د. أحمد الزعبي - الساقطون

وقف الرجال العشرة... أيديهم مرفوعة إلى أعلى.
على مقربة منهم وقف رجل.. شاهرا مسدسا.. اختفت يداه بقفازين سوداوين.. معلقا خنجرا على وسطه.. منتعلا جزمة حتى الركبتين.. رفع القناع عن وجهه ثم هدد بصوت قوي ساخط: ليتجمد كل بمكانه.. أيديكم إلى الأعلى.. عيونكم باتجاه المسدس.. من تحرك لقي مصرعه حالا.
تقيد الرجال بكل حرف مما سمعوا.. عيونهم تحملق بفوهة المسدس.. الفوهة الفاغرة من وجه إلى وجه ومن جسد إلى آخر نظراتهم مشدوهة متسائلة: كيف وصل إلينا هذا اللص؟ ولكن؟ ما الذي يريده؟.. يبدو أنه ينوي شرا.
ارتفع صوت الرجل وهو يحرك المسدس بحرص وحذر نحوهم جميعا:
واحد فقط أريده أن يبقى حيا كي يساعدني في عملية سطو على البنك الكبير.. سأقتلكم جميعا الآن.. عدا الرجل الذي يقدر له أن ينجو.
دهش الرجال جميعا.. تغيرت تعابيرهم.. تقلصت ملامحهم اسودت وجوههم... بدأوا يرتجفون بشدة.. المسدس يحوم تجاه عيونهم ولانتظار الموت ألمٌ ومرارةٌ أشد من الموت نفسه.. انفرجت شفتا أحدهم عن ابتسامة صفراء مستجدية النجاة.. ثم عبس أحد الوجوه كأنه يرفض ما يرى ولكنه لا يبدي أية حركة.. فانطلقت أول رصاصة في الوجه العابس... تهاوى الرجل على الأرض جثة هامدة.
نظروا إلى الجثة مرتعشين.. يا للفجيعة؟؟ هذه مأساة حقيقية.. ما أرهب الموت؟ وانطلقت رصاصة أخرى فقتلت آخر.. وثالثة بثالث... وكلما سقطت جثة ازداد الأمل عند الباقين بالنجاة.
زمت شفة أحدهم وقطبت عيناه كأنه يظهر للقاتل أنه قوي صلب وباستطاعته مساعدته في عملية السطو... فاستقرت رصاصة رابعة في صدره.. تبعتها خامسة في جسد خامس... وكلما سقطت جثة ازداد الأمل عند الباقين بالنجاة.
امتلأت عيون أحدهم بالدموع.. ثم فاضت على وجهه.. كأنها تطلب الشفاعة من الموت.. وشفعت له رصاصة سادسة أوقفت دموعه... استبدلتها بدمائه.
المنظر رهيب هائل.. الجثث تهوي.. الدماء غزيرة.. فقد واحد اتزانه لم يعد قادراً على الوقوف... تأرجح يسرة ويمنة وقبل أن يسقط رعبا وخوفا عاجلته رصاصة في رأسه فمات مرتين.
بقيت ثلاث جثث... أنصاف ميتة.. ولكل منهم أمل بالنجاة.. لكنه أمل مشوب باليأس والهلع.. ربما.. وربما.. وربما... وانطلقت الثامنة فهوت جثة مخضبة، فارتفع الأمل عند الاثنين الباقيين.. واقترب منهما الموت.. في الوقت نفسه.
حاول أحدهما – وقد أصبحا بقايا رجلين – أن يستعطف المجرم ويتقرب منه بعينيه إذ سيفعل كل ما يأمر به.. سينفذ كل ما يطلبه منه مهما كان الثمن.. لن يعصي له شيئا ما دام على قيد الحياة.. فقط ليرفع عنه حكم الإعدام الآن وسيدين له بحياته.. غير أن الحياة هي التي رفضته برصاصة تاسعة استقرت في رأسه.. ليتراكم فوق أكوام الجثث.. وكلما سقطت جثة ازداد الأمل بالنجاة عند الباقين، استراح الرجل العاشر أو الرجل الناجي.. أنزل يديه المرفوعتين... تنفس الصعداء ابتسم ابتسامة الخارج من القبر: يالفرحتي؟؟ ثم بصوت مسعول قال:
كنت أحدس في قرارة نفسي بأني الرجل الذي سيبقى حيا.. إذ أذكر أن امرأة مسنة قالت لي ذات مرة بأني سأنجو من المصاعب بأعجوبة وسأعيش طويلا.. وإن جدي الشيخ كان يتمنى لي السلامة وطول العمر دائما.. هل تعرف أيها الصديق؟... سنغدو أخوين حميمين.. نتقاسم الشقاء والهناء.. ولقد كنت محقا وماهرا في إبقائك على واحد فقط منا، وقد كان أنا.. وسأكون أمينا أبدا... أما هذه الجثث المخضبة فلا تندم عليها... فالآلاف يموتون في كل يوم.. أما الآن فدعنا نتصافح رمزا للحياة معا.. وتعبيرا عن التعاون والعمل معا أيضا..
صافحت قلبه رصاصة أخرى... انطلقت من المسدس... لتقطع هذيانه الطويل... وحلمه العميق... فتراجعت يده الممدودة للمصافحة. وسقط الرجل العاشر فوق ركام من الجثث.. كلوحة فنان قصد إيضاح بشاعة الجثث.. ثم انتشرت رائحة الدماء...
نفخ الرجل في فوهة مسدسه.. أعاده إلى مكان خفي.. خلع قفازه وخنجره وقناعه ثم دسها في جيوبه.. أخفى جزمته تحت بنطلونه فبدت كالحذاء.. ثم خرج بهدوء وبطء.. واختلط بالناس.. وسار بينهم.. ثم صار واحدا منهم.


المصدر: موقع الدكتور [SIZE=6]أحمد الزعبي[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى