلى مدرس الألعاب فى حجرته الضيقة؛ أخبره بكل كلمة قالها محمود أفندى، وأضاف من عنده بغيظ:

ــ «العيال دى لازم تتربى!! حَقَّه كله إلا نط السور! ده اللى كان ناقص!!».

أمره مدرس الألعاب أن يأتيه بالفلقة. أمره أن يعلقنى فيها. طرحنى الفراش على ظهرى، كتَّف ساقىّ ثم أدخلهما فى الحبل وكسكر عليهما؛ نادى زميله الصغير؛ أمسك كل منهما بطرف من طرفى الفلقة؛ رفعاها. صارت رأسى واقفة فوق البلاط وساقاى معلقتان فى الهواء؛ والخيزرانة تنهال على قدمىَّ كالمطر. النار تسرى فى جسدى؛ أصرخ؛ أنتفض؛ تكاد رأسى تتفتت. جاء الناظر وبعض المدرسين، سألوا عن السبب: «عمل إيه؟!». قال لاهثا وهو منهمك فى ضربى:

ــ «نط السور على المدرسة الأجنبية عمل حالة ذعر فيها!!».

فإذا بهم جميعا يقولون:

ــ «عمله سوده! اضربه عشان يحرم! ده يستاهل قطم رقبته!! عيال آخر زمن!!».

أفقت من الإغماء فوجدت نفسى فى منزلنا والمياه تغرق رأسى ورائحة النوشادر فى خياشيمى؛ وأبى ينظر لى فى غيظ ودهشة قائلا:

ــ «تستاهل! أصل أنا ما عرفتش أربيك!!».
  • Like
التفاعلات: علي هلال عجيز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى