ثروت أباظه - بكم تبيع؟!

كان اليوم يوم جمعة، والشتاء يرسل نذره لطيفة جيناً، عنيفة أحياناً، ولا عاصم من تلك النذر إلا الشمس ضحى لها حيث نتوقعها. . .

وبالجيزة قهوة توثقت الصلة بينها وبين الشمس: فهي دفء ونعيم ومنظر، لجأت إليها وحدي مترقباً صديقاً على موعد. . . جلست أنتظر فإذا رجل منتفخ الأوداج، غليظ الشفتين، حليق اللحية الشارب، أسمر الوجه ذو شعر لولبي يأبى على الطربوش أن يطمئن على الرأس، قصير القامة منبعج في امتلاء، يحاول أن يتأنق ما أتاح له جسمه ذلك، وقليلا ما يتيح. . . إنه عبد الشكور أفندي. . استغفر الله. . . بل عبد الشكور بك. . . ولم لا؟! ألم يهبط من عربة فخمة يقودها بنفسه؟! ألم يغد صاحب أملاك وعمارات. . . لا. . . إنه عبد الشكور بك. وباشا إذا لزم الأمر! كنا أعرفه معرفة قليلة، ويظهر أنه هو الآخر جاء على موعد، فهو يقصد إلى منضدة قريبة ولكنه حين يمر علي لم ينس هذه الانحناءة التي تحاول أن تكون أرستقراطية فيقف دون ذلك قوام أفقي! يفعلها على أي حال تمرين رياضة جسدية، على أنه إن لم تكن تحية ودية، ويقصد إلى المنضدة فيجد عليها رجلا أنيق الملبس، أشيب الفودين، طويل القامة، مليح القسمات، يقف ويسلم على عبد الشكور بك في حركات مهذبة رشيقة، ويجلس الرجلان؛ وأظل شاخصاً إليهما حتى يأتي صديقي ويسألني عمن أنظر إليه فأحدثه حديث عبد الشكور الذي كان كما سمعت بائع دقيق، ثم. . . ثم صار عبد الشكور (بك) منذ سنتين! فيؤكد لي هذه القالة ويخبرني أن الرجل الجالس إليه موظف كبير بوزارة. . . وأنه يتمتع بسمعة لا يحسد عليها. . . التفت إلي رفيي وقلت:

- أتعرف كلمة هذا العهد؟

- ماذا تقصد؟

- ألم تعلم يا صديقي أن لكل عهد كلمة تميزه من سائر العهود، كلمة يخلقها الجو العالمي وتنميها ألسنة الناس، كلمة عهدنا هذا: بكم تبيع؟. بكم تبيع شرفك؟! بكم تبيع كرامتك؟ وخلقك ماذا يساوي. .؟!) تسمع الآن هذه الأسئلة وتسمع بجانبها ناصحاً يقول للمسؤول: (قل! أخبره! إنه سيدفع) وآخر يقول للسائل: (أدفع! إنه سيبيع!) ولكل من الناصحين فائدته من بذل هذه النصيحة. . .

- ولكن ألا ترى معي يا أخي أن هذا السؤال لا يعترض إلا صغار الموظفين والذين لا يملكون إلا القليل مما تصبو إليه نفوس السائلين، أما الغالب في كبار الموظفين فضمير كبير نماه احترام الموظفين الصغار.

- ضمير!! أنت تفهم مدلول هذه الكلمة، ولعل كبار الموظفين يفهمونه؛ ولكنه في نظر عبد الشكور شيء معوق يجب أن يزول. . فتراه حين يرى ثروة الرجل الكبير يعرف أن الضمير في هذه المرة غالي السعر قليلا فهو يبذل ويبذل حتى تخمد ثورة وتبدأ مفاوضة. . مفاوضة غير مقطوعة. . فالموظف الكبير لا يقبل الدخول في هذه المفاوضة إلا إذا كان السعر المبذول باهظاً والغني الجديد يعلم أن الضمير إن لم يكن بالسعر المفروض فهو بما يقاربه، وكأنني بابن الرومي قد رأى الشاري والبائع فأرسل هذين البيتين:

إن للحظ كيمياء إذا ما ... مس كلباً أحاله إنسانا

يفعل الله ما يشاء كما شا ... ء متى شاء كائناً ما كانا

كلا الرجلين كلب من كلاب الحظ. . .

- هل تريدني أن أفهم العصامية والنشاط الاقتصادي مجرد كيمياء من الحظ. . لا يا أخي أنت مخطئ. إن عبد الشكور رجل عظيم أنتشل نفسه من وهدة الفقر فعمل وعمل حتى تسنم ذروة الغنى. أنا لا أفهم مطلقاً أن يشرع الكتاب أقلامهم لمحاربة قوم عملوا فربحوا. أنا لا أفهم. . .

- اسمع لي قليلا حتى تفهم. . . تقول إن الكتاب مخطئون حين يهاجمون هؤلاء. ولو لم أكن وثيق الصلة بك لأيقنت أنك لم تكن حياً في أيام الحرب، ولكن الغريب أنك كنت معي وكنا نتشاكى الغلاء معاً. . فلا شك أنك كنت حياً. .

العصامية - يا سيد - شيء نقدره - نحن الشرقيين - نقدره إذا كان عن طريق شريف. . والتاجر الذي يربح في السوق الشريفة يحتاج إلى لباقة وكياسة، وما دام يربح شريفاً فلا حاجة للربح الدنس، فهو يحتقر السوق الملوثة ويحاربها، عندنا من هؤلاء الشرفاء قلة ولكنها محترمة لأنها كانت في أمانة فوصلت. . هذه القلة لم تساعدها كيمياء الحظ مساعدتها لعبد الشكور، وإن كان لم يبخل على اجتهادها بقطرة. . ولكن ذلك العبد الشكور الذي أصبح غنياً في سنة أو اثنتين لا نستطيع أن نجري غناه على سنن الشرف. . . وإلا فما أيسر الغنى وما أسهل أن تكون غنياً. . . والحقيقة أن هناك مانعاً بسيطاً يحول بينك وبين الغنى المفاجئ. . . أتدريه؟. . . إنه الضمير!! أنزعه من بين ضلوعك وأقذف به على سلم الفقر الذي تقف عليه تجد نفسك ارتقيت درجات الغنى بخفة وسرعة، ولكنه عنى رخيص

- ترى أبنفسك ترة تحفظها لعبد الشكور؟ أم إنها. . .؟!

- لا! إنها ترة كل مواطن استنزف عبد الشكور قوته وقت عياله. إنها ترة وطن ودين وخلق، وليس في هذا الكلام ما يشفي هذه الترة، ولكن هناك واجباً على الحكومة لا بد أن تقوم به.

- وبك ما ترى الحكومة فاعلة؟!

- كأنك لم تسمع! لقد سنت مشروع قانون تسألهم فيه (من أين لكم هذا؟) ولكن يظهر أن (بكم تبيع؟) أومضت فجأة في عيون الموظفين فمشى المشروع بنفسه إلى درجة من الأدراج ونام، وعلى الناس السلام. . . أريد من الحكومة أن تفتح الدرج وتوقظ مشروع القانون، أريدمنها أن تمنع الموظفين الكبار أن يسمعوا تلك الكلمة السامة التي إذا لن تصب الهدف في الرمية الأولى أصابته في الثاني أو في الثالثة. . . بكم تبيع؟!

ثروت أباظة
مجلة الرسالة - العدد 708
بتاريخ: 27 - 01 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى