سمير الفيل - على حافة الليل كان اليمام

( حين يصير الحنين يماما على الكف ،
والراقصون مدائن
لاتقفل الليل أبوابها ، والصباح ) **

( إلى علي الدميني ، والمقطع السابق من ديوانه بياض الأزمنة) **



هذا بالضبط ما لم يفكر فيه البارحة . لقد نام خالي البال من أي شيء يكدر صفو هدوئه ، صحيح هو مسجون ، ولكنه يشعر بالراحة الأكيدة أن رأسه لم تعرف الانحناء . تذكر كلمات سبارتاكوس الأخيرة ، وابتسم لطيف الشاعر الذي هده المرض ، ومات في الغرفة رقم 8 . كان أمل دنقل جنوبيا مثله . عبر البحر الأحمر الذي شقه موسى بعصاه يتسلل التمرد من بين الشعب المرجانية ، وأسماك الكنعد وسلاسل الجبال المنحدرة في انكسار مميت .

دق بقبضتيه الباب الحديدي الثقيل ، فأتي الحراس شداد القامة ، أزاحوا غطاءا معدنيا ثقيلا ، ونظروا من خلال الكوة شديدة الضيق .

كان قد ابتعد عن الباب بمسافة بوصتين ، رمقوه في غضب أن أزعجهم ، لكنه حدق في ملامحهم بشيء من المرارة ، وهم انتظروا أن يتكلم ، ويفصح عن سبب استدعائه لهم في هذا الوقت المتأخر من الليل بتلك الجلبة التي لم يعرفوها عنه.

كانت ليلة توافق منتصف الشهر العربي ، لكن القمر بان مختنقا بغلالات الغيوم التي تتكاثر في مرورها البطيء ، أما زنزانته فتطل من الخلف على ساحة واسعة أشجارها خرساء وصامتة .

تمهل وهو يتراجع عدة خطوات ليلاصق الجدار ، حدجه كبيرهم فيما تصلصل المفاتيح في خطاف معلق بجيبه : ماهذه الجلبة؟

قال وهو يرتب الكلام ، وذاكرة الجبلي تناوشه وتلح عليه أن تكون عبارته سهلة ومفهومة : اليمام ؟

يتأكد له الآن حقيقة أن الروح هي التي نادته أن يرى اليمام في زرقته ، وهو الشيء الذي أفاق عليه من نوم قلق ، وشعر بالحاجة إليه بصورة لم يمر بها من قبل أبدا . غالبه خاطر أنه مجرد حلم ، وعليه أن يحتفظ به لنفسه ، أو أن ينتظر طلوع الصباح ليحكي ما رآه لرفاقه ، لكن شيئا أقوى منه دفعه أن يكون في حضرة اليمام .

مكث يغالب هذا النزوع القوي الذي ألح على وجدانه ، حتى أنه تصور يماما جبليا بالذات له ريش بني غزير حول الهيكل الضئيل ، وزغب خفيف يكسو الرقبة . أكمل بنبرة بدت محايدة منزوعا عنها أي إحساس بالرجاء أو التمني: أريد أن تأتوا لي باليمام .

هل هذه هي مطالبه فقط في هذا الوقت الذي يخلد فيه الجميع للنوم الثقيل والراحة الأكيدة ، أعاد الحارس إطلالته ، أما هو فقد راح يمسح بيده غبارا خفيفا كان يحجب الرؤية كاملة عن عدستي نظارته ، وأتاه صوت الحارس محتجا : أي يمام تقصد ؟

بروق العامرية لوحت للسجين لحظة وتمددت في فضاء شكلته أيد خفية ثم ما لبثت أن تبددت : ألا تعرف اليمام؟

كان المكان يعبق بدخان سجائر انطفأت منذ فترة ، والزنازين غارقة في صمتها الليلي . في الخارج تهبط قطرات مائية لا تكاد ترى ، وتتكثف على أوراق الأشجار وبتلات الأزهار كقطرات ندى : أعرفه . وهل كل هذه الجلبة لآتي به في هذا الوقت؟ وهب أنني أحضرته ، فهل القوانين هنا تسمح بذلك ؟

عدل بيده ياقة سترته البيضاء التي تثنت أطرافها ، ورنا نحو الفضاء الذي كان قمره يجاهد بقوة حتى تبتعد تلك السحب الرمادية البليدة .

بدت قضية عمره أن يرى اليمام ، وينصت لهديله . هكذا كانت الرؤية أن والده قد ناداه كي يجلس معه تحت شجرة تين عملاقة ، في ظل فروعها المتشابكة ، وفي جلستهما حطت يمامة على المقعد الخشبي المستدير .

قال العجوز : لا تحزن .

رد بنبرة الواثق : إن الله معنا .

امتدت يدا العجوز ولامست تقاسيم وجه الابن الذي تذكره صبيا يلهو في أزقة القرية:أصبر يا بني .

رأي الغضون تهتز تحت الجفنين : سأفعل يا أبي .

مسح بعينين سوداوين صافيتين خضرة المكان الذي لم ير أجمل منه في كسوته العشبية الزاهية ، وانجابت أحزان حسبها لن تتزحزح يوما : ما أجمل زيارتك . لا تتركني هنا بمفردي كن معي .

رقت حواشي الكون ، وأسراب من الطيور تمر فوقهما مغردة ، فيما تساقطت بعض أوراق من الشجرة الكثيفة ولم تكن صفراء أبدا ، بل كانت بنفس خضرتها الداكنة : أنظر أبي ؟

قبل أن يجيب اختفى أبوه تماما ، لكن نظرات وجهه التي بدت باسمة ومضيئة ظلت تخايله فيما سمع هديلا متناغما لليمامة التي طارت بعيدا بعيدا.

تحتم عيه أن يطلب اليمام في الغرفة الضيقة . لا كتب معه ، ولا أوراق . سحبوا دفترا صغيرا تم تهريبه إليه وتركوه في عزلته مع نوبات الحراسة .

لقد ألف وجوههم ، وتعود تجهمهم . كان يعرفهم بسعال بعضهم ، أوبطريقتهم في الخطو ، أوبلهجاتهم التي غالبا ما تنم على كونهم جنوبيين ، لكنه جنوبي مثلهم وإن دفعته ظروف الدراسة ونزوح الأهل منذ سنوات بعيدة أن يتجه شرقا . طلع صوت الحارس وهو يسوي شاربه : بالله عليك لا تلهو بنا . أي يمام هذا الذي آتيك به؟

تململ قبل أن ينسحب عائدا ومن خلفه تابعه الأصغر رتبة : خذ سيجارة دخنها ، ثم أكمل نومك .

في تلك اللحظة بالذات والتي مد فيها الحارس يده بسيجارة من الكوة تناهى إلى الجميع صوت خافت للهديل ، راح يتصاعد ، ويتصاعد .

بقت اليد معلقة لحظات ، ولما لم يمد السجين يده كي يأخذها مضى الحارس مع زملائه نحو مكان خدمتهم ، فيما حطت يمامة بنية اللون بريش ناعم على حافة النافذة الضيقة المشغولة بالسلك .

كان عليه أن يصعد على حافة مقعد خشبي كي يمسد شعرها ويحط بيده الأخرى على جسمها الدافيء ، حاولت اليمامة أن تدخل الحجرة عبر ثغرة في الحديد المشغول ، لكنه أبعدها برفق ، وأبقاها حيث هي . كمنت لحظات ثم هدلت من جديد وهي تعاود انطلاقها . طيرانها في هذا الليل الطويل الذي يبدو أنه على وشك أن يتبدد .





[SIZE=3]القاهرة 5/ 4/ 2005[/SIZE]



سمير الفيل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى