يوسف جوهر - المعلم لوقا.. قصة

اجتاز الترام الميادين والشوارع، وأخذ ينساب بين الحقول في الطريق إلى الأهرام؛ وكان القمر قد نفض الغيوم عن وجهه، وبدا سافرا يضحك للحقول، ويحنو على النباتات المرتجفة في نسيم الليل، ويناغي الأغصان المشرئبة اليه من أعالي الأشجار، فانبسطت أسارير (المعلم لوقا) سائق المركبة، وفارق العبوس وجهه الهزيل اليابس، وأخرج علبة سعوطه وأدناها من أنفه، ييلتمس الصحو والانتعاش.

لم يكن الرجل في حال حسنة، لأن الليلة باردة قارسة البرد، وهو مسن، ليس في هيكل من اللحم ما يقي عظامه المقرورة، ولو كان معافى لما شكى، لكنه مريض، مبهور الأنفاس من السعال، معصوب الرأس، يحرك عينيه بعناء كأن السعال قد شدهما في محجريهما بخيوط قوية. . . ما كان أحوجه أن يأوى الى فراشه! لكنه آثر أن يشتغل الليلة، ليظفر بيوم راحته في الغد، لأن الغد (عيد الميلاد) وهو يريد أن يبقى في البيت مع زوجته (كتُّورة) وابنته (ياسمينة) يستقبل المهنئين بعودة الأيام، والمتمنين أن يمضي الحول، فاذا بياسمينة أم لطفل جميل.

وإذ ذكر (عم لوقا) فناته ابتسم، ونظر في ساعته يتعجل ميعاد العودة، ثم أرسل بصره في الطريق أمامه، وابتدأ يغرق في تأملاته: كم له من السنين وهو يقف هذه الوقفة؟!. . إنه الآن شيخ! كان فتى عندما ارتدى سترة (المصلحة) للمرة الاولى. كان وجهه ناضراً، وشاربه أسود مفتولا! وكان له حاجبان جميلاً! وكان شعره مرتباً معطراً!. . أما الآن فقد صار يابس الوجه! ظهر الشيب في حاجبيه، وعبثت بجمالهما الأيام! ولم تعد رأسه معطرة مزينة، بل استغنت عن المطر بأرد الصابون؛ ولم يعد للمشط معها شأن، لأن شعرها قد انتحل، ولم تذر الأيام منه غير بقايا مبعثرة متباعدة. . . وندت عن صدره آهة طويلة وهو يغمغهم: (ما أعجب أمر الحياة!!).

واكتابت نفس (لوقا) واشتد عليه صداعه، واستيقظ سعاله، فاضطربت الصور في مخيلته، وانهدت قواه، ولم يعد يملك كل وعيه، وصار يستقبل بذهول هذه الأصوات المنصبة في أذنيه من ضجيج العجدلات، وصريرا لآلة، وهمهمة الأشجار في أذن الليل. . . فلما وصل التراتم الأهرام تهالك في مقعده، وأغمض عينيه وهو يتحسس بيده جبهته الملتهبة، ويحدث نفسه: لا بأس. سأقضي العيد مع ياسمينة، وارتسمت فوق شفتيه ابتسامة سعيدة، ورقص شاربه الفضي.

حاول لآن ينام ريثما يحين وقت العودة، لكن الالم كان يحتدم في جمجمته، ويتردد في عظامه فيعيده إلى اليقظة. . . وأخيراً آثر أن يفكر، وأن يرسل روحه في ماضيه.

واضطربت مقلتاه خلف جفنيه المقفلين! فقد ذكرلا (آلة القيادة). آلته المحبوبة، التي يحركها فتندفع المركبة، وتشق الطريق وهي تغنى بعجدلاتها فوق القضبان!. . واشتاقت يده أن يلمسها، ويشركها سعادته بالعيد، فمد نحوها يديه، ما أعزها عليه! أليست رفيقة حياته، وعشيرته الدائمة، كزوجته كتورة سواء بسواء!.

وتقلصت ابتسامته عن شفتيه!. ذكر سيئات آلته، وانها لم تكن له مطيعة ولا موانية في بعض الاحيان. وبدت امنام عينيه صور أشلاء مبعثرة، وطربوش فارق جبهة هشمتها العجلات. ودم قان يبلل الحصى ويصبغ القضبان!. . وذهب يستر عينيه بيده المرتجفة النحلية، فقد ذكر موقفه في قفص الاتهام، في محكمة الجنايات، والنائب يحدث المستشارين قائلاً: كان الصبي وأخته في طريقهما إلى المدرسة عندما دهمهما هذا الرجل الشرير المستهين بالارواح من العدل أن ينال أقصى القصاص.

لقد برأته المحكمة. (ومضت عشر سنوات) لكنه يشعر للآن أنه مذنب. وأنه قد ارتكب خطأ ما. وخيل اليه ان الصغيرين ينظران اليه بعيون بريئة عاتبه مملوءة بالألم. وأن أبويهما يجدد ان الحزن في العيد ويذهبان الليلة الى الكنيسة في ثياب سوداء يلتمسان العزاء ويسألان النعيم لولديهما والسلوان لأكبادهما الحرى، فانسابت الدموع من بين جفنيه وبللت وجهه النحيل، وغمغم بصوت حزين (رحماك يا رب)

وارتد فكرة من هذه الجولة في الماضي. وذكر أن (ياسمينة) تنتظره ليشاطرها طعام العيد ورأى مائدة شهيةـ متعددة الالوان عقب أيام الصوم. وما تنالو فيها من طعام غليظ مجهز بالزيت، فسال لعابه. وبدأت اساريره تنبسط. . وبدأ يصفح عن آلته العزيزة وما فعلت طالما مكرت به كتورة واذنبت اليه وسامحها فلا ضير ان سامح آلته المحبوبة.

وأخذ القمر يغالب الغمام ثم احتجب، وأظلمت الدنيا وامتدت ظلمتها الى روح (المعلم لوقا). . عاد فذكر شيخوخته، وان الحياة ستتبرع له بأيام أخرى قليلة إن كانت كريمة. من يدري قد لا يأتي عليه عيد جديداً. . قد تقضى (ياسمينة) العيد الآتي وحدها، وتشتمل بثوب أسود، وترسل أثوابها الزاهية الملونة الى المصبغة: ويطفئ الحزن لمعان عينيها، ويذهب ببهجة قلبها، وتصير ابنة يتيمة منكرة!. .

نشر يديه في الهواء كأنه يحاول ان يحميها، ثم سقطت يداه فوق ركبتيه، وانتابته رعدة، وأخذ السعال يصخب في صدره. ففتح عينيه وأخذ يحدق في الظلام وقديمم وجهه شطر الصحراء ورأس نفسه يرتقي الاهرام كما كان يفعل ايام الشباب! وخلال انه جالس على القمة يستعرض الحياة من هناك، ويرسل بصره من مكانه العتيد في القفر البعيد الممتد!. . هو واحد من هذه الهوام الزاحفة على ظهر الارض يسحقها الموت بقدمه وهي تسعى، فتضير نسياً منسياً كهذه الحشرة التي يدوسها عابر السبيل!.

وبدت له الحياة متعبة ثقيلة لا خير فيها. . . ما اشبه برجل سائر على الرمال، تائه ضال، يسير نحو مصير مجهول تضربه الشمس، ويقرسه البرد، وتروعه وحوش الفلاة. . . يسير ويسير، وهو ينشد الواحة. ويحتمل الصعاب والمشاق على أمل أن يستريح عليها راحة الأبد، ولا يعود يخشى عرياً ولا جوعاً. . .

ماذا كسب من حياته!. . لا شيء. عمل، وعرق، وخبر. . . ليست هناك مسرات. ولد وتألم، سيموت. لم يبق غير المرحلة الاخيرة. . .

وحدق في الآلة التي امامه، وهي جالسة صامتة، تنتظر يده لتدور، وتفنى الوقت في الدمدمة. لم تعد جميلة في عينيه! ود لو يحطمها! رأى نفسه عبدا لها مربوطا بها يطوف واياها حول المدينة كما تطوف البقرة الذلول حول الساقية كل النهار. أي فرق بينهما!. . بل انه اسوأ منها حالاً! هي تعمل لقاء حفنة من الشعير، وهو يعمل لقاء أجر لا ينيله بين الناس الترف الذي نالته بين البهائم. . .

ماذا أصاب من حياته!. . تنبهت روحه، وأحس كأنه قد حمل على كتفه من ركبوا معه طيلة مدة خدمته. ذكر مركبة الدرجة الأولى التي تكون الى ظهره اذ يقود الترام. وذكر المترفين الذين يصعدون اليها. ناس من طينة غير طينته. ليسو قوما مملقين متعبين مثله أيديهم ملساء ناعمة لم يجر عليها العمل الشاق. وجباهم منبسطة مطمئنة لم يبللها عرق الكفاح، وليس على وجوهم ثوب الذل الذي نسجه على وجه الضنك والزمان اللئيم. . ذكر كبرياء بعض السادة وعجرفة بعض السيدات. وخشيتهن على أثوابهن الجميلة أن تمسها سترته الخشنة أو يداه الشقيتان.

ذكر كم منهم ومنهن يندفعون الى باب المركبة وهو يهم بالمسير فتكاد أقدامهم تزل، فيقتحمونه بأبصارهم وتزدحم أفواههم بكلمات الازدراء والتحقير، ويصعقونه بأبصارهم الآلهة وهم يصرخون (يا اعمى) بينما يقيدون (نمرته) في مذكراتهم ذات الجلد الجميل المزركش، ليبلغوا شكواهم الى الشركة، حتى تجزيه بخصم بضعة أيام من راتبه!. . كم من الأيام عمل بلا اجر، بفضل هذا العنف من الناس! كم غضب ويئس وطاش حلمه. ورد لو يقتاد المركبات الى النيل لينتقم ويستريح. . عاد الى حلق المعلم لوقا طعم المرارة الذي يغص به المضطهد والمظلوم. وامتدت انامله المرتجفة الى القطعة النحاسيةالمعلقة بياقته. وقد نقشت عليها (نمرته) فأحسن كأنه مسجون محكوم عليه بالعمل الشاق مدى الحياة، وغمغم. (يا رب رحماك!. .)

ونظر في ساعته. . . بعد قليل سيعود الى القاهرة. سيجمع في طريقه الخارجين من المسارح والصالات. عشاق مسرات الليل زبائنه الدائمين، وشر الراكبين. رحم الله ايام الماضي! لم يكن الناس قد تعلموا الافراط في السهر، فلم يكن الطريق يزدحم عندما ينشطر الليل. وكان يسوق بسرور واطمئنان لا يخشى شيئاً، لأن الطريق خال والناس في مضاجعهم يستقبلون احلام الفجر. . أما الآن فيجب ان يجلو أعصابه ويشحذ حواسه، ويلزم جانب الحيطة والحذر، لأن الحانات بدأت ترفض المتهالكين على الشراب، وتطرد النائمين فوق الموائد. وهم الآن مبعثرون في الطريق يترنحون وقد يحلو لبعضهم أن يداعب السائق، أو يغني وهو جالس بين القضبان!.

وقد بدأت الصالات والمراقص تلفظ روادها. دور الدعارة تتقيأ من ابتلعتهم أول الليل. والفتيات خارجات من دور السينما في رفقة الفتيان! في ذراع كل فتاة شاب! والذراع حار! لا تحلو لهم إلا حفلات الليل! تنهد (المعلم لوقا) وهو يفكر ويحدث نفسه: رحم الله ايام زمان! أيتغير الناس هكذا! أين جيل (كتورة) وعهد الحرائر! أين الثياب الفضفاضة! أين البرقع الابيض. واليشمك، والحبرة! ذهبت الحشمة وولى الوقار الادبار من (بر مصر)!. . ولم يعد النساء يعنين بصيانة أجسامهن من عبث الناظرين لا يرى فقدت هيبتها وأصبحت وسيلة بنات البلد لهز الاارداف!. .

ومض السخط في عيني (المعلم لوقا) وحوقل وهو يعيد في ذهنه صورة هؤلاء الفتيان الذين وقفوا بجانبه بالأمس بعد منتصف الليل. كانت رائحة الخمر تنبعث من أفواههم، والكلمات البذيئة تتكاثر عند شفاههم كما يتكاثر الذباب عند الأقذار. كانوا يتهامسون متهكمين بطربوشه الباهت الملوث، وكيف اسودات حافته. . . وأخذ يجذب شعرات شاربه بعنف وأنامل متوترة!. .

واتسعت حدقتاه فجأة!. . صور عنيفة كانت تخطر أمام عينيه! ذكر أنداد هؤلاء الغلمان من أربعة عشر عاماً خلت. . كانوا رجالا بأرواحهم فتياناً بأجسادهم. لأن الزمان كان يخلق في الفتيان جهد الرجال. كانت الأرواح كاملة النمو تامة النشاط. لم يكونوا يتحدثون عندما يقفون خلفه عن الفتيات والموادات، لأن حديثاً آخر كان يشغلهم. ولم تكن تنبعث من أفواههم رائحة الخمر بل قد كانت تقبل الى قفاه اذ يتناقشون أنفاس حارة، نرسلها صدور ألهبها الشوق للحرية. لم يكونوا ضاحكين ساخرين، بل قد كانوا أغلب الوقت حزانى واجمين، ينظرون في صحف الليل فيصمتون ويطيلون الصمت، وهم يحدقون في أعمدة الصحيفة بيضاء لا كتابه فيها، لأن يداً تحب مصر تبعثر الحروف المصفوقة حتى لا تستيقظ الأرواح لكن الأرواح يقظي متنبه، تقرأ الحديث، وتعلم الخطب وإن لم يكن كتوباً!. .

لم يكونوا يتهكمون به، بل قد كانوا يحدثونه عن مصر الفتاة، والمستقبل، والأيام الآتية!. . ويناشدونه ان يلبي داعي الوطن يوم يطلب الوطن المضني دماء بنيه يجدد بها الحياة.

وازدحمت أمام عيني (المعلم لوقا) الصور المجيدة. وبكى كأن العام 19، والتلاميذ عائدون من مدارسهم يملأون الترام ويكونون مواكب جميلة متنقلة هاتفة للحرية! وهو القائد لهذه المواكب لانه السائق، قائد فخور تياه، لا يزعجه رفيف الرصاص، تطلقه أيد أثيمة. مشتاقة لابادة الارواح. دائبة على صراع الأحرار. وتمثل في ذهنه صورة الفتيان وهم يسقطون مجندلين يهزون الأعلام في أيديهم وهم يتخبطون في دمائهم. وذكر كيف غلى الدم في عروقه فقفظ من الترام وتلقى العلم عن أحد الشهداء وذهب يعدو في الطرقات يزأر بأن الحياة لمصر والنيل لبنيه!. . وأحسن بدم البطولة يعود فيجري في عروقه، ويجدد في صدره الحياة، فشمخ بأنفه، وصعر خده، وابتسم ابتسامة استحمت في الدمع المتهاطل من عينيه، ودس يده في جيبه يلتمس علبة سعوطه وأفرغ ما فيها في أنفه وهو يغمغم! (ياما شافت العين يا لوقا. .)

وكأن صدره لم ييحتمل هذا الأنفعال فاستيقظ سعاله، وأخذ يعبث بانفاسه في غير رحمة ولا هوادة، حتى اغرورقت عيناه وانصدع جنباه. هي نزلة شعبية مزمنة مضت سنين وهو يتطبب، وينفق في الادوية نصف اجره الضئيل على غير جدوى. ولم تكن النوبات بادئ الأمر حادة هكذا ولكن مهنته هي التي قضت عليه استقبال هواء امشير البارد وهواء بؤونه الناري هو ما أحدث هذه التهيجات بصدره واتلف رئتيه. . كم هم بترك العمل، ثم كان يذكر حاجة عياله للقوت. فيعود وهو ناقم. يعود لخدمة سيد يرى أرواح خدامه أرخص من أن تفتدى بالواح من الزجاج تقيهم تغيرات الجو! ليس أمامه الا ان يخضع، ويحتمل، ويدفع ثمن قوته من حياته، وينفق سلفا أيامه الآتية ليتقي غوائل الجوع في الغد القريب!. .

ولم تتركه غلته ليفكر، وبدأ يسعل من جديد. . وتنهد. . لو كان له أولاد لكان الآن في دفء الفراش. رجل سيء البلخت. دفنهم بيده اربعة. غيبهم التراب وهم في سن الشباب ليتهم ماتوا صغارا كاخواتهم الآخرين قبل ان تتعلق روحه بهم ويحبهم حبا مفرطا كانت يد المنون تقصفهم كما تقصف الريح السنابل وقد بدأت تمتلئ بالقمح. .

واشتد البرد، وازداد الليل حلكة، وساد الارجاء صمت عميق، وأخذ الرجل ينتفض، خيل إليه أن أولاده الأربعة يحيوطون به، جالسين في اكفنمهم لا تبين منهم غير وجوهم الشاحبة، وانهم يعتبون عليه اهماله في علاجهم، وعدم مواظبته في السهر عليهم في مرضهم، وأمضه هذا الخاطر وأقلق روحه، وذهب الشك الماكر يعذبه، وذهب الوهم يصور له انهم يحتضرون الساعة بين يديه، وانه يسبل أجفاههم، ويطبع على جباههم القبلة الاخيرة.

كان يحسب أن الجراح قد اندملت، وأن يد النسيان قد مسحت الاحزان عن صدره، فاذا بالذكرى تمزق هذه الغشاوة الرقيقة التي نسجها الزمان وإذا بالجراح تتفتح، وإذا به يحسن ان بين جنبيه كبداً قد اخترمها الأسى، فلم يبق منها غير قطعة كالاسفنج راوية من قيح الحزن وصديده.

ووضع يده على جنبه يلم بها حشاه الممزق، وأخذ يبكي. . يبكي؟!. كيف! لم يكن يبكهم وقد كان الحزن جديداً، لأنه كان وقتذاك رجلا قوياً. وكان يزعم أن البكاء للاطفال والاحتمال للرجال، لأن الرجل كفؤ لحمل اثقال الهموم. بل قد كان ينكر على زوجته أن تعول ونتحب، ويطلب منها أن تكون امرأة صبوراً قوية، وكم اختطف حزام من وسطه وانهال عليها بالضرب الموجع - لترأفبنفسها! فما باله الآن يبكي وقد صار شيخاً؟! ان الاطفال اضراب للشيوخ في الابانة عن عواطفهم!.

وأهمته هذه الفكرة، وأزعجه أنه صار ضعيفاً يضطهده الحزن فلا يستطيع حبس دمعه، وكتم أنينه وحدث نفسه: (والله طيب يا زمان! بقيت عيل يا لوقا! فين عزم الرجال!. .)

وصعب عليه الامر فاستخرط في البكاء وأخذ ينشج نشيجاً عالياً. وإذ هو في بكائه فاجأته نوبة السعال، وكانت هذه المرة قوية مجتاحة متلفة. . وأحس (المعلم لوقا) كأن روحه تتسرب من بين جنبيه. وكان أعضاؤه ترتجف وتتشنج، وأنفاسه تختلج في صدره اختلاجاً قوياً. ثم أخذت حركته تهدأ، ورعدته تسكن، وأنفاسه تعود الى الخمود.

وشعر (لوقا) في تلك الآونة بشوق شديد لياسمينة، وخيل له أنها مقبلة اليه فابتسم، ومد نحوها يديه، ثم سقطت يداه الى جانبه، ومال عنقه الى كتفه. .

وأزف وقت العودة، وذهب (الكمساري) يتفقد صاحبه، وهمس في أذنه: لوقا. كل عام وأنت طيب. الدنيا برد. سوق بسرعة هلكنا. يتوب علينا!. .

كان لوقا فاتحا عينيه يحدق في الفضاء، لكنه لم يجب رفيقه، فاغتاظ، وظنه لا يحفل بحديثه فلكزه واذا به يتداعى بين يديه. .

وظهر له ما خفى من أمر زميله، وحدق في عينيه فلعم أن (المعلم لوقا) قد أنتهى أمره مع الحياة فاسبل جفنيه. ومزق السكون صوت ينادي: (لا حول ولا قوة الا بالله. . . انا لله وانا اليه راجعون!. .

كانت (كتورة) تغط في النوم، وكانت الأبنة جالسة في ثوب العيد تنتظر أباها وقد لعب القلق بفؤادها، فلما قرع الباب تهلل، وجهها وهتفت وهي تضع يدها على المزلاج: (ابي، كل عام، وانت بخير).

ولم يجب أبوها، لأنه كان نائماً على كتف رفيقه. وكان يبدو على وجهه ان نعاسة عميق، وانه لن يستيقظ سريعاً، وحدق ياسمينة في وجهه لعله يلين ويستيقظ، فلم تظفر بغير تلك الابتسامة الواضحة على شفتيه، كان كان سعيداً، موفور السرور بالوصول (الى الراحة)

يوسف جوُهر عطية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى