مراد الحجري - حكايات من سيرة رجل غير صالح للحياة

لم أتخيّل يوما أنّني سأعود إلى الحياة بعد أن تخلّصت من وهمها وزيفها عن إدراك واقتناع.... ولم أتوقّع أبدا أن انتحاري سيحدث صخبا كبيرا ولغطا كثيرا، بل كنت أعتقد أنّه سيخلّص عائلتي من مشاكل عديدة وسيجنّب وطني أزمات وفيرة ... فأنا لن أطالب بعد أن رحلت عن هذه الدّنيا بالعمل الّذي طالما وعودوني به ولم أتحصّل عليه بل سأتركه لغيري يستمتع بجني ثماره ... ولن أكلّف الصّناديق الاجتماعيّة معاناة دفع جراية تقاعدي ولا مأساة مداواة أمراض شيخوختي ... أنا انتحرت لأنّه كان الحلّ الأمثل لي والأفضل لهم !... ولكنّ ما سمعته عن طريق أحد الأموات الجدد، جعل الموت الّذي سكن الرّوح والجسد يهرب عنهما لأبعث من جديد حتّى أقصّ عليكم ما روي من حكايات باطلة وما حكي من روايات زائفة عن أسباب انتحاري... ثمّ سأوضّح لكم ولهم الحقيقة الّتي دفنت معي وافترشت أديم التّراب لتقاسمني ضيق القبر وتشاركني محنة القدر...



*****

حدّثني صديقي الجديد قال: أوردت شبكة C.N.N خبرا عاجلا بعد حادثة انتحاري بيومين ذكرت فيه ما يلي: "أثبتت تحرّيات المكتب الفيدرالي لمخابرات F.B.I أنّ شابّا عربيّا انتحر بعد افتضاح أمر علاقته الغراميّة بابنة رئيس دولة عظمى وقد تمكّن رجال المخابرات من تحديد هويّته ومعرفة جنسيته "...

الخبر في حقيقة الأمر صحيح ولا يمكنني أن أنكره بل أؤكّد بعض ما جاء فيه... فأنا كنت قبل موتي على علاقة بريئة وشريفة بابنة رئيس دولة كبيرة... فقد تعرّفت عليها عن طريق "غرف الدّردشة" بعد أن أوصلني عبث أصابعي بأزرار الحاسوب وفأرته إلى دخول باب غرفتها!!!... اقتصرت علاقتنا في البدء على تبادل التّحيات الرّقيقة ومع توالد الأيّام وتناسل اللّيالي، بدأت تستلطفني وتستظرفني ولكنّها طلبت منّي أن نبقى لا أصدقاء ولا أعداء ... وذات غسق في بلدي وفلق في بلدها، تهنا في صحراء الكلم، وتجاوزنا حدود الرّهبة وتخوم الرّغبة... فارتبكت المشاعر وارتمضت الحواس فقالت لي:

- "هلمّ نهتك ما في الجسد من أسرار" ...

فقلت لها بغباء يتملّكني من حين إلى آخر:

- "لنكتشف أوّلا ما في العقل من أفكار"...

فغضبت منّي وأشبعتني شتما مؤذيا وسبّا مقذعا واعتبرتني جاسوسا مقرفا وإرهابيّا منكرا... وهدّدتني أن آباها سيرسل من يغتصب غوابر كرامتي وينتهك بقايا رجولتي ... لا أخفي عليكم أنّ تهديدها أربكني وجعل الخوف يسكنني والقلق يأسرني والنّوم يهجرني ... ورغم كلّ ذلك لم أفكّر لحظة واحدة في الانتحار بل على العكس فما حصل زرع لاحقا في نفسي الضّعيفة وكياني الحقير رغبة التّحدّي ...

*****

روى أحدهم قال:

كان المرحوم (ويقصدني أنا طبعا) طالبا جامعيّا، مجتهدا ذكيّا، محبّا للشّعر والخمر، مغرما بالسّفر والسّهر، كافرا بانتشار العولمة الغربيّة، مؤمنا بانتصار القوميّة العربيّة عاشقا للحريّة وفتحيّة... تعرّف على فتحيّة منذ زمن طويل، فتبادلا الغرام والهيام، أحبّها وأحبّته، عاشرها وعاشرته... ولمّا طالت المدّة بدأت الرّدّة ... فانقلب العشق إلى أرق والحبّ إلى قلق... فكان الفراق بعد أن أطردته من قلبها وحرمته من جسدها ... وتجاهلته عمدا فمات كمدا ... وعندما يئس من الوفاق رغم تدخّل الرّفاق لفّ حول رقبته حبلا ليكون الانتحار حلاّ ... ولكنّي أقسم لكم جميعا أنّ فشل علاقتي بها، ليس هو السّبب الّذي جعلني أنتحر... فأنا لم أفكّر يوما أن أكون شهيدا من شهداء العشق ...

*****

حكى بعضهم قال:

استغرب الجميع عندما سمعوا أنّ المرحوم سافر إلى العراق راغبا في الجهاد والنّضال وطامعا في استشهاد قد يرفع من شأنه الوضيع في حياة الدّنيا ويضمن له نعيم الجنّة في حياة الآخرة... وصل المرحوم إلى بغداد وتعلّم حمل السّلاح واستعماله بسرعة كبيرة فرضتها سرعة تقدّم المحتلّ وزحفه نحو عاصمة العراقيين... وفي اليوم الّذي سمح له بالقتال سقطت بغداد واحتلّت العراق... واصل الرّاوي حكايته قائلا:

- "أمّا صاحبنا المرحوم..."

فصاح أحد الحاضرين:

- "الله يرحمه ويسامحه...".

فنهره إمام مسجد قريتنا بشدّة وقال له:

- " الله لا ترحمه ولد الـ... دنيا وآخرة، بالحرام ما اللّي اسمعت بوجه البومة مشى للعراق، عرفتها مزمّرة على العرب..."

وأكمل الرّاوي ما بدأه دون أن يقاطعه أحد هذه المرّة: أمّا صاحبنا المرحوم فقد عاد إلى وطنه وأهله بعد أن ذاق ألوانا من الشّقاء والعذاب ولم يعد قادرا أن يميّز بين قوّات الأصدقاء وقوّات الأعداء ... فرجع وهو يشتعل غضبا ويستعر كرها لبعض العرب والعجم ومن ساندهم من شعوب الشّرق والغرب... وفي لحظة غضب مشحونة بجبال من اليأس وركام من البؤس، انتحر ليزداد بذلك عدد ضحايا حرب الخليج الثّالثة!!!...

انتهى الرّاوي من حكايته وبدأ الحاضرون في جدل عقيم بعد أن تساءل أحدهم هل تجوز صلاة الجنازة على المنتحر وهل زيارة قبره حلال أم حرام؟ ...ثمّ استفهم آخر هل مشاهدة أفلام الجنس في شهر رمضان بعد تناول فطور السّحور تبطل الصّوم أم تفسده؟...

لا أنكر أنّني صدمت لما وقع للعراق ولي، كما أعترف أنّ الخيانة الّتي حصلت أثّرت في نفسي كثيرا وجعلتني أكره الحياة وأحبّ الموت ... ولكن رغم شدّة وطأة ما وقع في العراق، فأنا لم أنتحر بسبب هذه النّكبة الجديدة، بما أنّني جبلت على النّكبات والنّكسات صغيرا، وفطرت على الأزمات والانكسارات كبيرا ...

*****

السّبب الّذي دفعني إلى الانتحار – "يا سادة يا كرام"- قد يبدو بسيطا جدّا في نظر بعضكم، بل قد يبدو تافها ولا يستحقّ أن يدفع الإنسان حياته قربانا للموت... ولكنّه مثّل بالنّسبة إليّ دافعا مهمّا وحافزا قويّا، جعلني من أجله أقدم على تجربة الانتحار... معذرة "يا سادة"... فأحد أصدقائي الأموات يشير بيده طالبا منّي الصّمت حتّى نستقبل "زميلا" جديدا توفّي في حادث مرور كما تدلّ على ذلك جروحه الكثيرة وكسوره العديدة... يجب عليّ أن أحترم ما ورثناه عن الأحياء من متنوّع العادات ومتعدّد التّقاليد ... فنحن مثلكم تعوّدنا أن نصمت عندما يموت أيّ شخص سواء كان ذلك على وجه الحقّ أو على وجه الباطل ... ونحن نؤمن كما تؤمنون أنّ "أمام عظمة الموت ليس أكرم من الصّمت" ... فمعذرة مرّة أخرى على عدم إتمام الأقصوصة ولكنّني أعدكم وعدا صادقا أنّني سأروي لكم السّبب الحقيقي لانتحاري عندما تأتون لزيارتي هنا ... هنا فقط في هذا العالم دون غيره وفي هذا المكان دون سواه!!!...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى