أديب عباسي - من هم اخوان الصفا؟

أصل التسمية - نشأة الجميعة - طبقاتها - تأثيرها - رأي الناس فيها - رسائل الاخوان اجمالا

قد أظهر كولد زهير ان (أخا الصفا) تعني - حسب الاصطلاح العربي - يا أخا المروءة ويا أخا العرب، وهكذا لا تكون لعبارة (اخوان الصفا) أية دلالة أو نسبة إلى أخوية من الاخويات على نحو ما يفهم من الاخوية حسب الاصطلاح الحديث. على أن (دي فو) في كتابه ' يتساءل هل لهذا الاسم علاقة بكلمة فيلسوف كما ترد في اصطلاح الفيثاغوريين ويقول: ان كلمة (أخ) تقابل الشطر الأول من لفظ (الفلسفة) (فيلو) وكلمة (الصفا) تقابل معنى ومبنى الشطر الثاني منها (صوفي) وعليه يكون معنى الاسم محبي الحكمة.

هذا عرض موجز لرأيين مختلفين في أصل تسمية الاخوان هذا الاسم لمستشرقين غربيين. وثم رأي آخر لاخوان الصفا أنفسهم في أصل هذه التسمية لا نعتقد أن باحثاً من الباحثين فطن اليه أو تنبه له، فقد جاء في الجزء الرابع من رسائل الاخوان (ص 373) ما يأتي: -

(وانما سمينا رسالتنا هذه رسالة السحر ليستدل اخواننا على الأسرار الخفية وليكونوا إذا بلغوا معالي العلوم ذوى غنى عن الحاجة إلى من سواهم في جميع ما يحتاجون اليه من أمر معيشة الدنيا. فاذا وصلوا إلى هذه المرتبة صح لنا أن نسميهم باخوان الصفا. واعلم يا أخي ان حقيقة هذا الاسم هي الخاصة الموجودة في المستحقين له بالحقيقة لا على طريق المجاز). ويقول أيضاً (ج: 4 ص373 - 74): -

(واعلم يا أخي أنه لا سبيل إلى صفا النفس إلا بعد بلوغها إلى حد الطمأنينة في الدين والدنيا جميعاً. وهو أن يعرف الانسان بحسب قدرته توحيد الله جل جلاله. . . وبعد ذلك ما يكون به صلاح معيشة الدنيا والغناء فيها عن الحاجة إلى من عدم هذه الصناعة. ومن لا يكون كذلك فليس هو من أهل الصفا. لانه لو كان من أهل الصفا لكان بصفائه عمن دونه الغناء).

لنا من جميع ما تقدم إن (إخوان الصفا) كما يعرفون أنفسهم - هم هؤلاء الذين حذقوا ع الدين والدنيا معاً واستغنوا بها عن الحاجة إلى من سواهم

وأخيراً نود ان نشير إلى رأي أورده المستشرق كولو نلينو في كتابه (علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى) يفسر فيه معنى هذه التسمية بالرجوع إلى عبارة وردت في اول باب (الحمامة المطوقة) من كليلة ودمنة. على اننا لدى رجوعنا إلى القطعة من الرسائل: ص 53) لم يتبين لنا أن حادثة الحمامة المطوقة كما وردت في كتاب كليلة ودمنة هي أصل التسمية. وذلك أن أخوان الصفا كعادتهم في التمثيل لكل فكرة - قد أوردوا هذه القصة لبيان فائدة التعاون فحسب. بيد أنه قد يكون في غير الموقع الذي يشير اليه المؤلف من الرسائل ما يقوي هذا الرأي، ولكن المؤلف لا يشير الا إلى ما تقدم

هذا وقد قامت جميعة اخوان الصفا حوالي سنة 373هـ. وكان مركزها العام مدينة البصرة وقد ذكر المؤرخون خمسة بالاسم من أعضاء هذه الجمعية وهم: ابو سليمان محمد بن مشعر البيستي ويعرف (بالمقدسي) وابو الحسن علي بن هارون الزنجاني وابو أحمد المهرجاني والعوفي وزيد بن رفاعة.

وكانت جماعة الأخوان تتالف من اربع طبقات: الطبقة الأولى وتتالف من الاحداث الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والثلاثين. ويفرض على افراد هذه الطبقة الطاعة التامة واسلاس القياد لرؤسائهم ومعلميهم. والطبقة الثانية تتراوح اعمار افرادها بين الثلاثين والاربعين. ويسمح لهؤلاء بالاطلاع على العلوم الدنيوية دون العلوم الدينية. ثم الطبقة الثالثة واعمار الداخليها تقع بين الاربعين والخمسين. وهؤلاء يسمح لهم بالاطلاع على شرائع العالم المقدسة، أما الطبقة الرابعة فأعضاؤها يكونون ممن اربت سنهم على الخمسين. ويسمح لهم في هذه الطبقة بالوقوف على سر الأشياء الصحيح والنفوذ إلى لباب المسائل كما يتسنى ذلك للملائكة. غير انه ليس لدينا ما يثبت ان اخوان الصفا راعوا هذه التقسمة مراعاة دقيقة، فلم يسمحوا لهذه الطبقات ان يتداخل بعضها ببعض

وقد اوجب القائمون بانشاء هذه الجمعية ان يكون لأخوان الصفا (حيث كانوا من البلاد مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذكرون فيه علومهم ويتحاورون اسرارهم، كذلك اوجبوا ان تكون مذاكراتهم - على قدر ما يستطيعون في علم النفس والحاس والمحسوس والنظر في الكتب الألهية والعلوم الرياضية وهي العدد والهندسة والتنجيم والتاليف (يقصد تأليف النسب الموسيقية)

وكانوا يحتاطون ما امكنهم الاحتياط في اختيار الأعضاء الجدد: فلم يكن يسمح لأحد بالدخول في هذه الجمعية الا إذا كان ناصع الصحيفة لا غبار على أخلاقة ولا ريبة في سلوكه، وكانت اجتماعاتهم تعقد سراً في بيت رئيسهم زيد بن رفاعة.

أما غاية أخوان الصفا فيلخصها ابو حيان التوحيدي بقوله: - (وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا انهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله. وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال)

هذا هو ظاهر الغرض من تأليف هذه الجمعية والدعاية لها ولكننا نعتقد ان وراء هذا الغرض اغراضاً أخرى نحن مبينوها فيما بعد في فصل خاص

أما تأثير هذه الجمعية فقد اقتصر بوجه عام على العامة وأشباه العامة. والظاهر أن أخوان الصفا لم يكونوا يطمعون في أكثر من ذلك. وهم - لذلك - قد وضعوا رسائلهم بلغة بسيطة سهلة بعيدة عن الاعتياص والغموض اللذين يرافقان عادة الكتابات الفلسفية، ومما توسلوا به لتقريب مذهبهم إلى افهام الجمهور اكثارهم من ضرب الأمثال وسرد الحكايات. فكان ذلك كله مقروناً إلى بساطة التعبير وجلاء العبارة، داعياً إلى تهافت العامة على دراستها وان جاء ذلك بعد حين من تأليفها. أما الطبقات الراقية فلم تر في هذه الرسائل ما يروي الغلة أو يملأ الفراغ الذي كان تحسه النفوس إلى الفلسفة في جميع فروعها أنئذ، واليك ما يصفها به أحد المعاصرين وهو أبو سليمان المنطقي قال: -

(وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والامثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق المموهة. وهي مبثوثة من كل فن بلا أشباع ولا كفاية. وفيها خرافات وتلفيقات، فنصبوا ما أغنوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفوا. وبالجملة فهي مقالات مشوقات غير مستقصاة ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج) (تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج ص: 309)

ورأى الغزالي في هذه الرسائل لا يخرج عن معنى ما تقدم فهو يقول: -

(. . . فلو فتحنا هذا الباب وتطرقنا إلى أن يهجر كل حق سبق اليه خاطر مبطل لزمنا أن نهجر كثيراً من الحق، ولزمنا أن نهجر كثيراً من آيات القرآن. . . لأن صاحب كتاب اخوان الصفا أوردها في كتابه مستشهداً بها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله (المنقذ من الضلال ص 27)

من هنا لا نرى ما يراه (لان بول) من أن هذه الرسائل كانت تمثل الفلسفة العربية حين ألفت أصدق تمثيل، فان كتاباً يكتب بلغة شبيهة بالعامية وللعامة، ويصفه أبو سليمان المنطقي والغزالي بما وصفاه، لا يمكن أن يكون ممثلا للفلسفة العربية في ذلك العصر ورسائل اخوان الصفا هذه تبلغ واحدة وخميسن رسالة عدا الرسالة الجامعة. والشك يحوم حول مؤلفيها. فمن قائل أنها من تأليف جعفر الصادق، ومن قائل أنها من كلام بعض متكلمي المعتزلة، ولكن السائد اليوم هو أن كتابات زيد بن رفاعة كانت نواة هذه الرسائل. والأربعة الذين يذكرون معه كانوا يساعدونه في التأليف وانضاج الرأي. وقد كان لتأليف الرسائل على هذا النحو من التعاون أثر كبير في اسلوبها واختلاف قيم اجزائها، فهي في مواطن قوية الفن غزيرة المادة، وفي مواطن اخرى مهلهلة الأسلوب سطحية المباحث. وهذا التباين الملحوظ في مراد هذه الرسائل يثبت لنا أن مؤلفيها كانوا على تفاوت في ثقافتهم.

على ان من هذه الرسائل ما انفرد بكتابته شخص واحد من هذه الجماعة دون غيره. ومن هذه الرسائل رسالة الحيوان. فاطراد الافكار وتسلسل المعاني، ووحدة السياق التي تلحظ في هذه الرسالة يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأنها لكاتب فذ منهم. وهذه الرسالة في رأينا - هي أقوى هذه الرسائل واعلاها نفساً وأسدها منطقاً، وقد عرضت هذا الرأي على الأب انسطاس الكرملي منذ سنوات فجاءني منه حينها ما يلي: -

(رسالة الحيوان هي - كما تقول - لكاتب واحد منهم اقواهم عبارة واصفاهم فكراً واحسنهم منطقاً. لكن الظاهر ان بعض الأخوان نظروا فيها واحكموا تنفسيقها، واظهروا فيها حذقهم) وحضرة الأب - على ما أفهمني - يدرس رسائل أخوان الصفا منذ سنة 1917

ولعل الغرض الخاص الذي ألفت من أجله هذه الرسالة كان انتقاد المجتمع اذ ذاك على لسان الحيوان كما فعل بعض أدباء الغرب في عصور التضييق على الحريات الفكرية. فأخوان الصفا في هذه الرسالة ينطقون الحيوان بما لا يستطيعون الجهر به من عبارات كلها تقريع للحكام ورجال الدين والقضاء في ذلك العصر (انظر ص 154 - 55، 233 - 34)

أما المصادر التي استقى منها إخوان الصفا فهي عديدة ومتنوعة، وذلك انه لم يكن يمنعهم عن النقل من أي مذهب أو دين أو فلسفة مانع، كانوا يرون أن في كل مذهب أو دين أو فلسفة قسطاً من الحقيقة؛ وإذن ليس ثمة مانع من الانتفاع به أقصى ما يكمن الانتفاع. وعلى هذه المبدأ يبنى فلسفتهم الانتخابية. في هذه الرسائل من الافلاطونية الحديثة، وفيها من الفيثاغورثية، وفيها من مذهب وحدة الكون (البانثيزم) وفيها من أفلاطون وأرسطو، وفيها من الديانات الهندية والزردشتية واليهودية والمسيحية.



الأستاذ أديب عباسي
شرق الاردن
مجلة الرسالة - العدد 34
بتاريخ: 26 - 02 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى