محمد رجب البيومي - من رائد المقامة الأدبية؟؟

كتب بديع الزمان الهمذاني مقاماته الذائعة، فكانت نهجاً ممتازاً في الأدب العربي، وقد حاول تالوه أن يلحقوا به فما استطاعوا، لأنه كان يتحدث عن مشاعر صادقة تموج في نفسه، وكان يرصد أبعاداً نائية يحاول تقريبها لمن لا يراها في مجتمعه الجائش المضطرب، وقد خفي ذلك عن مقلديه فظنوا مقامات الهمذاني تمريناً مدرسياً على الأسجاع والتوريات وشتى ضروب المحسنات دون أن تهدف إلى غاية نفسية، أو مغزى اجتماعي، وفيهم من اتخذها مجالاً للحيل البهلوانية حين كان يجعل كل كلمة من كلمات المقامة مهملة غير منقوطة، أو منقوطة غير مهملة، وياله من عبث ضائع لا يثمر غير الخواء الجديب، وفيهم من اتخذ المقامة معجماً لغوياً فكان قصارى جهده أن يصطاد من القواميس كل حوشي ليكون أعلم من رؤبة بن العجاج، وأوعى من صاحب العين ومؤلف اللسان! ثم جاءت الطامة أخيراً حين تحولت إلى ألغاز علمية تتحدث عن بعض مسائل النحو والصرف في نهج لا يفهمه غير المتخصص حتى إذا قضى وقته الأطول في اكتناه هذه الأحاجي وجد النتيجة لا تستحق ما بذل من جهد، وقد شاء الله للمقامة أن تعلو بعد أمد طويل حين جاء محمد المويلحي فوثب بها إلى ما يقرب من فن البديع، ثم امتد بها امتداداً مشرّفاً، حيث جعلها الفجر الصادق للرواية الفنية المعاصرة وهذا ما حفظ مكانه الأدبي في صحف التاريخ.
ومن حسن حظي مع بديع الزمان الهمذاني حين بدأت أقرأ شيئاً من مقاماته وقعت يدي على أحسن ما كتب بها مما دق فيه الوصف، واتسع مجال التحليل، وسطع الهدف ورشقت العبارة، واكتمل الإيحاء وازدهر التصوير!
لقد كان أول ما قرأت للبديع مقامته الشهيرة (بالمضيرية) حيث وصف الثرثار من الناس وصفاً لا يزال نسيج وحده في الأدب العربي، والثرثار بلاء نازل يسقط على الناس في كل مكان وزمان، والضيق به محتوم من ذوي المشاعر الرقيقة، والأحاسيس الشفافة، بل من ذوي الطباع العامة ممن لا يتميزون برقي نفسي، ولكنهم يستوون على الجادة غير منحرفين، وكأن البديع قد ابتلي بأحد هؤلاء فأخذ يستعرض حديثه عن نفسه وزوجته ومقدرتها على نضج الطعام، وتفننها في إعداد المشهيات والمرغبات، وعن داره وما تضم من بناء وأثاث، وكيف احتال حتى اشتراها شراء أشبه بالسرقة، والسامع يتجلد متحاملاً، ويظهر السرور متثاقلاً، حتى إذا كادت روحه تخرج من جلده ضاق بصاحبه فترك الدار، وبرئ من الدعوة للطعام، وحمد الله أن وجد قوة في جسمه يستطيع بها أن يعبر الطريق، ولهذه المقامة نظائر فريدة ليس المجال متسعاً للإشارة إليها، وإذا كان البديع قد تطامن في بعض المقامات فتلك سنة الكائنات إذ يرتفع الطائر محلقاً إلى حيث لا تراه العين ثم يهوي حتى يدرج على الغبراء، فإذا رآه المشاهد العاطف منسفاً دانياً، فلن ينسى أنه كان في أحيان كثيرة محلقاً.
ولا أريد أن أتحدث عن سمات المقامات الهمذانية، فذلك الحديث مجال غير هذا المجال، وإنما أريد أن أناقش الدكتور زكي مبارك رحمه الله في أمر ادّعاه وكاثَر به، وأخذ يتعقب كل من يقول به ليضطره إلى الاعتراف بأنه أول من أشار إلى هذا الأمر، فقد كان من قدر الدكتور زكي مبارك أن يشرف على تحقيق كتاب زهر الآداب للحصري، ولم يكن الكتاب مجهولاً قبل أن ينشره الدكتور مبارك، ولكنه كان مطبوعاً على هامش الطبعة الأولى من العقد الفريد لأحمد بن عبد ربه، ثم رأى صاحب المكتبة التجارية أن ينشره مستقلاً واختار الدكتور مبارك للقيام على نشره المستقل، وتصحيح ما وقع من الخطأ في نسخة العقد، فنهض الدكتور مبارك بما عهد إليه، وطبيعي أن يقرأه قراءة المحقق المدقق، فوجد أثناء القراءة رأياً لأبي إسحق الحصري يتعلق بنشأة المقامات حيث عرض صاحب زهر الآداب، إلى بديع الزمان الهمذاني فقال عنه:
"كلامه غض المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفاً، والهوى تعشقه طرفاً، ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنتجها من معادن فكره وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر في معارض عجمية، وألفاظ حوشية، فجاء أكثر ما أظهر تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع، وتوسّع فيها إذ حرّف ألفاظها ومعانيها، في وجوه مختلفة، وضروب متصرفة، فعارضها بأربعمائة مقامة في الكدية، تذوب ظرفاً، وتقطر حسناً إذ لا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى، ثم وعطف مساجلاتها ووقف مناقلاتها بين رجلين سمّى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري، وجعلهما تتهاديان الدر، ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين، وتحرك الرصين يتطلع منها كل طريفة، ويوقف منها على كل لطيفة، وربما أفرد أحدهما بالحكاية، وخص أحدهما بالرواية"(1).
قرأ الدكتور هذا النص فعرف أن الحصري يرى ابن دريد رائداً للبديع، وكان عليه أن يقف أمام ما روي عن ابن دريد ليقارنه بما جاء به البديع، فيعلم موضع الاحتذاء ومكان الانفراد، وهو لا محالة قادر على الحكم الصحيح، والرأي الراجح، إذا لزم التؤدة المستأنية، ولم يفرح بالخبر المفاجئ فرح العاطفي بالإشاعة الغريبة، كان عليه أن يقف، وأن يتروّى وهو بصدد إعداد رسالة للدكتوراه تتعلق بالنثر الفني في القرن الرابع، ولكنه عد كلام الحصري اكتشافاً خطيراً يقلب حقائق الأدب ظهراً لبطن، وسارع به إلى أستاذه المسيو مرسيه فدهش، ثم حادث عنه الدكتور طه حسين فأوصاه بالرجوع إلى أمالي أبي علي، ليبحث عما رواه عن أبي بكر ابن دريد من الآثار، فقد يجد الدليل الملموس على تأييد هذا الرأي، وقد لا يجد، قال الدكتور زكي مبارك: "فلما رجعت إلى كتاب القالي وجدت حقاً أن القصص التي احتواها مروية عن ابن دريد، من ذلك مثلاً حديث البنات اللائي وصفن أزواجهن، وحديث العاشق الجميل، وقصة خنافر الكاهن، والرواد الذين أرسلتهم مذحج لوصف أقطار الجزيرة العربية، وكذلك يمكن المضي في استقصاء ما ذكره القالي من القصص العربية المسجوعة، وإن كان هذا لا يعيّن أنها نفس القصص التي عارضها بديع الزمان(2).
وقد رجعنا إلى كل ما جاء بالأمالي عن ابن دريد فوجدناه لا يختلف عما روي من تراث الجاهلية والإسلام في كتب الأوائل، وابن دريد في ذلك مثله مثل الأصمعي والأنباري وأبي عبيدة وأبي الفرج وسواهم من أفذاذ الرواة، يذكرون ما ذُكر من الأخبار المليئة بالسجع والغريب دون أن تكون لأحدهم سابقة في ابتداع هذه الأخبار المنقولة عن السابقتين! ولو تأمل الدكتور مبارك في قول أبي إسحق الحصري عن ابن دريد أنه استنبط هذه الأحاديث من ينابيع صدره، واستنتجها من معادن فكره لعرف أن ما عزاه أبو بكر إلى غيره لا يُعقل أن يكون هو هذه الأحاديث التي قال إنها جاءت من ينابيع صدره واستنتجها من معادن فكره، فكيف –بالله- يعزوها إلى غيره في كتابه، ثم يرى أنها هي التي قال إنها من بنات فكره مباهياً مفاخراً! وهل يكون لابن دريد أحاديث خاصة غير التي جاءت في الأمالي؟ ففيم الرجوع إلى أحاديث يرويها عن غيره! وكيف نعدّها أصلاً للمقامات، وليس بها من سمات المقامة شيء؟ هل قيلت على لسان شخص كأبي الفتح الإسكندري؟ هل صورت موقفاً من المواقف تصويراً روائياً؟ أليس فيها ما يُعزى إلى الأصمعي وإلى أبي عمرو بن العلاء وإلى أبي عبيدة مما تعددت رواياته في كتب الأوائل عن غير أبي بكر؟ كيف لا يفكر الدكتور زكي مبارك في ذلك كله قبل أن يُرجع أن قصص الأمالي هي تلك التي عناها صاحب زهر الآداب؟! ولماذا يكون الحصري وحده أول من جاء بهذا الرأي ولم يكن ذا صلة بتلاميذ أبي بكر! أيكون هذا المغربي البعيد أدرى بالرجل من زملائه وتلاميذه الذين تحدثوا عنه دون أن يشيروا إلى شيء من ابتكاره القصصي في زيادة المقامات! لقد كان ابن دريد لغوياً وشاعراً وراوية، وله من آثاره في ذلك ما يدل على تنوع مواهبه، ولكن هل قال أحد إنه كان فناناً يضع الأقاصيص وينسبها لسواه!
كأني بالدكتور زكي مبارك قد استشعر ذلك –أو بعضه- حين قال في آخر النص المتقدم عنه (وكذلك يمكن المضي في استقصاء ما ذكره القالي من القصص العربية المسجوعة، وإن كان هذا لا يُعيّن أنها نفس القصص التي عارضها بديع الزمان)(3).
وقد ناقش المسيو (ديموميين) وجهة نظر الدكتور مبارك، وأطلعه على نص للعلاّمة بروكلمان يدل على أنه قرأ كتاب الحصري وارتاب فيما جاء به عن ابن دريد وكان على الباحث أن يقدر وجهة بروكلمان فيقف موقف الفحص من جديد، ولكنه اكتفى بالإشارة إلى قوله في هامش ص 200 من النثر الفني في جزئه الأول، ثم ختم الأول بأنه سيدرس أحاديث ابن دريد في الصفحات القادمة ليرجح وجود طائفة من الأحاديث التي عناها الحصري والتي كانت أصلاً للبديع، فلننتظر ماذا صنع؟
كنا ننتظر من الدكتور زكي مبارك أن يكون ما كتبه عن أحاديث ابن دريد في الفصل التالي لفصل البديع، تطبيقاً فنياً على ما قال عن أستاذية ابن دريد في فن المقامات! كنا ننتظر منه أن يأتي إلى الأحاديث التي أشار إليها في بحث المقامات مثل حديث العاشق، وقصة خنافر الكاهن، والرواد الذين أرسلتهم مذحج لوصف بعض الأفكار في الجزيرة العربية، فيوسعها شرحاً يوضح خصائصها الفنية، ويُري القارئ كيف كانت بهذه الخصائص أول مصدر للبديع ولكن الدكتور أخلف ظن قارئه حين بدأ بترجمة موجزة لابن دريد –وهذه لابد منها- ثم استشهد بدلائل من شعره ونثره تدل على خفة روحه وقوة أسلوبه ومرونته العقلية، وهذا مما لا ينكره دارس على ابن دريد وليس موضع نزاع فيما تصدى له الدكتور من الرأي فإذا انتهى إلى بيت القصيد، وهو ريادة أبي بكر للمقامات، كرر ما سبق من قول الحصري وتعليق الدكتور طه حسين، وقال إنه قام بمقارنة –لا يعلم عنها القارئ شيئاً- وصل منها إلى ما يأتي:

1- إن حديث ابن دريد في حج أبي نواس ممتع كتب بطريقة روائية تصلح أن تكون أساساً لفن المقامات، وكان على الدكتور أن يأتي بهذا الحديث فيعرضه عرضاً ينتهي به إلى وجهة نظره، ولكنه استطرد في الاستشهاد الأدبي إلى درجة الإملال أحياناً، لم يذكر كلمة أو سطوراً من هذا الحديث، فترك قارئه يضرب في متاهة، وإذا قال الدكتور إن الحديث مشهور، رواه جامع الديوان فإننا نقول له، ليس المهم شهرة الحديث إنما المهم كيف كان نواة للمقامات؟ وما خصائصه الفنية التي تلتقي ببعض خصائص المقامة؟ حتى يجوز ذلك لك أن تقول (ولست أشك الآن في أن هذا الحديث جزء من الأربعين حديثاً التي ابتكرها ابن دريد)(4).
2- ثم يقول الدكتور: "إن الأحاديث التي نقلها القالي عن ابن دريد تشمل طائفة من القصص المسجوعة تقرب من قصة أبي نواس وتصلح أن تكون أساساً لفن المقامات، فلا بأس من الاطمئنان إلى أنها شطر من الأربعين حديثاً عارض بها بديع الزمان" هذا ما قاله الدكتور بحروفه، وقد نسي أن ما رواه القالي عن ابن الأنباري والأصمعي والكلبي وأبي عبيدة وغيرهم، يشمل أنماطاً من القصص المسجوعة التي تقرب من قصة أبي نواس فلمَ يذهب ابن دريد وحده بفضل الابتكار؟ ولم لا يكون إذاً رواة القصص المسجوعة كلهم رواداً للبديع؟ ثم ما معنى لا بأس هذه في قوله "لا بأس من الاطمئنان إلى أنها شطر من الأربعين حديثاً!! أيكون لكلمة (لا بأس) موضع في قضية ذات دليل!.
وما والاه الدكتور من الأدلة ثالثاً ورابعاً وخامساً يدور هذا المدار دون جديد، وعناء أن نشغل به القارئ دون إضافة طريفة!
على أني سأستعرض إلى بعض ما أشار إليه الدكتور من القصص التي عدها من أصول المقامات لنرى هل تشي بشيء من خصائص المقامة؟ أو أنها نمط مما اشتهر وذاع على ألسنة الرواة.
لقد استشهد زكي مبارك أول ما استشهد بحديث البنات اللاتي يصفن ما يرون من أزواجهن فما هو هذا الحديث؟ قال أبو علي(5): حدثنا أبو بكر محمد بن دريد قال أخبرني عمي عن أبيه عن ابن الكلبي قال: قالت عجوز "من العرب لثلاث بنات لها صِفن ما تُحببن من الأزواج. فقالت الكبرى أريد أروع بساماً، أحدّ مجذاماً، سيّد ناديه، وثمال عافيه، ومجيب راجيه، فناؤه رحب، وقياده صعب.
وقالت الوسطى: أريده عالي البناء، عظيم نار، مُنعم أيسار، يفيد ويُبيد، ويبدئ ويعيد، وهو في الأهل صبي وفي الجيش كمي، تستعبده الحيلة، وتسوده الفضيلة.
وقالت الصغرى: أريده بازل طعام، كالمهنّد الصمصام، قِرانه حُبور، ولقاؤه سرور، إن ضم فضفض وإن دَسَر أغمض، وإن أخل أحمض.
قالت أمها: فض فوك، لقد فررتِ لي شره الشباب جذعه) بمعنى أعدتِ لي.
واستشهد الدكتور بحديث الشاب العاشق الجميل، ونقله ص251 من الجزء الأول عن أبي علي عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن الأصمعي عن عمه قال(6):
"مررت بحمى الربدة فإذا صبيان يتقامسون في الماء، وشاب جميل الوجه، ملوح الجسم قاعد، فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال من أين وضح الراكب؟ قلت من الحِمة، قال ومتى عهدك به؟ قلت رائحاً قال: وأين كان مبيتك؟ قلت: أدنى هذه المشافر، فألقى نفسه على ظهره وتنفس الصعداء، فقلت تفسا حجاب قلبه، وأنشأ يقول:
سـقى بلداً أمست سليمى iiعَلّه .:. من المزن ما تُروى به iiوتسيمُ
وإن لـم أكن من قاطنيه iiفإنه .:. يـحـل به شخص عليَّ iiكريمُ
ألا حـبذا من ليس يعدل iiقربَه .:. لـديّ وإن شـط المزار نعيمُ
ومَن لامَني فيه حميم وصاحب .:. فَـرُدَّ بـغيظ صاحب iiوحميمُ
ثم سكت سكتة كالمغمى عليه، فصحت بالأصبية، فأتوا بماء فصببته على وجهه فأفاق وأنشأ يقول:
إذا الصبّ الغريب رأى خشوعي .:. وأنـفـاسـي تـزيّن بالخشوع
ولـي عـيـن أضر بها iiالتفاني .:. إلـى الأجـراع مـطلقة الدموع
إلـى الـخلوات يأنس فيك iiقلبي .:. كـمـا أنس الوحيد إلى iiالجميع
وما استشهد به الدكتور غير هذين، لا يعدو هذا المنحى، ولكن الغالب، على ما ينقله أبو علي عن أبي بكر هو ما يحتفل بالغريب لأن ذلك كله من نمط البديع في المقامات! لقد كان أبو الفتح الإسكندري رمزاً لشخصية حقيقية عاشرها البديع، وافتتن بذكائها، وما تُعورف من حيلها، فشاء أن يجمع من أحداثه ما يصور مواقف هذا الداهية المحتال، ثم توسع بالفن إلى حيث جاوز أفق الحيلة في بعض المواقف! أفيجوز لنا أن نقسره قسراً على تقليد ابن دريد، وفيم؟ في قصص مشتركة شائعة لا تختص بابن دريد دون سواه؟
لقد كان أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام أقرب إلى السداد حين قال(7) بعد أن استعرض كلام الحصري في زهر الآداب، واستشهد ببعض ما جاء في الأمالي من أقوال تُعزى إلى ابن دريد:
"وفي كتب الأدب كثير من القصص الصغيرة المصوغة في أسجاع مختارة، وكلمات منتقاة، ولكن –مهما يقل فالبديع- فيما نعرف من مخترع هذه القصص الخيالية التي عرفت في الأدب العربي باسم المقامات، أما روايات اللغويين فقد رويت على أنها حقائق وأريد بها اللغة قبل أي شيء آخر، وحديث الراوي فيها مُرسل لا صناعة فيه ولا يقصد في الرواية، على حين يستوي في المقامة، أو يتقارب من حيث البلاغة حديث عيسى بن هشام وكلام أبي الفتح الإسكندري".
وأخال الدكتور عزاماً قد وجه الباحثين إلى نقطة مهمة في آخر حديثه، وهي أن حديث مقامات البديع متقارب متماثل، أما الأحاديث التي رويت عن ابن دريد فتختلف باختلاف الرواة، ولن يكون الراوي حينئذ مبتكراً، بل يكون كغيره ينقل مما شاع فلا صلة له بمنهج البديع.
-2-
للدكتور زكي مبارك في بحوثه الأدبية سلاسة ونصوع يحملان القارئ على أن يتابع ما يقول وإن خالف وجهة نظره، ولو كتب كل باحث مؤلفه العلمي بمثل ما يكتب الدكتور مبارك لأقبل القراء على البحوث الجادة مشوقين، وأنا دائماً أحرض على متابعة مؤلفاته العلمية مستريحاً إلى ظلالها المورقة ذات الثمر المستطاب، بل أعلم سلفاً أن الدكتور –في بعض الأحيان- يُدافع عن قضية خاسرة، ولكني أتابع دفاعه طروباً، وأكاد أشد على يده محيياً، ومن أمثلة ذلك ما أشار له الدكتور على صفحات الرسالة حول سبقه العلمي إلى اكتشاف ابن دريد، وعدّه رائد البديع في المقامات إذ أعلم أن كلام الحصري في زهر الآداب لم يكن مخبوءاً تحت الأرض حتى اهتدى إليه الدكتور، على بُعد آلاف الأمتار في الأطباق الدامسة ذات الظلام، ولكنه قول ذائع، رواه الحصري في كتاب تعلُق طبعته الأولى بالعقد الفديد، فاشتهر باشتهاره ثم نقله ياقوت الحموي في معجم الأدباء حين تُرجم للبديع، كما رواه ابن خلكان في وفيات الأعيان، وتحدث عنه الشريشي في شرح المقامات، فيالله كيف يصبح خبراً جديداً كلام تردد في زهر الآداب ومعجم الأدباء ووفيات الأعيان وشرح المقامات، وإذا كان الأستاذ بروكلمان قد حكاه وضعّفه فيما كتب بدائرة المعارف الإسلامية فكيف يُصر الدكتور بعد ذلك كله على أنه اكتشف خبراً خافياً عن الناس والخبر في مضمونه كما رأى قارئ هذا المقال يدل على تسرّع الحصري، فقد بدأ القول مستنتجاً وتابعه ياقوت ومن جاء بعده ناسبين الرأي لصاحبه دون تحقيق!
وقد صدّق الأستاذ السباعي البيومي كلام الحصري فأيّده في مقال نشره بمجلة السراج وقرأ الدكتور مقال الأستاذ السباعي فرآه سرقة أدبية مما اهتدى إليه في زهر الآداب، فهاجم الأستاذ السباعي مهاجمة من يعتقد أن صاحبه أعزل مجرد من السلاح وأنه لا يصمد إلى قذائف التحدي، وما درى الدكتور مبارك أنه ابتُلي من السباعي بداهية، وأن ريحه صادفت إعصاراً يكتسح، فألقى اليراع وأعلن انسحابه في صمت لم يعهده قارئو مبارك، وكان كلام السباعي واضحاً دامغاً حين قال للدكتور ببعض التصرف، إذ لا سبيل هنا إلى الاستيعاب.
"ليسمح لي صديقي (مبارك) أن أُعيد على سمعه ما سبق أن رميته به من قلة الاطلاع، فقد كان النص معروفاً متداولاً رواه معجم الأدباء ووفيات الأعيان وشرح المقامات، فكيف يقول الدكتور إنه لم يجد فيمن عرف من رجال النقد من أرتاب في سبق البديع، وها نحن أبناء دار العلوم فتحنا عيوننا أول ما درسنا الأدب بتلك الدار على هذه النظرية المزعوم كشفها منذ أربعين من السنوات، وقد كان الشيخ أحمد الإسكندري يُدرّس تلك النظرية لطلبة دار العلوم قبل أن يكون الدكتور شيئاً، وقد ذكر هذا النص في مذكرة مطبوعة سنة 1929 ص 310 وهو يتكلم عن البديع والشيخ السكندري قد أخرج أجيالاً من الأساتذة في حقبة تقرب من ثلث قرن.
وبكل عام يتلقى الأدب على يده أكثر من ستين طالباً، عُينوا بالمدارس، وشرحوا كلام الشيخ لتلاميذهم قبل أن يُدوّن النص في النثر الفني، ثم دوّنته –والحديث للسباعي- في كتابي، ودوّنه الأستاذ محمود مصطفى في كتابه عن الأدب العباسي، أفكان ذلك كله عن جهل منك إلى هذا الحد، أم هو تغرير وادّعاء ليس من بعده بعد(8).
ولم يسكت المبارك، بل عقّب في المقال التالي(9) يقول ما ملخصه: إن كتاب السكندري ظهر في سنة 1930 وأنه ذكر تعليقاً على هذا النص سنة 1929 في الطبعة الثانية من زهر الآداب فيكون الإسكندري قد نقل عنه! ودار المقال الطويل على هذه الحقيقة! وكنت أنتظر من الشيخ السكندري ومن الأستاذين السباعي البيومي ومحمود مصطفى أن يتجاوزا نقل كلام الحصري إلى مناقشته العلمية، فيعرضوا مثالاً واحداً مما قاله ابن دريد تصلح أن يكون أصلاً يحتذى! ولكنهم يتحدثون عن المقامات في كتاب يشمل حديث الأدب العباسي بأكمله، إذ ليس لأحد من الثلاثة بحث خاص بالمقامات يتسع فيه مجال التحقيق وعُذر الشيخ السكندري والأستاذ محمود مصطفى أوضح من عذر الأستاذ السباعي لأنه قد نشر مقالاً خاصاً بهذه القضية في مجلة السراج، فتجاوز الكتاب المدرسي إلى نطاق أرحب وكان عليه حينئذ أن ينتقل إلى الأصل المزعوم، فيثبت دلائل الاحتذاء بين السابق واللاحق كما يراها، ولعله إن فعل ذلك يتشكك في حديث الحصري، ولكنه أخذ الرأي وكأنه قضية مسلّمة، ولم لا يكون كذلك وقد تردد صداه لدى الحصري وياقوت وابن خلكان والشريشي والإسكندري؟! وهؤلاء جميعاً –عدا السكندري- رواة نقلة يفوق جانب النقل لديهم جانب التحليل.
وبعد، فيقع القارئ على مفاجأة يعجب بها أشد العجب من صاحب النثر الفني، لأن الماء كان من فأسه على ضربة واحدة تقع على الأرض ليتدفق الينبوع صافياً عذباً ومع هذه القرابة الدانية، فقد هجر الأرض إلى الصحراء ليبحث عن الماء، وكم مر عليه رائحاً غادياً ويراه بعيداً بعيداً، وهو منه على طرف الثمام في موضع سكناه، لا في الهواجر في الفلوات.
كان رائد المقامة الحقيقي في متناول كفّه، وقد تحدث عنه في فصل كبير ختم به الجزء الأول من النثر الفني تحت عنوان "حكاية أبي القاسم البغدادي" حيث قدم قصة نثرية على لسان شخص خيالي هو أبو القاسم البغدادي، وقال: "إنها مجلس واحد يطّرد فيه القول" من فن إلى فن، ومن دعابة إلى ظرف(10).
قرأت ما قدمه الدكتور من القصة، فإذا رُوح المقامة تثب وثباً، وإذا الدكتور يفطن إلى ذلك حين قال(11) وكأنه كان يخط القول ساهياً "وأبو القاسم رجل جمع أدوات النصب والاحتيال والنفاق وهو من بعض الوجوه يشبه أبا الفتح السكندري في مقامات بديع الزمان، فإننا نراه يداري أهل المجلس، وينافقهم ويلبس ثوب التقى والصلاح، حتى إذا رآهم على استعداد للهزل انقلب لاعباً متمرداً، عارفاً بغرائب الخلاعة والمجون".

ربّاه، أليس هذا منهج البديع، بديع الزمان بعينه، أيكون صاحب "أبو القاسم البغدادي" قد جاء بعده فما يجوز له أن يجلس منه مجلس الرائد؟! ولكن الدكتور نفسه ينص(12) على أن مؤلف القصة هو أبو المطهر الأزدي محمد بن أحمد، وأنه كان من الفتيان ذوي القدرة على العمل الفعلي والوصف القولي سنة 306هـ، كما ينص الدكتور نفسه في موضع آخر(13) على أن البديع الهمذاني قد بدأ كتابة المقامات بخراسان سنة 382هـ أي بعد أكثر من سبعين عاماً، فقد سبق المطهر الأزدي لا محالة صاحب ولو فرض أنه في عام 306 كان في سن العشرين فيكون عند ظهور أول مقامات البديع قد شارف المائة وأدرج في القبر، أو عاش حياً كميت لا يستطيع التأليف! حيث لا نعرف سنة وفاته للآن.
أخذت أقرأ ما استشهد به الدكتور الفاضل من كلام المطهّر على لسان أبي القاسم البغدادي، فإذا روح البديع مشرفة ترف، في حلاوة ازدواجه، ولطيف جناسه وطباقه وبراعة تهكمه، ولطف احتياله، وشدة ختله للسامع، وتغافله حين يُحسن التغافل، ثم ابتسام السخرية حين يتحقق وقوع الفريسة في الفخ، فإذا أراد القارئ مثلاً عاجلاً فليسمع مما حاكاه الدكتور من قول المطهر على لسان أبي القاسم وقد جعله يتصدر مجلساً ويحادث جاره من اليمين حديثاً يعلن فيه رضاه عن بلاغته الآسرة وحديثه الفصيح، ثم يلتفت إلى الشمال فيحدث جاره الآخر متبرماً بحديث من أطراه، ويبالغ في استرذاله ويعود إلى صاحب اليمين مرة أخرى فيأخذ في حديث الثناء، وينتقل فجأة إلى صاحب الشمال ليصل حديث الهجاء، وليسمع القارئ من ذلك بعض ما قاله المطهر على لسان أبي القاسم(14) بعد أن استمع إلى حديث صاحب اليمين فهتف به:
"يا سيدنا، ذا والله ليس كلام البشر، إنما هو سحر يُولّه القلوب والأسماع، كلام والله كبرد الشراب، ويرد الشباب، بل كالنعيم الحاضر، والشباب الناضر، قِطع الزهر، وعقد السحر، ما هو إلا كالبُشرى بالولد الكريم إلى سمع الشيخ العقيم، يُعافى به المريض، ويُجبر به المهيض، يقود سامعه إلى السجود، ويجري مجرى الماء في العود، قد اتسع له بحمد الله فشرع الإطناب، وانفرج عن مسالكه الإسهاب، فهو ينثر الدر، على الدر فيقول الذي على يساره: في أي شيء أنتم، فيغمز بعينه، ويقبل عليه، ويقول:
يا سيدنا، في محنة صلعاء بلا طاقة شعر، وفي كلام أثقل من الجندل، وأمرّ من الحنظل، هذيان المحموم وسوداء المهموم، لمثله يتسلّى الأخرس عن بكمه، ويفرح الأصم بصممه، كلام والله يصدي الخاطر، إن لم يعش الناظر، كلام تتعثر الأسماع من حزنته، وتتحير الأوهام من وعورته، لا مساغ له في الأسماع، ولا قبول من الطباع.
ثم يلتفت إلى اليمين فينشده صاحبه الذي يليه شعراً فيقول:
أعيذه بالله، ما أصفى نظره، وأنقى درره، وأعز بحره، وأحكم نحته وبخره، لو جُعل على الزمان لتحلّى بها مكاثراً، وتجلى فيها مفاخراً، شعرٌ والله يختلط بأجزاء النفس، فالآذان والله تصير أصدافاً لهذه الدر!
ويلتفت عنه ثانياً إلى اليسار فيقول:
يا سيدنا، أما كنت تسمع؟ هذا الشعر البارد العبارة، الثقيل الاستعارة، وتلك الإشارة الفاترة.. بلا حلاوة ولا طراوة، ليس إلا أقواء وإيطاء وأخطاء، لو شعر –أعزه الله- بالنقص ما شعر: ثم يقبل إلى صاحب اليمين.. إلخ..
أقول بعد هذا النص:
ليت شعري، أيهما أولى بانتماء المقامات؟ أروايات ابن دريد عن خنافر الكاهن والبنات اللاتي وصفن أزواجهن، ورواد قبيلة مذحج في الجزيرة العربية؟ أم رواية أبي القاسم البغدادي التي أبدعها المطهّر الأزدي في مقامة محبوكة تحفل بكل خصائص المقامات، أليس الماء من فأس الدكتور على ضربة واحدة.
لقد رسخ في ذهني منذ زمن بعيد أن المطهر الأزدي رائد هذا الفن، وكنت أتوق إلى أن أقرأ النص الكامل لحكاية أبي القاسم وأقع على الوثيقة تامة دون نقص وسألت فعلمت أن مستشرقاً كبيراً هو (ميس) الألماني قد نشرها في "هايدلبرج" سنة 1902م في طبعة كثيرة التحريف، وأن القصة قد راجت في دوائر الاستشراق حتى عدها الأستاذ "مكدونالد" أول نواة للقصة الفنية في الأدب العربي! ومعنى ذلك أن البديع الهمذاني قد سُبق بها في رأي مكدونالد، وإذ نقل بعض خصائصها الفنية فقد احتذى دون نزاع!.
ثم رأيت الأستاذ الدكتور علي العماري ينشر مقالاً في مجلة الأزهر تحت عنوان (نشأة المقامة) "رأي جديد" يقول فيه أنه اتهدى إلى رأي جديد ما يظن أحد سبقه إليه، وهو أن المطهر الأزدي صاحب حكاية أبي القاسم البغدادي هو الذي بدأ هذا الفن! فسارعت إلى استيعاب المقال الدقيق، فوجدته يقوّي ما اعتقد، ومن أحسن ما قاله الدكتور العماري في بحثه قوله(15):
(شخصية أبي القاسم البغدادي وشخصية أبي الفتح الإسكندري وهما الروايتان في القضيتين متشابهتان حتى في التسمية، وهما خرافيتان(16) وكل منهما جمع أدوات النصب والاحتيال، فترى الواحد منهما يداري أهل المجلس وينافقهم، فيلبس ثوب التقى والصلاح حتى إذا رآهم على استعداد للهزل، انقلب لاعباً متمرداً، عارفاً بغرائب الخلاعة والمجون).
ولكن، وويلي من لكن هذه! لم يُشبع الدكتور علي العماري، رغبتي في الوقوع على النص الأصلي للقصة، وأن كل ما استدل به مأخوذ من نقول الدكتور زكي مبارك عنها في النثر، وإذاً فلا يزال الظمأ متحرقاً لدي إلى قراءة الأصل نفسه، ولا أنكر أن الصديق العماري قد طمأنني إلى ما أرجّح، بل إنه أعجبني كثيراً وقد سارعت بتزكية رأيه على صفحات مجلة الأديب منذ أعوام وهذا حقه، ولا كفران.
ثم وقعت القصة في يدي فماذا رأيت؟
وجدت عملاً فنياً أوفى تماماً من صنع البديع الهمذاني إذ اقتصر على مشاهد متعددة لا رابطة بينها، فلكل مشهد مقامة خاصة به تضطرب في نطاق ضيق وجمالها الفني محصور في المشهد القصير، دون أن يكون امتداداً متسعاً تسلسل به الأحداث على نحو مطرد، وبعبارة أخرى فالمقامات شبيهة بأقصوصات، وقصص قصيرة لا تتصل الجارة بجارتها في شيء، أما حكاية أبي القاسم البغدادي فشبيهة برواية واحدة، بطلها لا يفارق مسرحه وجوّه ورجاله وزمانه، ولست أريد الحط من مقامات البديع، فتوفيق الهمذاني في مشاهدها المختلفة ليس موضع إنكار، بل مجال إطراء وتمجيد، ولكن توفيق المطهّر الأزدي قد كان أوفى وأكمل، وقد خالف منطق الأشياء فيما أبدع، إذ المنتظر أن يسبق المبتدئ بالمشاهد المتعددة على نحو ما صنع البديع، ثم نرتقي إلى المسرح الممتد، ذي المشهد الواحد، ولكن هذا ما كان!.
لقد قضى أبو القاسم يوماً كاملاً ابتدأه في دار أحد الأكابر، بأصفهان حين دخل متماوتاً يظهر النسك والتقوى، ويحيّي بالسلام في خشوع، ويقرأ آيات القرآن دون مناسبة، ويرتل القرآن في صوت يوحي بالبكاء كي يُشجي الحاضرين، ثم يعلم أن رواد المجلس من الشيعة فيأخذ في مدح الإمام علي كرّم الله وجهه ثالباً معارضيه، ومنافسيه ثم يقبل على الجالسين، ويتساءل عمن يراه من خدم وغلمان وحاشية –كما يسأل عن صاحب الدار فيوصيه بوصايا الكرم والتبذير، ويدعو إلى المبالغة في المأكل والمشرب والملبس استكمالاً للسمادة، داعياً إلى معاقرة الخمر والتمتع بالجواري والغلمان، ثم يهيج هائجه فيسب أهل أصفهان شعراً ونثراً، وهو بعد ضيف ينزل في ساحة رجل من كرامها، ويعقد مقارنة بينها وبين بغداد مرتفعاً بعاصمة الخلافة وتهاوياً بأصفان، ثم يصيح آتنا غذاءنا، فيجيء الغلام داعياً أهل المجلس إلى مائدة متخمة باللحوم والشواء والطيور والفواكه والشراب، فيهيم أبو القاسم في وصف المائدة ما بين شعر رائق، ونثر فائق، ثم ينقلب مادحاً أصفهان وثالباً بغداد، فيقول له أحدهم يا أبا القاسم: أما كنت تمدح الثانية وتعيب الأولى؟ فينشد شعراً كثيراً منه قول القائل:
أطال الله في بغداد همّي=وقد يشقى المسافر أو يفوز
ظللتُ بها على كره مقيماً=كعنينِ تعانقه عجوز!
ثم يرتد ثانية إلى مديح بغداد وكأنه لم يتناولها بالهجاء، ويتحدث مع مجاوريه، فيخاطب مَن على يمينه بضد ما يخاطب به من على يساره –وقد سبق- ثم يصل الحديث حتى يحين العشاء فتتوالى سقطاته وتتتابع عثراته حتى يضجر القوم فيتشاوروا في الخلاص منه، ويلجأوا إلى إتخامه بالشراب كأساً وراء كأس حتى يهمد ثم يفيق، فيتبين مشاعر الكراهة في جلسائه فيصيح بهم: يا كلاب، يا ذئاب، يا يهود، يا بقايا عاد وثمود!!
وما يزال يهذي حتى يأتلق نور الصباح فيصيح: مرحباً بالنهار الجديد، والكاتب الشهيد، ويعابث الجماعة بالنكات قبل أن يفارق غير مشكور.
هذا هيكل عظمي للحكاية الممتدة، أما أسلوبها البديعي، فيدلك عليه، ما استشهدنا به، نقلاً عن النثر الفني في هذا المقال، وهو بعينه النمط الذي احتذاه البديع وأبدع فيه.
وإني لأتساءل: ألا يكون المطهر الأزدي بعد ذلك كله هو رائد المقامات؟
وتقول لي: ولكن التاريخ ضن عليه بترجمة مسهبة، فلم يذكر عنه غير خطرات تدل على وجوده شاباً في أوائل القرن الرابع، وقد جاملته الأيام حين حفظت (حكاية أبي القاسم البغدادي فكانت وحدها دليل نبوغه، وآية سبقه، وتكاد تغني عما فاتنا من معرفة أحواله في حياته؟
ولعمري لقد دلت على معدن فنه البياني دلالة واضحة، فإذا كشفت المخطوطات فيما بعد عن تاريخ واف بحياة الرجل، فتلك أمنية ليست عزيزة المنال.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) زهر الآداب ج1 ص307 ط ثانية بتحقيق الدكتور زكي مبارك.
(2) النثر الفني في القرن الرابع ج1 ص200 ط ثانية. تأليف الدكتور زكي مبارك.
(3) النثر الفني ج1 ص 200 ط ثانية.
(4) النثر الفني ج1 ص 230 ط ثانية.
(5) الأمالي ج1 ص 16 دار الكتب.
(6) الأمالي ج1 ص 37 دار الكتب.
(7) مجلة الرسالة العدد 46 السنة الثانية 21/5/1934 من بحوث الدكتور عبد الوهاب عزام الرائعة عن بديع الزمان الهمذاني حياة وأدباً.
(8) مجلة الرسالة العدد 399 /24/2/1941.
(9) مجلة الرسالة العدد 401 /10/3/1941.
(10) النثر الفني ج1 ص 388 ط2.
(11) النثر الفني ج1 ص 338 ط2.
(12) النثر الفني ج1 ص 339 ط ثانية.
(13) النثر الفني ج1 ص 206.
(14) النثر الفني 342، 343، ط ثانية.
(15) مجلة الأزهر المجلد السادس عشر ص 316.
(16) وذكرت بعض الروايات أن أبا الفتح كان حقيقة لا خيالاً إذ عرف البديع من أهل عصره من يتخذ سبيله كما جاء في المقامات، فاستلهمه ما كتب ورمز إليه بأبي الفتح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى