حسني سيد لبيب - قمر الحب

من نافذة غرفته، حيث يسهر مع فرشاته، يطل عليه القمر، من بين غيوم وسحب. يرنو إليه، معجبا مزهوا.. صورة خلابة، يضفي عليها سكون الليل تكوينا بديعا يموج داخل نفسه. منذ كان طالبا يدرس الفنون والصورة القمرية تشاغله، تملأ عالمه.. حتى تشكلت في مخيلته صورة بديعة. يداعبه حلم زاه برسم اللوحة، لكنه يتأنى ويتروى، حبا في أن تكون أجمل اللوحات. كل مساء، يضيف رتوشا إلى اللوحة المنطبعة في مخيلته.. هذا القمر الخلاب، مرة يبدو ضاحكا ملء شدقيه، وأخرى باكيا ملء مقلتيه.. كأنه يشارك سكان الغبراء ما هم فيه من حال لا يستقر.
يمسك بفرشاته.. يرسم اللوحة.. كما رآها وأحس بها.. شجعه على رسمها، ذلك الوجه المطل عليه من الشرفة المقابلة، وجه الحسناء الفاتنة. يقضي ساعات الأصيل رانيا إليه. حسناؤه هادئة الطباع. تجلس وتقرأ كتابا ما. قلما يتصادف أن تلتقي النظرات. ظل من بعيد يرقب هذا الوجه كل مساء، حتى يغيب عن ناظريه خلف ضلف النافذة الخشبية.
يطل عليه القمر، فيرنو إليه، كأنه يستعيض به عن وجه فاتنته، ويكمل المساء معه. وبقلبه الرهيف وحسه الشفيف، يترجم فؤاد أحاسيسه تجاه الفتاة بنظرات إعجاب وافتتان بالقمر!.. ظل يداعب فرشاته، راسما بخطوط انسيابية أشبه بخيوط الحرير، تلك اللوحة الطبيعية. وحين أحب أن يرسم وجها للقمر، احتار في رسمه. هل يرسمه ضاحكا أم باكيا؟ استقر أخيرا على رسم وجه. ثم رسم سحابة خفيفة تغشى وجه القمر، وإن كان مطلا من بين الغيوم بضحكته. واستغرق في رسمها قرابة الشهرين.
تزهو في أعماقه صورة حلوة لجارته الفاتنة ندى.. يخايله خاطر يحبب إليه لقاءها. لا تكفي النظرات عن بعد. ألا يكفي ذلك القمر المطل من السماء العلية؟ أحب وجه القمر وهو في كبد السماء، وأحب وجه ندى وفتن به، من تلك النظرات المتبادلة عبر نافذته وشرفتها، ولا شيء أكثر من النظرات.
بعد أن وضع اللمسات الأخيرة على لوحته، سمّاها " قمر الحب ". الاسم يربط بين وجه القمر ووجه ندى. ولكن.. هل صارت ندى حبيبة؟ هل يُكتفى في الحب بالنظرات العابرة؟
وفد من قرى الصعيد، واستقر به المقام في تلك الغرفة الضيقة. لا أحد يؤنس وحدته، يشاركه حياته. لا أحد يطرق باب غرفته. وأحاط نفسه بسياج العزلة، هذا أقرب إلى طبيعته.
ظلت ندى فتاته الحالمة، وشغله الشاغل. يرعاها في فؤاده، ويطمئن عليها في عالمه الصامت. يحلم بها بين ذراعيه، ويرتقي بها في خياله مدارج الكمال. ما إن يرد ذكرها على لسانه، حتى يخفق قلبه خفقانه السريع المتلاحق.
وبات طبيعيا أن يراها كل يوم من نافذته..
ظل على إعجابه الصامت، يشيع في صدره الراحة والصفاء، ويسري في دمائه الطهر والنقاء.. حتى أنه تمادى في خيالاته، ورسم لها صورة ملاك سماوي يرفل في ثوب أبيض. فما أحب أن يلتقي بندى على أرض الواقع، مؤثرا الاحتفاظ بصورتها الحالمة التي تبث الراحة في نفسه. تكمن سعادته في الإلهام الذي أوحى إليه برسم اللوحة، وعشرات مثلها من تلك اللوحات المشبعة بالخيال الأسطوري.
ثم أتى عليه ليل بلا قمر!..
يطل من نافذته فلا قمر على صفحة السماء، ولا فتاته ندى جالسة بشرفتها، فقضى ليلته مؤرقا مسهدا. ولم يواته نوم.
يلح على خاطره سؤال : لماذا تعترينا الرغبة في البكاء؟
حديقة الشتاء، يذبل فيها الورد، تصفر أوراقها الخضراء. حديقة الشتاء تشكو زائريها ما أصابها من عري وتجريد. حديقة الشتاء ترسل أنات الحزن، ولكن بلا دموع.
يتهامس الطير بين الأشجار بصوت مخنوق : لماذا تعترينا الرغبة في البكاء؟
يلملم شوارد أفكاره مغلقا نافذته بعد أن ملّ الانتظار. وندى، الوجه الحالم الغائب، لم يظهر في الأمسيات التالية. خيم الحزن، وانتشرت من حوله خفافيش الظلام.
ذات ليلة، ينهض من نومه مذعورا، ثائرا، ملتهب الحس، مضطرب القلب.. فلم تزل ندى تشيع الأمل والحب والنور.. لم تزل ندى للقلب نبضه وحياته..
تزهو في مخيلته لوحة رائعة لقمر الحب، وبدلا من ذلك القمر المطل من صفحة السماء يرسم ندى وجها قمريا ضحوكا. ومن جديد، يمسك بفرشاته، راسما بخيوط حريرية انسيابية، صورة ندى القمرية. وبدلا من السحب والغيوم التي تكتنف الوجه وتحيط به، يرسم خيوط الشعر الحريري الناعم، متموجا، على شكل طيات متلاحقة، كأن كل طية تثب لتسبق الأخرى. ورسم على الشفاه ابتسامة هادئة، فأصبح الوجه ضحوكا كالقمر. ثم رسم دمعتين على خدين متوردين، لا تكادان تبدوان للناظر.
وأطلق على لوحته اسم " خلود ". فهل يقصد به خلود الحب، أم خلود الجمال، أم أنه يقصد رسم ملاك سماوي سيئوب إلى التراب؟!
استغرقته اللوحة.. تواتيه الرغبة في إكمالها حين يرى ندى، ويعزف عن ذلك حين تغيب عنه. مضت أيامه بين مد وجزر. اكتملت اللوحة، وفتن بها وبألوانها. حفظها في مكان مكين. واعتبرها درة غالية لا يفرط فيها أيا كانت الأسباب.
الدنيا يا فؤاد لا تستقر على حال..
الدنيا تدور..
كل شيء في الدنيا يدور..
حقيقة علمية، مؤكدة، ومبرهنة..
كل شيء في دنياك يتحرك..
وعالمنا موار، لا يستقر ولا يهدأ..
ثم أطل على الدنيا ليل بلا قمر.. لكنه ليل طويل لا يعرف له آخر. بدأ ظلامه حين أظلمت الشرفة، حين باتت خالية جرداء. وتسلل الظلام إلى شعاب نفسه مع تعاقب النهار والليل. حتى القمر المطل عليه من السماء العلية، بدا باكي الوجه، مكفهرا، مشاركا صاحبه الأحزان.
فهجر فرشاته، واعتراه هم ثقيل.
ويأتيه جاره " رفيق " بالخبر اليقين. تزوجت ندى من ثري عربي، وسافرت معه إلى بلده. لم يشأ أبوها أن يقيم حفلا، أو يذيع خبرا، مؤثرا إتمام الزواج في صمت. لاحق فؤاد جاره بأسئلة واستفسارات، لكن رفيق لم يكن يعرف أكثر مما قال.
أراه اللوحة، فأعجبته..
ـ رائعة..
قالها وهو منبهر بجمالها.
قال فؤاد :
ـ فيما يبدو أنها تزوجت رغم أنفها.
ـ ربما..
بعد فترة صمت، استطرد رفيق :
ـ هل كنت تحبها؟
ـ لا أعرف.. لكني فتنت بجمالها.
وأكمل فؤاد رحلة الحياة مفتقدا الأنيس الصامت الذي كان يطل عليه، نموذجا رائعا للجمال. وكان أروع ما في صورة ندى، صمتها!.. فاستهام بهذا الصمت، الذي أشاع عنده الإحساس الدفاق بالجمال. يرى في الصخب وفي الكلام عامل إحباط يفسد الصورة الجمالية، بينا يشكل صمت التماثيل والرسوم والصور جانبا من جوانب الجمال.
غاب عنه الأنيس الصامت..
وواصل وحده رحلة الحياة، ولم تزل صورة ملهمته منطبعة في خاطره. يود أن يرسم لها عشرات اللوحات، لكن الأمنية أحبطت.
وتمر سنوات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. فينتقل فؤاد من غرفته الصغيرة الضيقة، إلى شقة أكثر اتساعا، ولم يزل عزبا، لا يفكر في زواج، مرتضيا زواج الفن. وذاعت شهرته، حتى ذكر اسمه في أعمدة الصحف، فنانا مرموقا.
يقيم معرضه الأول، فيطبع بطاقات دعوة مرسوما على غلافها رسما مصغرا للوحته " خلود "، رسما مصغرا لوجه ندى بشعرها المتموج على جانبيْ الوجه.
يتوافد العشرات من محبي الفن. ويكون حصيلة المعرض بيع لوحات كثيرة، لكنه لم يشأ بيع لوحة " خلود "، التي كتب عليها لافتة " للعرض فقط ".
تكثر أسئلة الزوار حول " خلود " معجبين بها، مفتونين بجمالها وتناسق ألوانها. وعرضت عليه مبالغ مغرية، فما فرط فيها.
وفوجئ بجاره القديم " رفيق ".. يحييه بحرارة.. ويستعيد معه بكلمات مختصرة ذكريات الحي القديم، أيام كان طالبا يدرس الفنون. ثم يتطرق الحديث إلى ندى.. يعقب رفيق :
ـ أراك تضع " خلود " في مقدمة لوحاتك.. ألا تريد معرفة أخبار ملهمتك؟
ـ ماذا عنها؟
ـ عادت إلى مصر منذ شهور. لم تنجب من زواجها أولادا. وطلبت منه الطلاق فطلقها.
ـ في نفس الشقة؟
ـ وتجلس في نفس الشرفة.
يشرد فؤاد..
عبق في الجو عطر قديم محبب إليه. ارتحل إلى الماضي. أفاقه من شروده صحفي متحمس للفن، بسؤال مفاجئ :
ـ لماذا سميتها خلود؟
ـ من تقصد؟
ـ لا أقصد شخصا. أقصد لوحتك الرائعة " خلود ".
ـ خلود..
وابتسم قبل أن يجيب :
ـ قد يكون الخلود رغبة مستعرة في نفس الفنان، رغبته في أن يخلد لحظة جمالية ما.. لحظة عاشها الفنان وفتن خلالها بجمال أخاذ، فأحب أن يكون هذا جمالا خالدا.
ـ ربما يكون تجسيدا لمعنى " الجمال الخالد ".. إذا صحت التسمية.
ـ ربما..
حين هم رفيق بالانصراف، حدد معه موعد لقاء!
ولم ينس أن يكاشفه برغبته في زيارة ندى، قال :
ـ أود أن أزور أباها.
ـ تعش أنت .. قد توفاه الله منذ عام.
أطرق أسفا، واستطرد رفيق :
ـ تقيم مع أمها العجوز. هل ستطلب يدها؟
ـ ولم لا؟
ـ مستعد أنت للزواج؟ .. متهييء له؟
ـ كما تعرف، لست متحمسا للزواج. لكن.. لماذا لا أفكر في الاقتران بملهمتي التى شغلت بها، وفتنت بصورتها؟
وكان لقاء ..
أحب فؤاد أن يجدد بهذا اللقاء صورة من صور الماضي الجميل.
ضم المجلس ندى وأمها، ورفيق وفؤاد. تبادلوا حديث الذكريات عن أحوال كل منهم منذ خمس سنوات. كانت ندى أكثر إنصاتا وصمتا. قال رفيق لندى :
ـ فؤاد فنان مرهف الحس. ألا تعلمين أنه رسم لك صورة رائعة؟
ـ وهل رآني جيدا حتى يرسمني؟.. لا أذكر أننا التقينا.
قال فؤاد :
ـ من نافذة غرفتى، سمحت لنفسى أن أتطلع إليك، فانطبعت فى وجدانى صورة فذة اختلط فيها جمالك بما أحس به.
ـ هل تأذن لى برؤيتها؟
ـ طبعا.. طبعا..
وتحدد موعد ثان للقاء.
ولما انصرفا، سأل رفيق :
ـ لماذا لم تطلب يدها؟
ـ ...
ـ أم أنك ستعيد النظر فى اللقاء الثانى؟
رمقه فؤاد بنظراته وصمته..
وفى اللقاء الثانى، لم يشأ رفيق أن يأتى معه. زارها وحده، متأبطا لوحته.
كانت ندى على قدر من الثراء أكثر من ذى قبل، بما لديها من مال مدخر، استثمرته فى مشروع تجارى صغير. ولما عرفت أن فؤاد أقام معرضا، باع فيه عددا من لوحاته، قالت وكأنها فطنت إلى ما يرمى إ ليه :
ـ حلوة، وجذابة.. بكم أشتريها؟
ـ إنها لا تشترى..
واستمرآ صمتا طويلا. قامت أمها تعد الشاى. استطرد فؤاد، وهو يرمقها بحنين الماضى :
ـ ولكني أهديها.. إلى صاحبة الوجه القمري الحالم، الذي فتنني، وألهمني هذه الرتوش.
ـ شكرا.. لكنك تعبت فى رسمها .
ـ أكون سعيدا لو قبلت الهدية.
ـ شكرا.. على الهدية الجميلة..
ثم قالت بعد لحظة صمت :
ـ ولكن.. لماذا سميتها " خلود "؟
احتار فيما يخالجه من أحاسيس. إنه يجلس قبالة ملهمته عن قرب. ولكن ثمة أميال تعد بالآلاف تفصل بينه وبين الوجه الذي استهام به منذ سنوات.
كررت السؤال..
ارتجل بضع كلمات...
ـ فيما يبدو أن غرور الفنان هو الذى أملى الاسم..
ورنا إلى وجهها، ثم كسر حدة الصمت مرتجلا كلمات أخرى :
ـ كان هذا منذ خمس سنوات.
ـ أعرف أن لا شئ خالد في الحياة.
ـ حقيقة دنيوية معروفة للجميع .
أتت أمها بأقداح الشاى. وأنصت كلاهما لحديث الأم عن ذكريات زمان، وعن مقارنة لاترحم بين أسعار السلع منذ ثلاثين سنة والوقت الراهن.
ثم استأذن فؤاد منصرفا.
يلتقي به رفيق بعد أيام، يسأله :
ـ هل طلبت يدها؟
ـ ...
ـ هل قوبل طلبك بالرفض؟
ـ لم أطلب يدها..
ـ هذا ما توقعته.. لهذا لم أشأ الذهاب معك. صدق ما ظننته من أنك وجدت صورة مغايرة لصورة ملهمتك.
ـ كأنهما صورتان مختلفتان جد الاختلاف..!
استطرد بعد صمت قليل :
ـ هل تستطيع السنوات الخمس أن تغير أحاسيس الإنسان؟ لا أكتمك القول يا رفيق.. لم أجد في ندى هذا الشيء المثير الذي كان يلهمني..!
ـ ربما زواجها هو الذي غيرها؟
ـ نعم هو الزواج..
ـ لا تتسرع في الحكم.. ربما أنت الذى تغيرت؟
ـ نعم هو أنا..
ـ ولا تتسرع في هذا أيضا.. ربما السنوات الخمس قد أحدثت تغييرا وتبديلا؟
ـ نعم هي السنوات الخمس..
ـ لاتتسرع أيها الفنان المغرور. ألا ترى أنك تسرعت في تسمية لوحتك الجميلة " خلود ".. بعدما لمسنا ما لمسنا؟
ـ لم أتسرع.. ما زلت مصرا على إبقاء الاسم كما هو..
جال ببصره فى السماء الواسعة العريضة، باحثا عن قمر الحب، الذى أطل عليه منذ سنوات خمس..
وكانت شمس الظهيرة قد ملأت الكون بنورها ونارها..


ــــــــــــــــــــ
* مجلة " القصة " ـ القاهرة ـ يناير 1981م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى