حسني سيد لبيب - ما جناه أبي.. قصة قصيرة

منذ رقد أبي على فراش المرض، بات يقلقني رنين الهاتف. أهرع لالتقاط السماعة. غالبا ما يكون المتحدث أمي، أو أختي، أو أبي نفسه. أعرف منهم تطور حالته، ربما يستدعونني، لوقوع أبي من فوق السرير، ويخشى أن يكون الكسر لم يلتئم، أو أنه أصيب بكسر ثان..
لم أنتظر رنين الهاتف، فأكثرت من المرور على بيت الأسرة الذي يبعد عني مسيرة عشر دقائق على الأقدام.
سمعت مؤخرا صوت أبي، عبر أسلاك الهاتف، كأنه صادر من بئر عميقة. صوت واهن، لكنه واضح.. يحكي لي عما حدث صباح هذا اليوم.. إذ استطاع النهوض عن الفراش والمشي. قلت أستوثق من كلامه:
ـ هل مشيت يا أبي ؟
ـ نعم.. مشيت..
صمت برهة ثم قال:
ـ وعبرت الشارع.. وحدي..
ـ ما شاء الله..
طفق يحدثني عما حدث تفصيلا. وكيف مشى مع رجال الشرطة وجمع من الناس، حتى وصل إلى قسم الشرطة، فوجد والدتي سبقته إلى هناك!
حكى لي عن ضابط الشرطة الذي رنا إليه، لكنه لم يتهمه بشيء. قلت مندهشا:
ـ والدتي.. ماذا كانت تفعل ؟
ـ لا أدري..
قلت معقبا:
ـ كثيرة هي الأحلام.. تصور لنا عالما جميلا، أو غريبا..
كانت والدتي دائمة الشجار مع أبي. لعل الحلم إسقاط طبيعي للعلاقة غير الودية بينهما.. لكن أبي نفى بشدة أنه كان يحلم.. إنه يسرد واقعة. يؤكد لي ذلك، ويؤنبني، أو يعاتبني على ظني الخاطئ..
كرر رواية ما حدث، فرفعت عقيرتي متضايقا من تحويله الخيال إلى واقع:
ـ يا أبي.. اخرج من دائرة الحلم.. عد إلى الواقع..
قال بصوت هادئ:
ـ تعال..
ـ حاضر..
وضعت السماعة وقد خشيت أن يكون أبي يعاني ما يسبق الموت من روايات لرؤى لا تمت لواقعنا بصلة. لكن أبي طلبني على الهاتف، أي أنه طلب رقم هاتفي، دون أن يخطئ، هذا دليل على أنه في حالة من الوعي لا أنكرها.. أما السير على قدميه، وهو طريح الفراش من جراء كسور العظام في الفخذ والحوض، فهذا لا أصدقه، إلا إذا حدثت معجزة من السماء. أجرى جراحة في العظام لعلاج الكسور، لكنه لم يبرأ من الجراحة بعد. عدوت الطريق إلى بيت والدي، وعندي أمل أن أجده يمشي. أصبحت مثله، أتوهم الأمنية واقعا.
راجعت علب الأدوية الموضوعة على (الكومودينو). تأكدت من تناوله العلاج في موعده. حدثني بتلقائية، وهدوء نفس.. عاد يروي لي ما حدث له. نفس الرواية لم يزد أو ينقص منها حرفا واحدا. كأنه يعيد قراءة نص في كتاب دون تغيير أو تبديل. عزوت ما حكاه إلى أنه حلم، فتنهد في ضيق من سوء ظني أو سوء فهمي. عدتُ إلى الواقع، فألفيته متنبهاً لي، لم يشرد أو يغفُ. شكا لي من أمي..
تركتَه في غرفته بالطابق العلوي، وجالستُ أمي في الطابق الأرضي. لابد يا أمي من مصالحة أبي. إنه يعاني. تصمت. لا تجيب! تشكو لي هي الأخرى من مرضها.
سمعتُ صوت أبي ينادي على أمي وهو على درج السلم. هرعتُ إليه. وجدته يحبو هابطا الدرج، على يديه وقدميه.. طفلا يجلس إلى جوارها.. يصالحها.. يتأمل غرفتها التي لم يزرها منذ مرضه. مضت شهور لم يبارح غرفته العلوية. قال لي وهو يشير إلى عدة الهاتف الجديدة:
ـ لم أرها من قبل..
ـ اشتريناها منذ أسبوعين..
صمت طويلا، يتوقع من أمي الاستجابة لكلماته. رجوتها أن تتحدث إليه، ولو بكلمة واحدة، فأعرضت عني وعنه. يا لها من قسوة. ما الذي جنيته يا أبي في حقها ؟
انحدرت دمعة حبيسة على خدي..
عاد أبي من حيث أتى. لكني، في هذه العودة، أمسكت به وساعدته على الوقوف. ساعدتني أختي من الجهة الأخرى. صعد درجتين، وعند الدرجة الثالثة توقف. صدره يعلو ويهبط من ضيق شديد في التنفس.. فحملته بين ذراعيّ، وصعدت به إلى غرفته. أرقدته الفراش. جالسته أخفف عنه الجفوة. أروي له عن مرض أمي. هي تعاني كثيرا. غاليت في وصف مرضها المفاجئ، فصدق ما قلت.. كأنني مددتُ إليه قارب نجاة يعبر به نهر الهواجس.. كان مستعدا أن يصدق أي شيء يطمئن خاطره، ويخمد زوابع القلق.
نزلت الدرج لألتقي أمي. ما كان يجب أن تجافيه، أو تخاصميه.. فزجرتني.. حدثتُ نفسي:
"هل قدّتْ قلوبنا من الصخر ؟".
عدتُ إلى بيتي، أستغفر الله له، ولأمي، ولي..


حسني سيد لبيب
* مجلة "الرافد".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى