حنان الدناصوري - الواحة البحرية.. قصة قصيرة

حملت أشيائي القليلة وسرت إليك. الحقيبة الصغيرة في يد وفي الأخرى قفص الكناري بريشه الملون والعنوان. معذرة... كنت على سفر فلم أعرف أنك انتقلت إلى عنوان جديد.

عدت إلى البيت القديم، فوجدتهم في انتظاري على العتبة. سلموني في صمت أشياءك القليلة، قفص الكناري، عنوانك الجديد ومفتاحاً صغيراً. نظراتهم التي كنت قد نسيتها قاسية وكارهة.

الطريق إليك طويل لكنني سعيدة. أكرر العنوان على السائق فيؤكد لي أن المكان معروف، أما الشارع، فسنسأل عنه هناك.

في الحلم استعدت جلساتنا معاً على زقزقة الكناري وصوت أم كلثوم، وطلبت منك أن تسامحني، وأنا أضع قبلة على جبينك وأمسح على شعرك الفضي. وحين اعترفت لك بأنه لم يبق لي إلا بيتك ليضمني، نظرت إليّ بعينين مغرورقتين وقلت إنك تقدمت في السن كما أنه لم يعد يناسب مقامك، فقلت لك:"المهم اننا مع بعض". للمرة الأولى أحلم وأنا في الطائرة، وللمرة الأولى تصدمني نظراتهم القاسية في هذا الشكل.

شعرت بالقلق ونحن نبتعد من العمران، فعاودت سؤال السائق إذا ما كان يعرف الطريق. زفر بضيق وهو ينظر في المرآة:"اطمني يا مدام".

كان العصفور بجانبي هزيلاً عن ذي قبل. ينظر إليّ بعينين حزينتين كأنه يسألني كيف تركته لهم وأنت تعرف كراهيتهم له؟ وحين مسحت على ريشه وهمست له بأننا ذاهبان للقائك، حرّك جناحيه وزقـزق كأنه أدرك ما أعنيه.

من بعيد لاحت البنايات، عند مرآها هبّ نسيم يحمل روائح حميمة، خليطاً من قهوتك المحوّجة وتبغك الخاص. تقاطعت الروائح مع صوت علي الحجار المتهدج من بعيد:

" شوق حش روحنا وحشانا

يا قلوب يا غالية وحشانا".

ارتفع أذان المغرب من جامع قريب. راقبت غبشة المساء وهي تنسحب أمام ضوء مصابيح الطريق التي تنير تباعاً، وداخلني يقين بأنك في انتظاري، فغمرني الحنين إليك حد البكاء.

سأل السائق أحد العابرين القلائل - قبل أن ينعطف في حارة مظلمة - عن شارع الواحات البحرية، فأشار إلى شارع قريب.

كانت البنايات القصيرة من الطوب الأحمر الوردي متماثلة، وأشجار الفيكاس المتربة تتوالى من نافذة السيارة، وأنا في ارتباك أتساءل عما دفعك لسكنى هذه المنطقة البالغة الهدوء، وحين توقف السائق أمام شجرة بونسيانا بزهور حمر، وقفت أمام البوابة الحديد الصغيرة حائرة، فيما يسألني السائق إن كان سينتظرني، فلم أرد وأنا أمد يدي له بالحساب. استدارت السيارة إلى الخلف، فاستندت برأسي الى حافة الرخامة المحفورة عليها حروف اسمك والمفتاح الصغير في يدي يعبث في القفل الذي اعتلاه الصدأ.

*

في منتصف المسافة بين باب الشقة والنافذة يلتقي بها. يمد يده بالورقات العشر التي تتسلمها بلهفة طفل الى الحلوى. تقبض عليها بحرص على رغم ارتعاشة يدها الواضحة. تضعها في جيب روبها المشجر. يدفعها بالكرسي ذي العجلات الى مكانها المفضل أمام النافذة البحرية، ثم يدخل الحجرة الداخلية ليقرأ الصحيفة التي يشتريها يوماً واحداً في الشهر خصيصاً من أجل الانتظار. تشعر بملمس النقود، فتغمض عينيها وتستجلب لحظات السعادة القليلة، يذهب الوهن ويعود إلى الوجنتين الشاحبتين تورّدهما، فتشعر بطاقة تفتقدها بقية أيام الشهر.

ما إن دخل الحجرة، ولمحت الحفيدة النقود في يديها حتى تركت لعبها وحامت حول مقعدها في ترقب، وجلست الزوجة على مقعدها في المطبخ - بعد غسل يديها - لتسجل في ورقة قائمة طويلة للاحتياجات الشهرية.

ابتسمت الصغيرة للجدة بإغراء، فدعتها للاقتراب بإشارة من يدها قائلة:

"تديني بوسة".

في حضن الجدة اندفعت مصـــطدمة بعـــجلات المقعد، ثم مدت يدها في صمت، ففركت الجدة بين إصبعيها ورقة جيداً قبل أن تضعها في اليد الصغيرة وتقول:"خللي ماما تجيبلك حاجة حلوة".

بينما بدأ هو في قراءة الصفحة الثانية من جريدة"الأهرام"، امتدت يد الزوجة - المجففة جيداً - لتتسلم الورقة من الصغيرة التي عادت إلى موقعها سريعاً.

مع تناقص الأوراق ازداد ضغط أصابع الجدة على الورقة عند تسليمها، لتقاوم انتهاء اللحظات النادرة التي تشعر فيها بحاجتهم إليها. بينما تستعجلها الصغيرة حتى تكمل مهمتها.

مع تسلم الزوجة الورقة العاشرة والأخيرة، أطفأت شعلة البوتاغاز وأعطته هو - الذي انتهى تواً من مقال أنيس منصور - الورقات، والقائمة بعدما حذفت منها الكثير لتبقى في حدود المتاح. وحين نادت"الأكل ع السفرة"، كان هو على باب البيت في جيبه الورقات العشر والقائمة، بينما الصغيرة تعيد تمثيل المشهد بعرائسها متجاهلة نداء الجدة - المطالب بالقبلة الحادية عشرة - والتي سرعان ما نامت في مكانها المطل على النافذة البحرية لتستعد لسؤالها الذي يتكرر كل صباح:

"هو النهارده كام في الشهر".



* نشر في العدد: 16685 ت.م: 09-12-2008 ص: 23 ط: الرياض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى