القرية الخربة

في القرية الخاوية من كل شيء، حتى من الماء نتذكر والناس أيام كان الغدير وافرا، والوادي الذي كان ماؤه يطفو على الأرض حتى أبواب البيوت، ينْسل بين الأيدي، يُنعش الجوف والجلد، كما ينساب في حنفيات المدينة، ينساب في الطريق إلى المقبرة، الكل كان ينام على بركة من ماء، ولا يحزن أحد من أن يدفن دون أن يكون جوفه مليء بقدر من الماء، كما أن التفكير في أن يدفن متيمما دون أن يُغسل بالماء الفاتر ضرب من العجب فلم يحدث ذلك حتى أثناء المعارك الطاحنة، النار مازالت في القرية، لم تهجر المواقد ولكن القدور هجرتها.

جُنّ بعض الناس وتهادوا إلى أفكار عديدة يحتفظون فيها بما ما تبقى من الماء، وفي حزن شديد من كبيرهم الذي جلب مساوئه عليهم بحكمه لعشرات السنين، فلا زال الجد ذو الستة وثمانون سنة يتذكر كيف عيّنه أبوه أول مرة على رأسهم، بنظام لم تعرف تسميته فهو خليط بين الديمقراطية، الديكتاتورية، الملكية، القبلية، البيعة، وحكم آخر يقال أنه لأجناس في الفضاء من مجرات خلف مجرة التبانة بشارعين أو ثلاثة، بعض الجمع من كتاب الصحف سموه نظام الأبوقراطية، حيث أن الديمقراطية يمثلها الحاكم في اختيار من يليه في الحكم من أبنائه، وهو أبو الجميع وعليهم واجب الطاعة.

في ذلك الحين لم يكمل الجد ذو الستة وثمانون عاما الرابعة من عمره، المضحك أن الحاكم اقترح عليهم أن يشرب كل من أهل القرية مقدار كأس من الماء كل يومين، ويصوم عن التبول حتى لا يفقده، ويظل يحيي عروقه منه طوال اليومين، وأن ينامون النهار ويعيشون الليل تباعا حتى يأتي الغيث، الجد ذو الستة وثمانون عاما اعترض اعتراضا شديد اللهجة ووبّخ الحاكم، في لحظة نسي نفسه ومن يخاطبه، وطلب منه أن يتخير نصائحه، إذ كيف لشخص مثله أن ينام بالنهار وكيف سيتأقلم بعد هذه السن، وفي حيرة من أمر الشيوخ فقد هجر أغلب الشباب من سنين، في هجرة سميت بهجرة الملّل الأكبر، سافر فيها معظم الشباب دفعة واحدة ثم في دفعات صغيرة متتالية، فقد أصابتهم الكآبة في منتصف الثلاثينيات تقريبا وكان لزاما عليهم الفرار للعلاج وربما المكوث هناك بعد العلاج، وبعد أن أصبحت أخبار القرية تملأ قنوات التلفزيون والصحف.

وفي زاوية بعيدة مظلمة في طرف القاعة التي جمع فيها الحاكم الشعب، كان شيخا كث اللحية، أشعث الشعر، طويل القامة، شاحب الوجه بدأت تظهر عليه علامات الجفاف المزمن، لم يكن مألوفا للسكان، يتمتم بكلام غير مفهوم، حتى أن الحاكم لم يكُلف نفسه عناء الاستماع وفي تفكيره أنه ربما جنّ في الآونة الأخيرة، فبعد وباء الكآبة للشباب،حل على القرية، وباء الجنون فأصاب الشيوخ دون الشباب، أما الشباب الذين كانوا دون سن الكآبة، وإن أصابهم الملل فإن أهلهم كفيلون بأن يعطوهم جرعات أمل على عدة مرات سرعان ما يصبح مدمنين بهذه الجرعات ويزداد طلبهم فيصبح الأولياء غير قادرين على توفير هذه الجرعات، ويكونوا قد وصلوا إلى سن الكآبة فيصابون بها، يرحلون ان استطاعوا أو يعاقرون الغراء وبعض لفائف الدخان، كلٌ حسب باءته، بينما كان الشيخ يدلي بدلوه دون ماء، تأفف الحاكم كعادته، لكن لم يثنه عن الكلام، ورغم مظهره الذي يوحي بقلة فطنة، فقد أتى بفكرة نالت استحباب جميع الحاضرين، خلص إلى بعض النصائح كقوله، أننا لا يجب أن نغتسل، ضحك الحاكم كثيرا دون أن نعرف السبب إلا أن رائحته ورائحة حاشيته، تفوح عطرا ليس كباقي الحاضرين الذين أصبحت رائحتهم متعفنة، وطلب تشكيل فريقا من الشيوخ الأصغر سنا، والشباب الأكبر سنا الذي لم يصابوا بالعدوى ويتجهون إلى الجنوب عبر مجرى النهر الجاف وعبر حجارته التي أصبحت مسننة كأنها فم تمساح ميت، ليعرفوا سبب جفائه، فربما يرون ما الذي يعيق ماؤه.

توقف ضَحِكُ الحاكم فجأة، وانقلب مزاجه وأصبح وجهه كلّيْل بتجاعيد الشتاء، وصاح بالشيخ القابع في الزاوية المظلمة حتى ظن البعض أنه سيقتله بمسدسه الفضي ذو المئة والستون طلقة وطلقة، ولكنه هدأ وعاد لرشده، ثم رجع ليستخف بحديث الناس، وفي خضم الحديث والمناوشات كان الجد يكاد ينهار من الحديث والعطش فسقط مغشيا عليه، فحملوه إلى بيته أين توفي في حينه، قال البعض أنه من فعل سواد قلب الحاكم عليه أثناء رده الذي رآه الجميع تحديا سافرا للحاكم، كان يكسوه العرق حتى أن بعضهم ظن أنه قد ارتوى من فيض لا يعرفه إلا هو أو ربما كما قالت عجوز كبيرة، لا يعرف تاريخ ميلادها ولكنها تعرف تاريخ كل سكان القرية ومتى ولدوا وحتى ميلاد أمهاتهم، قالت في حين كان الشيخ يلفض آخر أنفاسه، أن الغزلان قد روته وهي حكاية ترويها كل العجائز لأبنائهم الصغار المصابون بالتبول اللاإرادي أثناء طلبهم للماء في فراشهم، قبل النوم أو عند قيامهم في الساعات المتأخرة من الليل وطلبهم للماء وكان الأمر يكون بسيطا لولا أن الأمهات كان يخفن الخروج، فقد صادف مثل هذه السنوات العجاف في حكم الأب قبل تولية ابنه.

في ذات الليلة حضر الحاكم أمرا مكتوبا في شكل قانون استثنائي ووزعه على الرعية، وقد أضاف بعض التعديلات زيادة على اقتراحاته بالاجتماع، حيث أمر أن يجمع كل الماء في خزان بقرب قصره ويضع عليه خمسة من رجاله الأمناء ليوزعوه بالعدل ويأخذ كلٌ نصيبه.

في موعد الجنازة كان الحاكم حاضرا ليشارك في مراسيم الدفن ، تجرأ أحد أبنائه الذي يبلغ الخمسة وستون عاما أن طلب من الحاكم تغسيل جثة المرحوم فأمر له بكأسِ ماء من باب إحقاق الحق، وأن الحي أولى بالماء من الميت، وكان الشيخ الابن قد أخذ به العطش من ملوحة دموعه حزنا على أبيه، فامتدت يده على كأس الماء ودون أن يفكر، شربه في صبة واحدة، تأفف الحاكم ذو المئتي سنة من أخلاقه وأمر للمتوفى بكأس آخر من الماء ، وأصبح ورثة الشيخ الجد يطالبون بنصيب أبيهم من الماء يوما بعد يوم حتى هطل المطر بعد شهور.



في حين لم يكن الملل يصيب الشيوخ، فقد أصاب وباء الملّل حتى في سن متأخرة كحالة البعض فكانت الكآبة من بعض الأشياء، من الأماكن، من بعض الأشخاص كذلك، عندما تبحث عنهم، فتجدهم بنفس الأشياء، وفي نفس الأماكن التي أصابتك بوباء الملل، فتضطر الى المبيت إلا ّ أن يفسد عليك قرار الحاكم بالمبيت نهارا ذلك، حتى بعد أن توفر الماء في القدور بعد تضرع لله وصلاة للأموات الأحياء، فدعوات الشيوخ كانت تتناسب مع أمالهم المعلقة في دفنهم في قبورهم مغتسلين متطهرين، وبعد أشهر نزل الغيث ، ظل قرار الحاكم ساري المفعول حتى تفتقت العيون في كل ناحية من المدينة، فأصبحت يد الحاكم مغلولة، لا تستطيع أن تسيطر على جميع المنابع فاضطر إلى تقبل فكرة توزيع الماء عبر الحنفيات من جديد وتغسيل الموتى بماء فاتر .

قبل أن يتفاجأ سكان القرية الخرِّفة بنزول المطر، كانت خزائنهم من الحبوب تكاد تنضب، لكن الربيع قد جاءهم ببعض الغيث من أعشاب وبعض الفواكه من أشجار كانت تستعيد روحها بتعب كبير، في خطاب وجهه الحاكم بصوت خشّن في رفعه الحظر عن الماء، ذّكر بضرورة المحافظة على المدّخرات من الحبوب مع إمكانية العودة إلى حالة التقشف في الماء بداية الصيف حسب ما سمع من الحر الذي أصاب القرى المجاورة، بعض السكان أرادوا التظاهر وسط القرية مطالبين ببعض الحبوب، فقد تآكلت أمعاءهم من أكل الأعشاب وجذور الشجيرات حتى بداية الصيف، وكان يقودهم شيخ يناهز عمره السبعين سنة ويزمجر بكلام لم يسمعه أصحاب القرية من قبل وطالب بتقسيم الريع بالتساوي كل بمقداره حسب ما تقتضيه العدالة والمواطنة، استغرب البعض في كلامه المصفوف وتمنوا لو كان حاكمهم وبعد نصف الساعة كان الحاكم بينهم، ازداد وزنه رغم السنين العجفاء التي مرت بها المدينة من نقص في الماء والزرع، أمر رجاله بأن يطلبوا من الحشد ممثلين عنهم فرشح الجمع مجموعة متكونة من خمسة أشخاص، كان أحدهم شديد الولاء لمن مثلهم، فترآى للحاكم أن يضعه في السجن، لكن مستشاريه ارتأوا أن ينفوه مع بعض النقود وعائلته الى جهة غير معلومة، بينما الأربعة الآخرين فقد نالوا مبتغاهم في حدود ما تسمح به قدرات حملهم، تفرق الحشد بعد أن وعدهم ممثليهم بأن مطالبهم ستدرس قبل الصيف المقبل، وأصدر الحاكم أمرا جديد بتجدد حالة الجفاف وأغلقت الحنفيات...........

الاطرش بن قابل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى