شهادات خاصة حسن بيريش - شكــري كما عرفته.. لنتكلم عن الحياة ·· هذا أفضل·· هذا أجمل (11)

ـ في المابين

إحساس محمد شكري بالحياة كان أقوى من إحساسه بالموت· يطيل الحديث كثيرا عن الراهن ـ الواضح· لايجهش بالآتي ـ المبهم إلا لماما· بيد أن احتفاءه بالحياة كان يتضمن شعورا خفيا بأنه يعيش في المابين: مقيم ـ عابر في آن· وما كان يتظاهر بعكس هذا الشعور·
حينما يكون في حالة انتشاء بيِّن، ويجرنا الحديث إلى الموت والموتى، يسكتني بإشارة من يده قائلا في امتعاض: "أوف! لماذا تفسد علينا جلستنا؟! دع حديث الموت جانبا· لنتكلم عن الحياة· هذا أفضل· هذا أجمل"·
اعتذاري على لساني:
ــ عذرا، السي محمد، لم أكن أعتقد أن الحديث عن الموت يقلقك بهذا الشكل·
يبدو كمن دُوهم متلبسا· يجيء رده كما توقعت :
ــ أنا لا أخاف من الموت · صحيح أن الشيخوخة اللعينة دبت في أوصالي، وقصرت من خطوي عند المشي· لكني أعرف كيف أحتال عليها لأظل قويا·
تند عني ضحكة· يعلق مبتسما:
ــ إسمع، العايل، أنا لم أبدأ عدي التنازلي بعد· أنا أكثر شبابا منك· يجب أن تعرف ذلك·
أتشبَّث بلحظة تجليه التي تمنح جلستنا متعة أكثر· تكسبها طعما أبهى· أمعن في حث شكري على المزيد من الاستفاضة:
ــ السي محمد، أن تقفز على الفارق العمري الذي يفصل بيننا· لا تنسى أني أصغرك بخمس وثلاثين سنة كاملة!
شرب محتوى كأسه دفعة واحدة· جفناه نصف مطبقين· عيناه تشعان برغائب مشتعلة· سخرية مرحة متضمنة في صوته:
ــ ولو· لا أهمية لفارق السن· أنا أبدو أصغر منك· هذا هو المهم·
تألق وجهه ابتهاجا· تذكر:
ــ أتعرف، منذ أربع سنوات، راهنت شابا في مثل سنك· وأذقته من قوة ذراعي ما اضطره إلى التسليم بفتوتي· هل تجرب؟!
هبَّ من على كرسيه متحمسا· أخذ وضعية الانقضاض· عيناه تضيئان بتحد ذكرني بصولاته وجولاته ومعاركه الدامية في زمن تسكعه وصعلكته·
شعور بالدهشة يبدأ يأخذ طريقه إلى داخلي· أردد ضاحكا:
ــ أعترف أنك الأقوى! والأكثر شبابا!
يهز كتفيه· يقتعد كرسيه· يقول في انشراح:
ــ رفعت الراية البيضاء سريعا· أيها الخواف!
فتحية، في إحدى حالات حنينها الجياشة، تقول لي: "شكري: اللطافة والظرافة، الروعة ولمن عطاها الله"·

ــ لو كان بالإمكان:

الساعة تقترب من الواحدة ظهرا· الحرارة خانقة· رأيته يعبر الشارع نحو مبنى البريد المركزي· يمشي متئد الخطى· يداه مشبوكتان وراء ظهره· إلى جانبه محمد برادة· مرة يسبقه، وأخرى يحاذيه· يتبادلان حديثا ضاحكا· حثث خطاي حتى صرت إلى جانبهما· حالما وقعت عيناه علي بادرني محييا:
{ آ·· أهو أنت ؟ فاين هذا الغيبة؟
" سألت عنك في (إلدورادو)· قيل لي إنك لم تعد تذهب إلى هناك·
ــ لم أذهب إلى هناك منذ أسبوعين· لم يعد يروق لي الجلوس في ذلك المكان· (الريتز) أفضل·
أشار إلى محمد برادة، الذي كان يرمقني بنظرات مشفوعة بابتسامة واسعة، مرحبة:
{ هذا محمد برادة· هل تعرفه؟
" بالتأكيد·
قدمني بطريقته المعهودة، المدججة بالتشجيع:
ــ الأستاذ حسن بيريش· من الكتاب الممتازين في طنجة· كتب عني كتابا جيدا· وهو صديق رائع·
ابتسم محد برادة· قال:
ــ أهلا وسهلا· تشرفنا·
ودعتهما· وفي الدواخل شعور طفل تلقى للتو هدية طال انتظاره لها·
هذه "شهادة شكرية" تحاكي سموق نخيل تافيلالت· هذا اعتراف ما حظي بمثله إلا القليلون·
وحده سليمان الحلبي، بطل رواية الرائع إسماعيل فهد إسماعيل "النيل الطعم والرائحة"، يعبِّر عني: "لو كان بالإمكان لوزعت فرحي على قارات العالم"!

ــ أصبحت بمعدة عصفور:

كنا، الشاعر عبد اللطيف بنيحيى وأنا، نتناول العشاء مع محمد شكري، في مطعم (إلدورادو): قطبان اللحم والكفتة· بطاطس مقلية· سردين مخلل· زيتون أبيض وأسود· أرز محمر· وسلاطة·
لفت انتباهي أن شكري لا يأكل بقدر ما يداعب أكله·
استفسرته· قال:
ــ أنا لا آكل عن جوع· بل عن شهية·
أضاف ضاحكا:
ــ لم تعد معدتي تتحمل الطعام الكثير· أصبحت بمعدة عصفور!
تذكرت قوله في "السوق الداخلي": "لم أحب أبدا الطعام متعة لذاته· أحب دائما الطعام من أجل المتع الأخرى الممكنة من خلاله"·
سأله عبد اللطيف بنيحيى عن أخباره وأحواله· شاع الامتعاض في وجهه· قال:
ــ ذهني صاف· مزاجي رائق· لكني أشعر بألم في جنبي الأيسر· وساقي تؤلمني بين وقت وآخر· خصوصا عندما أبذل جهدا عضليا·
قلت مشاكسا:
هي مساوئ الشيخوخة، السي محمد· أليس كذلك؟
نبرة الأسى تنشحن في صوته:
ــ نعم· هذا صحيح· إنها الشيخوخة اللعينة!
طلب له بنيحيى كأسا· اعتذر شكري قائلا:
ــ شربت كثيرا هذا اليوم· لا أريد أن أفقد توازني· سأبدو سخيفا· مزعجا· في هذه الحالة·
لم يعلق أي منا بشيء· استطرد شكري:
ــ عندما أفرط في الشراب أحس بالأرض تتحرك تحت قدميَّ! و تبدأ القطط الوهمية تتماوأ في رأسي!
صمت متوتر يحكم جلستنا· يبدده، فجأة، صوت شادية القادم من جهة ما من المطعم: "قولو لعين الشمس ما تحماشي، لحسن حبيب القلب صابح ماشي"·
شكري شغوف جدا بهذه الأغنية· لا يمل من سماعها أبدا· " ذكرتني بطفولتي في أحياء تطوان" ـ هكذا يعلق شكري كلما سمع شادية·


8/18/2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى