د. أحمد الزعبي - تذكرة ذهاب فقط

يوم الخميس من كل أسبوع تبدأ معركة المواصلات في العاصمة عمان. فبعد انتهاء الدوام يتجمع الموظفون والعمال والزوار وغيرهم في مواقف السيارات في العبدلي لينطلق كل إلى غايته، شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً. في ذلك اليوم كنت متعباً مريضاً شارد الذهن، وحين أقبلت على الموقف المزدحم وجدته يعج بالضجيج والفوضى والدخان فزاد تعبي ومرضي وشرود ذهني، لكن لا بد مما ليس منه بدّ. وغصت في الزحام مع الغائصين وتدافعت مع المتدافعين حتى وصلت الحافلة المتجهة إلى اربد شمالاً. وحرصاً مني على التأكد من وجهة الحافلة خشية أن يكون بصري قد زاغ عند القراءة وسط الزحمة والاختناق والفوضى، سألت احد المتدافعين المنقضين نحو الباب أن كان هذا هو الباص المتجه إلى اربد فقال نعم، فاندفعت إلى الداخل وانقذفت إلى كرسي فارغ أتنفس الصعداء وامسح عرقاً لزجاً يتصبب فوق عينيّ وأذنيّ ورقبتي. لم أر الرجل الذي ساعدني بعد أن سألته عن وجهة الحافلة. ولم اشغل بالي بالرجل وإنما بتجفيف عرقي والتقاط أنفاسي بعد تلك المعركة المضنية التي خضتها قبل أن اصل إلى هذا الكرسي وأستريح، امتلأت الحافلة تماماً وتحركت ببطء ثم زادت سرعتها بعد أن ابتعدت عن الموقف المكتظ المزدحم. خيّل إليّ أن الحافلة تتجه جنوباً لا شمالاً مثل كل مرة، فقلت في نفسي لعل هناك إصلاحات في الطرق تضطر السائق أن يسلك طريقاً أو "تحويلة" قصيرة ثم يعود إلى وجهته المعتادة. لكن ذلك لم يحدث، ومضى السائق في طريق واسع رئيسي ولم يغير وجهته التي ظلت نحو الجنوب وكاد يبدأ بطريق المطار وقد أصبحت سرعته كبيرة. سألت الراكب الذي إلى جانبي:
هل هذا الطريق جديد؟ أم أن سائق الباص غيّر وجهته لسبب ما؟
قال الرجل:
- لا أنه الطريق القديم المعتاد.
قلت:
- أليس هذا هو الباص المتجه إلى اربد شمالاً؟
دهش الرجل، وحدق بي برثاء وإشفاق ثم قال:
- لا يا أخي، هذا باص العقبة، ما الذي جاء بك إلى هنا.
دهشت وواريت خجلي وقد أدركت أنه يظن بي الظنون، فكأني أبله أو غبي أو واقع تحت تأثير مخدر... أو، ولكني أفقت من ظنونه ومن خجلي ثم قلت:
- لا حول ولا قوة إلا بيد الله، جل من لا يسهو، اعتقد أن الأمور قد اختلطت عليّ في زحمة الموقف وضجيجه وصخبه فزاغ مني البصر عند قراءة اتجاه الباص، فظننته متجهاً إلى اربد، وقد طمأنني احد الركاب وأكد لي اعتقادي أنه باص اربد.
رثى الرجل لحالي ثانية ثم قال:
- أي راكب. قد يكون مثلك ضل طريقه أو اخطأ في اختياره وظن أن هذا الباص متجه إلى اربد.
قلت:
- أظن أنه لم يركب معنا، فقد تفحصت الوجوه ولم أره، وأظن أنه غادر المكان بعد أن سألته وطمأنني.
احتار الرجل في أمري مثلما ازدادت حيرتي فيما يحدث، وأدركت إني أخطأت في اختيار الحافلة الصحيحة والطريق السليم. وأيقنت إني في طريقي إلى العقبة فعلاً بعد أن تجاوز السائق أكثر من نصف الطريق بين عمان والمطار. عندئذ وقفت واتجهت نحو السائق وأنا أتأرجح يسرة ويمنة ثم قلت له:
- يا أستاذ، أنا أسف، فقد ركبت هنا بالخطأ، فأنا ذاهب إلى اربد شمالاً، وأنا اعتذر؟ فليس الذنب ذنبك، لكن أرجو أن تنزلني هنا وأنا أتدبر أمري بعد ذلك.
دهش السائق المرهق المكفهر من رحلته الشاقة الطويلة ما بين عمان والعقبة، ثم قال بعد أن نفخ بغضب وقرف: - لا حول ولا قوة إلا بيد الله، هل أنت مجنون، أنا لا أستطيع الوقوف إلا في العقبة، عد مكانك ولا تسبب لي أية مشكلة أو أذى أو مخالفة، فوقوفك إلى جانبي ممنوع والتحدث معي ممنوع و"كلك على بعضك" ممنوع، اجلس في مقعدك.
لم اعرف سبب كرهه الواضح لي، كما لم أدرك معنى نبرة الغضب والقرف في صوته ولهجته، ولكني لم اصدق ما يقوله، فذاك أمر غريب وغير معقول، كيف لا يقف إلا في العقبة، افرض إني مضطر للنزول، وافرض إني سأنزل عند المطار أو جامعة مؤته أو أي مكان. افرض انني مت... أغمي عليّ... أي شيء كيف لا يستطيع الوقوف، هل هو جاد أم مجنون أم مأمور... أم... ثم جاء صوته حاداً جافاً غاضباً مرة أخرى وقطع علي فرضياتي وظنوني فقال:
- عد إلى مكانك يا أستاذ... هذا أمر لا جدال فيه، ولا يقبل الأخذ والرد، هي كلمة نهائية... واحدة... لا يمكن الوقوف إلا في العقبة، فلا تفتح معي مناقشة.
أدركت أن السائق حازم في أمره، وانه لن يتوقف وان علي أن أفكر بالأمر انطلاقاً من هذه الحقيقة. كما أدركت أنه لا فائدة من الاحتجاج أو الاعتراض أو حتى إفهامه أن ما يقوله أو يفعله هو أمر غير منطقي و لا يجوز حدوثه في أي زمان أو مكان، فآثرت الصمت والعودة إلى مقعدي مغلوباً على أمري نادباً حظي السيئ مقهوراً محبطاً لا قدرة لي على فعل أي شيء.
جلست في مقعدي مطرقاً مهموماً فقال الذي رثى لحالي قبل قليل:
- لا تكتئب كثيراً، تستطيع العودة في باص آخر بعد أن نصل.
فانفجرت به وكأنه المسؤول عن القضية برمتها:
يا سيدي، لا يعقل هذا الذي يحدث، أنا صحيح أخطأت في الركوب وأخطأت في الذهاب وأخطأت في المجيء ولكني أريد النزول، هل نحن في طائرة يستحيل توقفها، هل نحن في سفينة يستحيل نزولي في وسط البحر... هل نحن...
ثم أدركت أنه لا ذنب للرجل الذي يجلس إلى جانبي، فاعتذرت ووضعت كفي على وجهي وأغمضت عيني ولذت الصمت. وفكرت في صمتي بأمور كثيرة وقلت: لو أحدثت ضجة وشغباً بين الركاب بالتهديد أو التخويف أو المشاجرة فقد يضطر السائق إلى التوقف وعند ذلك أستطيع النزول، ولكن ماذا لو أنه توقف ورفض أن يفتح الأبواب، فسأعود إلى الحكاية من أولها بعد أن شوهت سمعتي وتسببت في إساءة الظنون بي. ثم قلت في نفسي: ماذا لو غافلت السائق والركاب وفتحت احد الشبابيك أو كسرته ثم قفزت بسرعة منه، ولكني شعرت بالخوف فهذه مغامرة خطيرة وقد تكون عاقبتها الموت أو الكسر أو الدهس من سيارة أخرى، فأبعدت الفكرة عن مخيلتي، فأنا لا أريد الموت ولا العذاب و لا حتى المعاناة أو الآلام من الكسور أو الرضوض التي لا بد من أن اسببها لنفسي فيما لو أقدمت على هذه المغامرة الرعناء. وشيئاً فشيئاً بدأت اهدىء من روعي وأسيطر على توتري ورحت أداعب خيالي قائلاً: لا بأس... سأنتظر... سأستسلم إلى حين الوصول إلى العقبة ثم ارتاح قليلاً وبعد ذلك استقل الحافلة العائدة إلى عمان ثم أتابع الرحلة إلى البيت في اربد. واستحسنت هذه الفكرة مكرها وبررت هذه المعاناة بأنني المسؤول عما حدث وان علي أن أتحمل هذه المسؤولية المؤلمة وتذكرت المثل القديم الذي يقول "إذا كنت ذاهباً إلى لندن فلا تركب طائرة مدريد"، ولذلك فالخطأ خطئي. وهونت الأمر على نفسي أكثر فأكثر وقلت إني كثيراً ما عانيت وتعبت تورطت واكتأبت في مشكلات وموجعات ومفجعات أكثر من هذه... وان باستطاعتي تجاوز هذه المحنة مثلما تجاوزت كثيراً غيرها في الماضي.
واستمر الحوار والضجيج والجدال في ذهني طوال الطريق، ومرت الساعات البطيئة المؤلمة وأنا في صراعات محتدمة في داخلي بين احتمالات وفرضيات ومجادلات ومناوشات وثورات ومناورات حتى أحسست بالحافلة تهدأ رويداً رويداً وتخف سرعتها حتى توقفت تماماً في موقفها في العقبة. أفقت من أخيلتي التي تناثرت على الطرقات المترامية ولم ينزل معي حين بدأت انزل مع الركاب سوى فكرة واحدة وهي العودة من حيث أتيت بعد أن ارتاح قليلاً.
وبالفعل ارتحت قليلاً في احد المطاعم القريبة من الموقف إلى ما حدث وقلت علي أن أتأكد تماماً بأني سأسلك الطريق السليم واني سأختار الحافلة الصحيحة التي توصلني إلى غايتي. وسالت سائقاً يرتاح في المطعم:
- أين حافلات العاصمة عمان شمالاً، التي تقلني من هنا أي العقبة إلى هناك أي العاصمة عمان.
واستغرب السائق تفصيلاتي ولغتي الواضحة البطيئة ولمنه تجاوز الاستغراب وقال:
- لا توجد سيارات إلى عمان
لم افهم سيارات إلى عمان؟! ماذا تقصد، كيف يسافر الناس من هنا إلى هناك اذن؟!
قال دون اكتراث بي:
- لا اعرف، لكني سمعت اليوم أن هناك سيارات قادمة فقط و لا تعود ثانية، كما أنه لا توجد سيارات أخرى راجعة إلى هناك.
خفت أن يكون الأمر صحيحاً على الرغم من شعوري باستحالة ما يقوله، ولكني لا أريد أن اكرر الخطأ السابق حين شعرت باستحالة تنفيذ ما قاله السائق السابق عن عدم الوقوف إلا في العقبة، وقد حدث ذلك، فقلت له:
- أرجوك، أن كنت تمزح فحالتي يرثى لها، وان كنت جاداً فيما تقول فماذا حدث؟ وكيف حدث... وهل...
فتركني الرجل بلا مبالاة واتجه إلى سيارته دون أن يرد علي بأية كلمة. سارعت إلى صاحب المطعم والى بعض العاملين والى بعض الرواد الجالسين والواقفين، وسألتهم عن الأمر، فكانت إجاباتهم جميعاً واحدة (نعم لا توجد أية وسيلة نقل للعودة). خرجت إلى الناس في الموقف وفي الشارع وسألت كل من صادفته فأكدوا لي تلك الحقيقة. جلست منهاراً على الرصيف اسأل المارة واستوقف السيارات والباصات والعربات لعل أحداً أو شيئاً يعيدني إلى العاصمة ولكن دون جدوى، وما زلت ملقى على الرصيف وأنا اردد "إذا كنت ذاهباً إلى لندن فعليك إلا تركب طائرة مدريد".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى