سعيدة عفيف - بحر الدماء

"إننا بحاجة إلى الخيال كي
نواجه تلك الفظاعات التي
تفرضها علينا الأشياء"
خورخي لويس بورخيس


سهوت قليلا عن صوت المذيعة التي كانت تبث أخبار الظهيرة، أخبار مائعة كالعادة لا روح فيها، وسيل من الشرور والآثام والخراب والدماء يكتسح المساحة المخصصة لكل الأحداث، ويهفو جاريا إلى مصبّ. شردت من غير قصد، إذ لا خبر مختلفا يستأثر بانتباهي.. غير الشمس تفرد أجنحتها المشعة على الكون، وتتسلل جهارا عبر زجاج النافذة المقابلة، فتدفئ ما تصقع من أحاسيس..
لكن سيل الدماء يجدّ في ركضه ليصل إلى كل القنوات.. من بينها قناة.. لا بد أنها إشهارية تعرض كل المواد القابلة للاستهلاك طرّا، وبأثمنة جد مناسبة توافق قدرة المستهلك العزيز الذي تهم راحته كل المنتجين أولا وآخرا.. وفيما كانت صور المنتوجات تتوالى تباعا على الشاشة، ظهرت صورة لبحر أحمر ماؤه.. ظننت في البداية أنه البحر الأحمر، أو أنه أحمر بفعل انعكاس شفقيّ وقت الغروب، أو نتيجة لصناعة صورة إعلامية مثيرة للسياح قاطبة؛ لكنه لم يكن سوى إعلان وإشهار لبحر يدعى "بحر الدماء". كنت أسمع ذلك لأول مرة، مما أثار اندهاشي وعجبي، .. وبحرُ دماءٍ أيضا..! واعجبي..!! ألا يكفي ما نحن غارقون فيه من دماء حتى الآن؟؟ فغاب عني شرودي وأصخت السمع جيدا، يقول المراسل:
- وأخيرا تم إنجاز إنساني عظيم، ... إنشاء بحر من الدماء على شطر كبير من اليابسة، اقتُطع منها في عصر من العصور، وفي زمن غير بعيد، نظرا لسياسات عالمية جدية آنذاك، أخذت بعين الاعتبار في مخططاتها التنموية المستقبلية هذه الرغبة الإنسانية المتعطشة للدم، وارتأت بعد تفكير عميق، ولأمد طويل، أن تكثف جهودها لتهيئ مصبا ضخما تقصده كل أنهار الدم العظيمة بالعالم، لأجل وجود مريح للإنسان على هذه الأرض من جهة، ومن جهة أخرى لإرضاء كل الباقين من ذوي النزعة الدموية، الميالين منهم لسفك وهرق الدماء، والمتذوقين والشاربين عموما لهذا النوع من الشراب. لما يجدون فيه من لذات ومن بواعث قوية على الاستمرار في الحياة، أيّا كانت الظروف.. ولقد حظي البحر الفريد بهندسة وتصميم جميلين، وموقع استراتيجي مهم سيحج إليه البشر من كل حدب وصوب، وسينسيهم في كل محج كانوا يفدون إليه من كل بقاع الأرض، للتحرر من أفكارهم البالية ومن أوهامهم التي أضنت أرواحهم، وشنّت الفتن فيما بينهم، ومزقتهم إلى طوائف متطاحنة، ونذرت أُلفتهم إلى الهباء وفرقت شملهم لأزمنة خلت؛ وللتخفيف من أضغانهم الاجتماعية وأحمالهم التاريخية الثقيلة التي ورثوها عبر حقب عديدة.
القيّمون على البحر جد مسرورين بالدعم الدموي، الذي يتلقونه سنويا من مختبرات عالية المستوى، متخصصة في تحويل ما يتكوم من أشلاء الآدميين والحيوانات إلى دماء خالصة لتزويدهم بها، لأجل ما يقومون به من أشغال الرعاية والصيانة والسقاية، والقيام بكل ما يلزم ليبقى البحر دمويا صرفا. تغلب فيه الكريات الحمراء على البيضاء، كي لا يصاب بالأنيميا في وقت من الأوقات، وذلك لامتصاص الشعور بالإرهاق والعدوانية اللذين يصيبان المرء، أثناء الرغبة الملحة في رؤية الدم وإراقته، ولإشعار المستحم المستجم براحة نفسية كبيرة وهو يشاهد هذا السائل الأحمر المثير لكل جوارحه، وينغمر منتشيا بالدماء لساعات طوال، كلما رغب في ذلك.. وهكذا سيقل الإصرار على الجريمة نوعا ما. وستنقرض مؤسسات السجون شيئا فشيئا.. وسيَليها تقلص في عدد المقابر الجماعية والفردية، وكل ما يترتب على ذلك من المؤسسات والصناعات والحرف الطائشة، التي تكوّن حلقات في هذه السلسلة التي تخنق الإنسان، وتلوي عنقه على هذا الكوكب الجميل.. ثم كي تُستغل هذه الفضاءات فيما يقوي مدارك الناس، ويرتقي بمشاعرهم وأحاسيسهم ونزعاتهم الفطرية إلى ما دون الصفات البدائية الوحشية التي جبل عليها، والتي لم تقدر على تغييرها أعظم أفكار المفكرين وعبقريي الإنسانية، مذ كان للبشر عقول يفكرون بواسطتها، للقفز بعيدا عن بدائيتهم غير آسفين عليها.
ثم يكمل بنبرته الحماسية:
- .. والبحر الآن جاهز للاستعمال والاستغلال الدموي على الوجه الأحسن.. وحسب حاجة ورغبة مرتاديه، مشيرا إلى صور وفيديوهات تستعرض أرتال الوافدين، الذين بدأوا يقصدونه ليستفيدوا من ميزاته العميمة.. بعضهم يستمتع في غمار الدماء، والآخرون يأخذون حماماتهم الشمسية بعد قضائهم وقتا سعيدا في السباحة.. والبعض الآخر يعبر عن ارتساماته وشديد إعجابه بهذا المنجز.
يقول أحد المرتادين:
- المكان ساحر جدا، فعندما نخرج من بحر الدماء لتعانق أجسادنا أشعة الشمس، يتملكنا ويرعانا إحساس براحة غريبة من خفة ذهن وروح وجسد.. ننسى أعباءنا وهمومنا وأفكارنا وعاداتنا التي كنا عليها.. حتى ثيابنا التي ننزعها قبل معانقة البحر والغوص في دمائه الرائعة اللذيذة، وما كنا نحمله معنا من أغراض، لم تعد لنا بها حاجة، وصارت غير مناسبة لوضعنا الجديد...
ثم يشير حوله: وما حاويات النفايات هذه وتلك.. الموضوعة بشكل منتظم هنا وهناك، إلا لاحتواء هذه الأغراض؛ من ثياب صممت لاستخدام أجسادنا لغايات سيئة، ومن كتب غير نافعة ألينت عقولنا وأصابت أفكارنا بالعقم المزمن، ومن أسلحة فتاكة مدمرة... إلخ.
ويضيف بارتياح: كنت في البداية مترددا في المجيء إلى هذا البحر.. لكنها زيارة لن تندموا عليها أبدا، بل ستتخلون عن كل شواطئ العالم وبحاره، لو أقدمتم على المجيء.. فلا تترددوا وأسرعوا ما أمكن لكم.. فدماء البحر في انتظاركم...
تزداد دهشتي، ويتفاقم ألم في كل مفاصلي، وأفتح عينيّ على اتساعهما.. أفركهما جيدا ثم أفتحهما ثانية. هل أنا في علم أم في حلم؟؟ هل فعلا تجاوز الإنسان علة دماره وقبض على أسباب فشله؟؟ هل كان يجب أن يمر على الأرض كل ما مرَّ وما يمرّ، وهل كان يجب أن تراق كل تلك الدماء، ليمتلئ هذا البحر الكبير من الدم؟؟ وهل من المنطقي جدا أن يبني الإنسان راحته وسعادته على دماره الكوني؟ أيُّ منطق هذا إن لم يكن منطق إنسان متروك لنفسه لشأنه لخوفه لضعفه لحاجته لطموحه الجارف المدمر لنزوعه الانتحاري لنكوصه القاتل، لموجات الأضداد تتنازعه، فيسعى بكل ما أوتي من جهد للرقص في محافل الموت..؟؟!! أي إنسان خرافيّ هذا؟!
كم تبدو الآن هذه الأسئلة وغيرها عقيمة وغير ذات جدوى، أمام كل ما يحدث.. ربما لأنها لم تستحم بعد في بحر الدماء، ولم تنعم ببركاته الجليلة؛ قد تثيرها المحاولة ويغريها الحج إليه يوما، عندما تجد نفسها ركيكة معزولة وحيدة عما يجدّ من أسئلة، أو عندما يشتد عطشها الأسطوري لجواب، بالرغم من أنها قلقة رقيقة وليست تتحمل رؤية دم ديك يذبح، ولا حتى تقوى على لفظ كلمة دم.. لكنها الضرورات ما يبيح المحظورات!...
ترتعش يداي. ومنهما تسري ذبذبات كهربائية تجعل مجموع جسدي يصطك ببعضه من كل هذا الخبل.. وبطريقة آلية تزوَرُّ آلة التحكم في يدي إلى قناة كلاسيكية، كانت تقدم ما بقي من روائع الزمن الجميل حتى الآن. علّها تكون ناجية من الغرق في بحار الدماء، فيفاجئني صوتها الملائكي يصدح:
تعا ولا تجي وكذوب عليّ
الكذبة مش خطيّة
وعدني إنو رح تجي
وتعا .... ولا تجي
وتعا .... ولا تجي....*

"تعا ولا تجي" كي يظل الوهج في اشتعال لا يخفت أواره.. كي أظل أنا يا أنا.. لا يقزمني ولا يرعبني كل ما تبثه قنوات الدم..
تعا.. ولا تجي .. فأهدأ لما يغمرني كل هذا السحر الخالد، وسيل المحبة الحانية التي ليست كذبة في شيء. تعا.. ولا تجي... تيرا رارا...


---------------------------------
*- من أغنية فيروز: تعا ولا تجي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى