باسمة العنزي - أورفوار عكَا.. لغة الأشياء

يأتي الروائي الفسطيني علاء حليحل في رائعته التاريخية “أورفوار عكا” ليعيد -بموهبة عالية- كتابة وقائع حصار عكا عام 1799 من قبل نابليون بونابرت. يضع رقعة الشطرنج أمام القارئ، ولا يمنحه الوقت الكافي لالتقاط أنفاسه، فالمواجهة بين “الفرنساويّة” والعرب والانكليز ليست هي الهدف؛ هناك قائدان، خصمان قويّان، نابليون الذي أعيته أسوار المدينة العنيدة، والدمويّ أحمد باشا الجزّار، البوسني الذي حكم عكّا لمدة 22 عامًا بالمشانق والخوازيق والسيوف، ومن خلفه على رقعة الشطرنج تتحرّك بيادق الحاشية: دي فيليبو الفرنسيّ الخائن الذي يعمل بمثابة وزير الدفاع لدى والي عكا، والترجمان إبراهيم المسيحيّ الهارب الذي اضطرّ لإخفاء دينه وهويّته، وأبو الموت المسؤول عن أمن الجزار والفتك بالضحايا بلا رحمة، وفرحي اليهوديّ، حارس خزنة المدينة التي تعتبر من أهم الموانئ التجاريّة.

المدينة المنكوبة التي يحكمها الغريب ويحاصرها الغرباء، بدت عالقة في مصير بائس؛ الجزار يستلذّ بقتل ضحاياه وتصفية خصومه أولا بأول؛ القوّات الفرنسيّة عند تخومها بانتظار احتلالها، والطاعون يزحف إليها ليهلك من فيها من مذعورين وتعساء! وسط المعارك والموت المجاني والخوازيق والمدافع والدماء والمؤامرات والشكوك، يبدو كلّ شخص وكأنه مشروع قتيل، كل حركة قد تفضي للنهاية المتوحشة، الحذر لم ينجِّ أحدًا من مصير أسود، حتى عبد الهادي -أشهر خازوقجيّ- يتعرّض للتصفية عندما يخطئ بشكل غير متعمّد. حصص التعذيب طالت الأغلبيّة، النساء هنّ المتضررات أولا، رغم أنهنّ خارج دائرة صنع الحرب والمكائد السياسيّة، سواء الفرنسيات اللواتي حملتهن السفينة للترويح عن الجنود في الحصار الطويل، أو نساء عكا اللواتي تم الانتقام من الجزار عبر اغتصابهن من قبل الجنود الفرنسيّين.

عمد حليحل ببراعة لاستحضار الماضي وتوظيفه ليؤكد على أنّ قسوة الحاضر ما هي إلا جزء من الصورة القديمة القاتمة. اللاعبون على الأرض هم أصحاب القوّة والمخططات والمال، بينما يبدو كلّ الجنود في رمزيّة الرواية، كشخصيات هامشيّة لا تمثل إلا وقود المحرقة! «كيف سيكون حال الدنيا بلا حروب؟ لن يموت ناس ولن تتجدّد دورة الخلق ولن تتغيّر معالم بلاد لتولد بلاد جديدة. لن ينتعش الاقتصاد ولن يكتب الشعراء قصائد جميلة عن الموت تمنح معنى للحياة. الحرب نعمة للبشر».

يدفع حليحل بونابرت لمواجهة الجزار في قصره عبر هلوسات الأخير البصريّة، عندما تمكّن منه المرض النفسي، وفي أحاديث متخيّلة للطرفيْن تبدو نقاط الاختلاف والالتقاء. «نحن أهمّ حلقة في هذه اللعبة، نحن نعطي الشرعيّة للقتل ونحن من نقودهم إلى الوغى كي يقتلوا ويُقتلوا».

الرواية حافلة بالمعلومات التاريخيّة التي تنمّ عن جهد كبير بُذل قبل كتابتها. استخدام اللهجة الفلسطينيّة البدويّة في الحوار جاء موفقا. شخصية الجزار في الثلث الأخير ومغادرته لعكا بعد انتصاره كي يبحث عن حبيبة مفترضة في موطنه في البوسنة، واعتذاره من فرحي الذي فقأ عينه، ورغبته الصادمة بالتطهّر والبكاء لم تقنعني كقارئة! الرواية مهيّأة لتحويلها لعمل دراميّ؛ كثير من المشاهد كُتبت بعين سينمائية خبيرة؛ النهاية بدت رمزية في مغادرة الجزار/الغريب للمدينة التي ظلمها، رغم أنّ الحكاية الأصليّة تخبرنا بأنّ الجزار لم يغادر بل دفن في مسجده في عكا!

نجح حليحل في ترك بصمة، وإضافة رواية تاريخيّة فلسطينيّة جديرة بالقراءة والتداول.



(عن “الرأي” الكويتيّة)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى