فؤاد حجازي - المشهور.. قصة قصيرة

أمر قائد سريتنا الرقيب مأمون بعمل خط دفاعي بالألغام لإعاقة وصول أية نجدة من مدرعات الإسرائيليين لنجدة زملائهم المحاصرين في احدي نقاط خط بارليف اختاروني وزميلي "المشهور" لمرافقته.
ولم أكن للرقيب مأمون أية مودة كان يمنعني من الخدمة الليلية عند سور الوحدة وهو المكان الذي يفضله المجندون حيث تقيم بائعة خضر ويجعلني اخدم جوار بوابة الوحدة فلا استطيع ان اغفل لحظة خشية حضور أحد.
وفي الصباح الباكر انتبه علي صيحة بائع ارز باللبن لا ادري من أين يأتي وهو يصيح: غير ريقك بالصلاة علي النبي وعندما يقترب لا أملك نفسي من الضحك كان يضغط بجفونه ويفتحها كمن يعاني من صعوبة في ذلك وحركة شفتيه لا تتناسب مع مخارج الحروف أفيق تماماً وقد زاملني كسل آخر الخدمة وتعطش جسدي للنوم وأكون مستعداً تماماً لأداء التحية العسكرية عند حضور القائد.
أدينا المهمة وتبقي لغم واحد مع "المشهور" فجأة انفجر لغم أفراد مزروع تحت قدميه اصيبت قدماه ولكن اللغم مازال في يديه.. ذعرت.. ولم ادر كيف اتصرف.
أسرع الرقيب مأمون إلي احتضانه وجري به عدة أمتار ولم يكد يتركه حتي انفجر اللغم في بطنه واصيب الرقيب في احدي فخذيه. وسرعان ما سمعنا صوت مدرعة إسرائيلية تحامل علي الرقيب حتي وصلنا خلف تبة.. نزل فردان من المدرعة وأطلقا الرصاص من رشاشيهما في كل اتجاه ووضعا بعض الالغام تحت جسم "المشهور".
تبادلت مع الرقيب نظرات قلقة بالسؤال عن كيفية احضار زميلنا.. قال الرقيب مأمون:
- لابد من وسيلة؟
- كيف..؟!
- الجيش قال تصرف.
اتصرفت وأنا لا أدري كيف اتصرف بعد ان رجوته ان يظل كما هو حتي أعود.
فكرت في يد الجرافة الحديدية التي يحركها السائق من برجه العالي لنشل "المشهور" لكن أي سائق سيلبي ندائي والجميع مشغولون في استكمال فتح السواتر الترابية وفي تهيئة أماكن تمكنهم من الاشتباك مع الإسرائيليين رأيت سلالم الجبال علي جانب أحد السواتر فانبثقت في رأسي الفكرة.
وصلت إلي حفرة يقبع فيها قائد السرية فأبلغته بالموقف وبفكرتي فلم يزد عن القول: نفذ.
وأمر باستدعاء أحد أفراد السرية الطبية لتضميد جرح الرقيب مأمون.
انتظرت اسفل ساتر ترابي حتي خلي أحد السلالم واخذته واسرعت برفقة سائق احدي عربات نقل الجنود إلي موقع "المشهور" خشيت ألا ينجح الأمر فيسخر مني الرقيب مأمون وهو الذي دائماً ما سخر من الجنود "المؤهلات" يعدهم مشاغبين ويبعدهم عنه بحجة اراحتهم خاصة إذا تصادف وجودنا وقروانته المقدسة كما سميناها في طريقها إليه.
اختار لاحضارها جندياً من "العادة" جعله موضع سره وتصادف وجودي مرة وهو ينهره لأن المقدسة ليست ملأي باللحم كما يجب فأشرت لما هو مرسوم بالأخضر علي وجنتي الجندي وقلت: تعيين الحمام لم يفهم الرقيب فأوضح له "المشهور" وكان برفقتي: تعيين الحمام.
وعلقت ضاحكاً: الحمام طار لم ينتبه الرقيب في غضبه أنه يقذفنا بالقروانة المقدسة وان ما فيها تبعثر علي الأرض المتربة.
سرت بحذر وانحنيت وقلبي يرجف.. شبكت طرف السلم حول رأسي "المشهور" وتراجعت غير مصدق وجسدي ينضح بالعرق.
شبكت الطرف الثاني من السلم في ظهر العربة وجريت بعيداً لست أدري كيف حدث الأمر.. يخيل إليَّ ان السائق داس "فتيس الغرز" فقفزت العربة إلي أعلي مندفعة إلي الأمام وقد سحبت "المشهور".. وتوالت الانفجارات.
لففت الجسد في علم مصر كان في "الشدة" خلف ظهره احتفظ به كتذكار لأننا صلينا عليه صلاة الظهر بدلاً من الجمعة في الخامس من أكتوبر عشية بدء الحرب وكانت الأوامر ألا نصلي الجمعة جماعة في المسجد.
وأوصي جندي السرية الطبية بضرورة نقل الرقيب مأمون إلي مستشفي الإسماعيلية لأن نزيف جرحه لم يتوقف وأنا اساعده علي ركوب العربة لحظت انه تحاشي ملاقاة نظراتي.
اتراه احس بالخجل لسابق سخريته من "المؤهلات" أم لرفضه الحضور معي إلي مكتب الرائد رئيس مكتب شئون الأفراد في اساس تدريب المشاة للمساعدة في صرف مستحقات "المشهور" المعلاة في الأمانات.. يومها عاجلني: "المشهور" قبض لم اصدقه وحين التقيت "المشهور" أكد لي والأسف يغلف وجهه.. راتب هذا اشهر فقط.. وإزاء عجبي لعدم صرف الباقي اخبرني ان ضابطاً جديداً جاء لشئون الأفراد فشكا إليه ان اسمه المدون في بطاقته العسكرية هو عبدالرحمن "الشهير عبده" سليمان نور لم يلتفت أحد الكتبة العسكريين وهو يكتبه في دفتر الماهيات إلي القوسين وكتب اسمه: عبدالرحمن الشهير عبده ظاناً وكتب اسم: عبدالرحمن الشهير عبده أن ذلك اسمه الثلاثي بذلك اسم الثلاث.. ويرفض الضابط المختص تسليمه راتبه.. تفهم الضابط الجديد المشكل وصحح الاسم طبقاً للبطاقة العسكرية لكن بقي ما هو معلي في الامانات دون حل.
وكنا قد غادرنا منطقة العزل إلي الاساس وعبدالرحمن دون راتب لعدة شهور وليس له مصدر آخر للدخل بعد ان انقطع راتبه فور تجنيده عاجز عن شراء شي من المقصف لايغادر الوحدة في الاجازات وطلب منه احدهم ان يحضر شهادة ميلاده.. كيف وهو عاجز عن السفر إلي بلدته في الصعيد لاستخراج شهادة جديدة أما شهادته في ملف الوظيفة فيستحيل اعطاؤها له.
وذهب "المشهور" وحده إلي مكتب الرائد وتصادف ان كان سيادته في مزاج غير موات فأمر بحبس كل الموجودين أمام مكتبه ثلاثة أيام "حبس قشلاق".. وعندما علمنا انفجرنا جميعاً ضاحكين.
عبرت بنا العربة إلي الضفة الغربية للقناة وأوصلنا الرقيب إلي مستشفي الإسماعيلية وسلمت "المشهور" إلي الضابط المختص نادي بعض الجنود وطلب منهم الاستعداد لتقديم العزاء لأهله عاودا بسرعة وقد أصلحوا من هندامهم واخذوا ما يلزمهم في رحلتهم.
كتفاً سلاح
وتقدم الضابط يفتش علي بنادقهم وذخيرتهم فعند مثواه الأخير سيعطنون كحرس شرف ويطلقون النار تحية له.


فؤاد حجازي المنصورة
* الجمهوريةـ في 18/2/2010م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى