محمد علي العوض - زبيدة.. قصة قصيرة

أربعة وعشرون مترًا محيط الغرفة.. ما بين باب الزّنزانة ومكتب القائد في أعلى التلة مئتان وتسعون خطوة.. تنتصب وسطها تماما شجرة لبخ ضخمة، اكتشفها بواسطة مهارة الإنصات لصدى فرقعة الوسطى والإبهام.
رجعت به الذاكرة القهقري.. كان الصباح دافئًا كأصابع متحلقة حول النار.. تكفلت فيه الرياح الجنوبية بسرقة شماتة عوضية بنت حاج الصافي؛ في إحدى جلساتها الاستخباراتيّة؛ التي تنظمها تحت ستار احتساء القهوة، وتدخين السجائر ماركة كيلوباترا.. في ذلك الليل لم تحك الجدات لأحفادهنّ أحجية فاطنة السمحة أو أم دهيبون؛ فقد كانت ألسنتهنّ مشغولة بمضغ حادثة اختطاف الشيخ "بخيت"؛ ذي العشرين ربيعًا، فبجانب أنّه إمام المسجد ومأذون الناحية العازب؛ فهو شخصيّة تهم الرأي العام، وتستلزم الاستفتاء حتى..
لم تعِ القرية دوافع اختطاف شيخهم الكفيف من قِبل تلك الحركة المتمردة التي تقاتل حكومة المركز.. فهو رجل محبوب مسالم بلا أعداء؛ باستثناء عوضية حين داهم بالحسنى إحدى حلقات زارها، أو أبوها الذي تمنى أن يملك سُلطة تخوّل له نفي شاهدي إحراجه إلى جزيرة غير مأهولة بالذاكرة؛ عندما سأل الشيخ عن ماهيّة المطففين ليجيبه: "هم من يبيعون بذات الطريقة التي تبيعني بها اللبن "..
وعلى الرغم من وسامته الفاتنة التي كانت تدفع فتيات القرية عفيفات وفاجرات لتصيّد أوقات نزوله وطلوعه إلا أنّه حاز الطبائع السويّة الأربعة؛ العلم والصلاح والورع والعبادة، لذا أطلق عليه أهل القرية لقب الشيخ؛ دون سابق اتّفاق بينهم.
زُجّ بالشيخ بخيت في الحبس مع سبعة عشر رجلا تختلف اتهاماتهم ما بين متهرّب من الخدمة العسكرية ومتهم بخيانة مانفيستو الحركة.. يتوسّدون أرضية غرفة رطبة.. ينزوي في ركنها القصي سطل يقضي فيه الجميع حاجتهم دون ساتر إلا بقايا حياء.
وطّن الشيخ نفسه على التسليم؛ فالأرض كلها جُعلت مسجدًا طهورًا.. يعظ الجميع ببشاشة وأدب جم.. واساهم يومًا بأنّ مصر دانت ليوسف الصديق من داخل السجن.. وأنّ عصا موسى اهتزت كأنّها جان؛ لأنّ الجنّ خُلق من نار؛ وهي مجرد اهتزازات.. ذرفوا دموعهم تعاطفًا مع إعاقته البصرية حين أخبرهم مرة أنّ الأسود ليس لونًا بقدر ما هو انعدام للضوء، وضحكوا بعدها بتشاغب حين سرد عليهم قصة أبيات:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك مُتعبِّد..
أحس قائد المعسكر بتململ بساط السيطرة من تحته؛ عندما ضبط عددًا من ضباط الصف متقرفصين خارج بوابة السجن يُنصتون بانبهار واضح إلى أحد دروس الشيخ الليلية.. تحسس مسدسه حين مرّ أمام عينيه شريط سينمائي لعُمر المختار وود حبوبة ورماح أنصار الإمام المهدي تحجب ضوء الشمس..
وتحسبًا للأمر سارع بإصدار تعليماته بإخراج بخيت من السجن، وأن يُعفى (الفكي) الجديد من أعمال الطبيخ والتنظيف وخلافه؛ لتقتصر مهمته فقط على الصلاة بالنّاس.
شيئاً فشيئاً صار الشيخ بخيت فردًا أصيلاً من قوة الحركة.. مقتنعًا بالمظالم التي اضطرتها لحمل السلاح في وجه الحكومة..
إلا أنّ اتفاقية السلام التي وقعتها الحركة مع الحكومة في خريف ذلك العام؛ فرضت هدوءًا على جبهة القتال، جعلت الجنود ينشغلون بزراعة الأراضي المحررة.. شيء واحد كان يعكر صفو بُحيرة الشيخ؛ هو تلك الوريقات النقدية التي يجدها تحت مخدته صباح كل يوم؛ من فئة الخمسين جنيهًا.. عرفها من خلال مهارة تحسس خطوطها التسعة والدائرة المنقوطة بالجانب الأيمن من وجه الورقة، والتي تعلمها في معهد المكفوفين سابقا.. وما زاد حيرته أكثر أنه بات مسهدًا ليلة كاملة؛ غاب فيها لأول مرة عن صلاة الفجر؛ في انتظار ذلك الطارق الليلي لكن بلاجدوى، ومع ذلك؛ والشمس ترسل أول خيوطها الذهبية وجد ذات النقود.. فكاد سوس التساؤل ينخر عقله.
استيقظ الشيخ في الليلة التالية وراوئح البخور الضكر، والمسك النفاذة تغزو منخريه.. وبنصف عين مفتوحة بها آثار نعاس ونظر سليم ستة على ستة لمحها؛ ممشوقة كمُهرة بلا لجام، تحمل على وجهها عينين كحيلتي الأهداب، وأنفًا مستقيمًا مُشرعا على شفتين مكتنزتين.. وبقفزة واحدة كمن نهشته حيّة تكوّر الشيخ بخيت في آخر السرير.. دسّ رأسه في حجره كقنفذ دفعته غريزة البقاء إلى التكوّم.. وبصوت متحشرج سألها:
- من أنت؟
- أنا زبيدة بنت بهالل
- زبيدة؟ استغفر الله.. بهالل من؟
- كبير مملكة الجن في هذه البلاد..
كادت عيناه تقفزان من محجريهما عندما نطقت بتلك المفردة التي يقشعر لها البدن.. وفي ثوان معدودة تستحق إدراجها في موسوعة غينيس تلا الشيخ مئات التعويذات.. عشرات الطلاسم والتوسّلات التي ربما لم يؤمن بها قط، وكأنّ القدر كان يدّخرها له من أجل هذه اللحظة.. وبصوت واه أشبه بالنزع الأخير همهم:
- جن من؟ اتق الله يا هذه.. ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما فما بالك عندما تخلو بالشيطانة؟ ماذا تريدين يا عجوبة التي خربت سوبا؟ هؤلاء الجنود لم يتذوقوا طعم النساء منذ أشهر.. سيتقاتلون عليك حد الموت..
- هب أنني صدقتك.. أين ذيلك؟ أين أظلافك؟ أين قرناك؟ لا تنكري (.. الشمس تطلع بين قرني شيطان..) و.... وو.....
وفيما يشبه الإسكات عمدا وضعت زبيدة سبابتها بحنو على شفاه الشيخ بخيت.. شعر بهرمون "التستوستيرون" ينسرب طريًا رطبًا بين منعرجات دماغه.. عانقت دقات قلبه سماوات التريث.. وكأنّ دلوا مملؤا سكينة أُهرق على أنفاسه الحرى فأطفأ لهيبها.. فاض قلبه الخالي بسيل الخجل عندما همست زبيدة: شيخي إنني ولدت من وميض ابتسامتك، ومن بهجة الشفق الغارق في عينيك.. يا صمت مرقدي وصوتا منسابًا في عصبي تسهدا وحنينا.. أنا لست شيطانة بل جنية مسلمة مثلك..
توالت اللقاءات بين زبيدة والشيخ بخيت.. تأتي كل ليلة وبيدها قميص يوسف.. تخلع عن عينيه رداء العمى فتتبدى الأشياء بوضوح تام.. نضحا صمت فلق الفجر بالمناغاة والمناجاة، شرب من دنها حتى الثمالة.. قرآ معًا لغة الصباح.. رأى معها الشمس، والفأر، ولون الدم؛ لأول مرة في حياته.. لم يعد الأسود انعدامًا للضوء بل غدا لونًا مُعتمًا مُبصرًا..
حدثته عن أنّها تلك القطة الزاهية الألوان التي تتمسح على قدميه عندما يلج عتبة بيته.. وأنّ شرب الماء المتلوة عليه الجمل والتعاويذ الشيطانية يُكوّن في البدن بؤراً مغناطيسية تجذب إليها الشياطين والمردة.. لم تنس أن تحكي له عن مثلث برمودا وعرش إبليس وابنه داسم المُكلف بنفث شر الطلاق بين الأزواج.
انتابت هواجس القلق الشيخ بخيت عندما انقطعت زيارات زبيدة أيامًا عدة، كادت الحيرة تسلب ورعه ورزانته.. تراه منكسرًا كسنبلة استقوت عليها الريح.. أضحى المعسكر الذي يضم أربعة ميادين وعشرات الثكنات ومدرج لهبوط الطائرات أضيق من خرم إبرة.. يذرعه جيئة وذهابًا.. يسأل ويجيب من تلقاء نفسه: لعلّ ملاكا سماويًا اغتالها؟ أو ربما نجمة خائتة أحرقتها أو نسفتها؟
صحا يومًا ليجد الغشاوة تزحف على عينيه رويدًا رويدًا.. حشر يده تحت المخدة على أمل إيجاد وريقات يتشمم فيها ريح زبيدة، وتفتح أمامه كوة الأمل.. ثمة خشخشة ورقة، استل رسالة مكتوبة بلغة برايل.. قرأها بأنامل شاطرة: ( شيخي احدودب ظهر سمائي من بعدك.. لا مفر ولا تلاقي بعد اليوم فقد تمّت خطبتي لكبير الجان بمملكة الهند.. سنفترق لا رغبة بي عنك بل خوفًا عليك من أن يسخطك العريس الجديد..)
الآن بات السمع أكثر رهافة.. تمكّنت الغشاوة تمامًا من بؤبؤ العين... أظلمت الدنيا.. وصار الأسود ليس لونًا بقدر ما هو انعدام للضوء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى