أحمد ممّو - المهدي والحلم

عندما نظرت إلى أخي وقلت له إن وجهه ازداد نحافة منذ المرة الأخيرة التي رأيته فيها، قال دون أن يبتسم :
- مجرد تصوّر .. الحكاية كلها هي أنك قد غيّرت الزاوية التي كنت تنظر منها ..
ابتسمت له وقلت لنفسي: إنّه ازداد حدّة في كلماته وفي حركاته، وإنّ حركاته أصبحت جدّ متوازية. تذكّرت سؤالا قديما نعيده على مسمع أبينا عنّدما كنّا صغارا: " والدي ماذا فعلت في الحرب ؟" قلت لأخي:
- ماذا فعلت منذ تركتنا؟؟
كان يبتسم. وكنت أحاول أن أتذكّر متى تركنا ... كان ذلك عندما كنّا في الجبال حيث كان أزيز الرصاص يخلق جوّا من الرعب حولنا، وابتلعتنا المدينة ... كان ذلك عندما كانت نظراته حادّة وشفتاه مضغوطتين في تصميم ... قال صوته البعيد الذي ورثه عن والده عندما كان يحكي عن الأشياء التي فعلها أثناء الحرب:
- لقد فتحت عينيّ جيّدا ... وحرّكت ساقي إلى أن شعرت بهما تقودانني إلى هنا ... وعندها وجدتك تنظر إلى الأشياء من زاوية أخرى ...
قال أخي ذلك، ثمّ ضغط بجسده على الكرسيّ الخشبيّ وتمطّى. كنت أعلم أنّه لم يفعل ذلك فقط منذ تركنا ومنذ قال في الحدّة التي تطبع نبراته:
- سأذهب بعيدا ... سأذهب إلى بلد أجد فيه المهديّ المنتظر .. وأجده يلبس جبّته لتلك الصبية التي تفتضّها كلّ الفحول لتعود إليها بكارتها من جديد عندما تلبس الجبّة من جديد ... سأذهب لأقود المهدي إلى بلادي ... سأذهب لأخبره أنّ الناس في بلادي في حاجة إلى صبية تعود إليها بكارتها مع كل موسم زيتون ... سأذهب لأجلب جبّته وألبسها هذه البلاد !..

نظرت إلى حقيبة أخي الخاوية التي عاد بها من سفره وقلت:
ألم تقدك قدماك إلى البلد الذي تجد فيه المهديّ المنتظر؟ .. أم أنّه قد أحرق جبّته ليلبس زيّا عسكريّا؟ ... لقد انتظرت عودتك طويلا ... حفظت مواعيد كلّ القطارات العائدة في المساء وحفظت كلّ أصواتها، لأنّي أعلم أنّك ستعود في إحداها ..
فتح عينيه وحاول أن يبتسم ثم جمع شفتيه من جديد في حركة وحدت حركة حاجبيه وفمه وقال :
- المهدي لن يبعث . . . هم يقتلونه كلما ظهر . . يقتلونه ويلبسون جبته لمهدي آخر ثم يقتلونه من جديد . . . هذه المسرحية أصبحت تضحك الجماهير كما يضحكهم جسد الصبية العاري تحت الجبة المثقوبة والملطخة . .
قال ذلك ، ثم نسي أنه قد ترك صوته معلقا وأرسل نظره بعيدا كما اعتاد أبي ذلك عندما يفكر في الأشياء التي فعلها. أثناء الحرب وينسى أن يتم بقة الحكاية التي ننتظرها . .
جلست أنظر إلى أخي وهو ينظر إلى الأشياء البعيدة التي في خياله وفي أعماقه وكان الليل قد تقدّم . كنا نعرف أن الكلمات من الأشياء المؤلمة والثقيلة وكنا نعرف أن الصبح سيفرق بيننا . . . وكنّا في حاجة إلى ازدراء حياتنا .
عندما انطلقت أصوات قطار الصبح الأول كنا دفنا أفكارنا نظر إليّ أخي في صمت بعد أن استرد نظره من أعماقه، ثم حمل حقيبته الخاوية لينطلق من جديد . لم أكن في حاجة إلى سؤاله عن مقصده، لأني أعلم أنه سيعود. ولكنّي سألته في فضول :
- لماذا تضع السفر في قدميك ما دمت لن تعود بالمهدي ؟...
أجاب عندما تجسم جسده شبحا باهتا في نور الصبح :
- لمجرّد أن ذلك يسهّل أشياء كثيرة بالنسبة لي . . من قبل كان
الرصاص والخوف والمستعمر هي الأشياء التي دفعتني إلى انتظار
المهدي ... ثم خنقتني المدينة ووجدتها كالصبية المفتضّة ... أما الآن
فقد صدئت بنادقنا وأصبحت لعبا للصغار ... و بعد أن زرعنا كل هذا
الزيتون الأخضر في بلادنا فأنا في أشد الحاجة إلى الشعور بالبكارة
تفوح من هذه البلاد ... أنا في حاجة إلى شيء جديد يدفعني إلى
الترحال ... هناك شيء كان يشعر به السندباد وهو شعور الإنسان
بالحياة المفتضّة وكان ذلك الشعور هو الذي دفعه إلى البعيد . . .
عندما غاب أخي في ضباب الصبح قاصدا المحطّة، فهمت كيف يحدث المدّ والجزر وكيف يكون ذلك في أفكار الإنسان وفي حركات المدينة وفي جسد الصبية التي تغطّيها جبّة المهديّ المنتظر.
فكرت جيدا في أخي كما كنت أعرفه، عندما كنّا نرقد معا وسط الجبال وعندما كان الرصاص يبعث فينا الرعب وعندما كان يقول لي: " هذا لن يدوم طويلا ... سينتهي رصاصهم وسنرميهم بحبّات الزيتون الخضراء وسيأتي المهدي المنتظر ليظلّل بلادنا بجبّته القمراية فتلعق دماءها ... عندئذ ستكون بنادقهم فارغة ولن نكون في حاجة على الانبطاح وسط الجبال بكلّ هذا الخوف وكلّ هذا العرق على أجسادنا وكلّ هذا الجفاف في حلوقنا .. سننشر الأشياء الجميلة .. " وعندما سكت أخي تكلّم الرصاص حولنا، ثمّ! .. ثمّ جاء الصبح، وكانت بنادقهم قد صدئت، وكانت بنادقهم قد أصبحت لعبا للصغار ... وزرعنا زيتونا كثيرا ... وانتظرنا المهديّ طويلا ليمسح بجبّته القمراية كلّ الدماء التي سالت من جسد الصبيّة .. وبقينا نرعى الزيتون ونسقيه بعرقنا .. وذات صباح – وكنّا قد تهنا في المدينة – قال أخي : " إنّي لم أعد أحتمل صوتها وهي تستغيث في كلّ حين. إنّ صوتها يأتي من كلّ أنحاء البلاد ... لقد انتظرت المهديّ طويلا ولكنّه لم يأت ... فكّرت أن العدل والإنصاف والأشياء الأخرى التي تحويها جبّته قد يجد الإنسان طعمها في حبّات الزيتون التي نسقيها بالعرق، ولكن الآن عندما تذوّقت الحبّة الأولى وجدتها مرّة وعندما تذوّقت الحبّة الثانية وجدتها أشدّ مرارة. وكلّما أخذت حبّة وجدت المرارة تتركّز فيها .. وفهمت جيّدا أنّ الزاوية التي أنظر منها إلى الأشياء قد تغيّرت وأنّي لست في حاجة إلى كلّ العدل والإنصاف اللذين تضمّهما جبّة المهدي لكي أتفطّن إلى أنّ الزيتون الأخضر قد يكون أشدّ مرارة عندما يقوم على العرق الذي سال من جسدي .. إنّ صوت الصبية يقلقني ويدفعني إلى الهروب. وهو ما يجعل الزيتون الأخضر غير مستساغ.. ". وانطلق أخي في غبشة ذلك الصبح ... وعندما سمعت صفير القطار فهمت أنّ أخي سيكون في حاجة إلى ساقيه لكي يحرّكهما طويلا عبر المسافات الطويلة وفهمت أنّ ذلك سيضخّم الرؤيا في أعماقه ... وبقيت أنصت كلّ يوم إلى صوت عجلات كلّ القطارات على السكّة وسط سكون المدينة وهي تعود إلى المحطّة ... كنت أعلم أنّ المسافات طويلة وأنّ قدمي أخي صغيرتان وتضيعان وسط المسافات الطويلة.

سمعت صفير القطار وهو يمزّق نوم المدينة، ثمّ سمعت صوت عجلاته على السكّة وتصوّرت كلّ الصدإ وكلّ البرد اللذين يجثمان على فرامله وعجلاته وفوق قضبان السكّة. وتصوّرت كلّ الحرارة والبخار المنطلقين منه. وعندها فهمت أنّ أخي قد وضع حلم السندباد في قدميه وأنّه قد انطلق من جديد ليهرب من صوت الصبية التي تفتضّ في كلّ حين وأنّه مازال يأمل في الحصول على جبّة المهديّ ليغطّي بها جسد بلاد كاملة ... كم هي طويلة المسافات ... وكم هما صغيرتان قدماه ...
***
عندما سمعت صوت القطار وهو يدخل المحطّة بكلّ ما في محركاته من صفير و"تقزقيز" شرعت أفكّر في كلّ الصدإ والغبار اللذين يتعبان محرّكاته وعجلاته وفي كلّ الثقل الذي ترزح تحته السكّة في انتظار الصبح. ثمّ امتدّ الليل ... ورأيت أخي يرتسم في فضاء الحجرة، ثمّ خطا إلى وسطها بكلّ ما على ثيابه من غبار وبكلّ ما على ملامحه من تعب. ومال بجسده على الكرسيّ الخشبيّ الأعرج. وعندما نظرت إليه رأيت كم في نظراته من الحدّة، ثمّ سمعت صوته وهو يقول :" هذه المرّة ... ضمّت المسافات إلى بعضها ووجدت نفسي أفتقد القدرة على تحديدها ... لست أدري كم حرثت من امتداد بقدمي. ولكن أحسّ أنّ عودتي إلى هنا تدفعني إليها أحاسيس غريبة كما يقع ذلك للفيل الذي يفكّر في الموت في مكان هادئ وسط الغابة ... هذه المرّة أشعر لأوّل مرّة أنّ العالم لم يبق مجرّد امتداد تحت قدمي تقطعانه على شكل مسافات طويلة ... أشعر به هنا في قلبي ينبض بكلّ ما فيه من كائنات ... لست في حاجة إلى جبّة المهديّ ... لم تبق قمراية بيضاء ... لقد اهترأت ولطخت ... وأريد أن أتنفّس العالم وأغضّ عنه عيني.." وغضّ أخي عينيه وفكّرت في كلّ الغبار الذي يثقل جسده، وفي كلّ جسده الذي يثقل الكرسيّ. وتفطّنت إلى الحدّة التي بدت في صورته. نظرت إلى حقيبته ولم تكن خاوية. وعندما سألته عن الأشياء التي حملها معه فتح حقيبته وأخرج مجموعة من الاسطوانات قال عنها : " إنّها من كلّ بلدان العالم .. كنت أشعر بحاجة أهلها إلى الكلام – وكان الكلام مؤلما وثقيلا- أو كنت أشعر أن الزمن نسبيّ محدود. لذلك أخذت اسطواناتهم وعدت إلى هنا لأسمعها عندما تسكن المدينة وتتأمّل نفسها وأتأمّلها وأتنفّس العالم من خلالها ..."، ثمّ أرخى أخي رأسه على صدره ونام. وبقيت أنصت وحدي إلى الاسطوانات وهي تدور فوق الفونوغراف. كانت كلّها تحكي عن صبية ما تفتضّ مرّات عديدة ثمّ يأتي المهديّ المنتظر فيلبسها جبّة بيضاء قمراية لتعود إليها بكارتها وتفتضّ من جديد. وتدور الاسطوانة بنفس الحكاية وسط موسيقى صاخبة عنيفة ووسط صراخ الصبية ... كلّ ذلك بلغات مختلفة وبنفس النغمة..

نظرت إلى حقيبة أخي المفتوحة. وبدا لي أنّي قد لمحت شيئا في قاعها عندما أخرجت ذلك الشيء وجدته جبّة بيضاء قمراية ملطّخة بالدماء وبثقوب متعدّدة كتلك التي أحدثها الرصاص في ثيابنا عندما كنّا هناك بين الجبال. كانت متآكلة. عندما أدرت الاسطوانة الأخيرة، سمعت صوت أخي بكلّ ما في نبراته من حدّة يتردّد في بوق الفونوغراف : " هذه المرّة .. ها أنا أنزع الجبّة لتروا كم هي قبيحة وكم هي قذرة هذه الأنثى .. هذه المرّة .. لن تكون لأحدكم الجرأة على النظر إليها من جديد أو على افتضاضها .. لأنّكم كلّكم تشعرون أنّها أمّكم .. هذه المرّة لقد ثقبت الجبّة إلى الحدّ الذي لم تعد كافية لستر وجه أمّكم .. هذه المرّة .."

اقتربت من أخي وحدّقت في ملامحه الشاحبة ووجهه النحيل بكلّ ما عليه من تعب، ومددت يدي إلى عنقه بالجبّة المهترئة، ثمّ أخذت أضغط ... سمعت الكرسيّ الخشبيّ يئنّ تحت جسده وضغطت .. عندما أيقنت أنّه قد مات وضعت الجبّة في الحقيبة. وكان نور الصبح قد بدا يتسلّل إلى الحجرة ورميت بنفسي وسط الضباب قاصدا المحطّة. كم هي طويلة المسافات !.. وكم هي صغيرة قدماي !.. وكم هي مقلقة صرخات الصبية بكلّ تلك اللغات المنبعثة من الاسطوانات ... وكم هي قديمة جبّة المهديّ ...

تونس في 04/ 1970/12

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى