محمد سهيل أحمد - شهوة الملاك

(1)

كنت واحدا من جنود سرية شكلت من جميع وحدات الفرقة 11 بمساهمة من طبيب الوحدة العسكرية حين صدرت الأوامر بإخلاء قتلانا الذين تركوا في عراء التلال المحيطة ببحيرة الأسماك. كان الوقت فجرا وقد انتزعت نفسي من ذراعي امرأة الحلم وغادرت فندق المدينة التي أفرغت من سكانها نظرا للقصف المدفعي المتبادل، مثلما غادر الجنود الذين جرى اختيارهم لتلك المهمة فنادقهم لتقودنا مجتمعين سيارة الايفا إلى خطوط التماس المتداخلة مع الجانب الآخر.

ما زالت ذاكرتي متوهجة بمشاهد المرة الماضية ولقد عثرنا على رؤوس تبحث عن أجساد وعلى أجساد تبحث عن رؤوس. وخشية أن تتناهبنا المخاوف اقترح جندي شاب اعتاد أن يكثر من ترديد الأدعية والآيات أن نصلي غير أن نداءاته ضاعت لدى اقترابنا من موقع الإخلاء ومشاهدتنا لجثث عسكريين من شتى الرتب متناثرة في مساحة لا تقل عن مساحة ملعب صغير لكرة القدم. التفت أحد أفراد سريتنا الذي اعتاد إطلاق عبارات ساخرة حتى في أعسر الأوقات:

- المخاوف؟ أجل إنها تسري في عظامنا ولكن لدي وصفة سحرية..

ولما تساءلنا عن طبيعة تلك الوصفة، استطرد صاحبنا:

- لا يكتمل الفرح من دونه ولا الحزن من دونه. من يريد أن ينسى ينسيه ومن يريد التذكر يذكره فهو أنيس كل من لا أنيس له!

تساءل الجندي المتعبد بنغمة لا تخلو من الفضول:

- وما هو؟

- الشكر لباخوس أيضا..

وأعلن بعد برهة صمت:

- نصف زجاجة تزيح كل ما يجثم على الصدر من رعب!

انفجرنا ضاحكين، عدا المتعبد الذي أعرض بوجهه عنا وردد بنغمة متحشرجة:

- أستغفر الله.. أستغفر الله!

(2)

مع حلول المساء كنا قد فرغنا من جمع عشرين جثة تقريبا. كنت سابقا أظن أن الأجساد التي لا تدفن تتبخر روائحها بعد تعفن الجثة في المراحل المبكرة بعد الموت. غير أن هناك رائحة تبقى متشبثة بالجثة كما لو كانت الإعلان الوحيد الباقي للجسد كي يعلن الفارق بين رائحة الحياة ورائحة الموت، غير أنها بقيت عصية على الإزاحة إذ كنت أشمّها حتى بعد انتهاء المهمة. كانت الجثث متيبسة تماما ولكن شعر الشاربين بقي محافظا على ألوانه كما لو أن الروح لم تفارق الجسد. وكان أشد ما يرهقنا بعد القيام برفع الجثة على ثلاث مراحل؛ هو أن الرأس سرعان ما ينفصل عن الكتفين في حين أن آخر فقرات العمود الفقري تنفصم من أعلى العجز.

في إثر انتهاء مهمتنا غادرنا عائدين للمدينة من أجل اقتناص بضع ساعات يقضيها كل واحد منا وسط أهله. غير أن مطر القصف الذي عاد للهطول أرغمنا على الإسراع للفندق انتظارا لتوقفه عند الفجر. المهم أنه قضى على فكرة التنزه لدى البعض منا على الكورنيش. وتفاديا لحمم أمطار القصف العمياء أسرعنا بشراء ما كنا بحاجة إليه من شراب وما تيسر لدى محل قميء لبيع المشروبات من رقائق شبس وطاسات لبن وأرغفة خبز طال حوافها ابيضاض متعفن إضافة إلى كيس مكسرات معطوب مذاقا. آثرنا استئجار أرحب غرف فندق العشار من أجل ساعات نحاول فيها جاهدين نسيان ما لا يمكن نسيانه. اثنان من المجموعة غامرا بالذهاب لساحة سعد وكان الجندي المؤمن المرتعب واحدا منهم.

رغم القصف المتراوح بين البعيد والقريب باشرنا تبادل الأنخاب. بيد أنني بادرت بالقول:

- ثمة مشهد غريب لا يمكن أن تكون أبصاركم قد أخطأته..

- أثناء نقل الجثث؟

- تماما.. كانت أعضاء أغلبهم منتصبة..

- أمر لا يصدق.. مع تقادم الشهور.. أمر غير قابل للتفسير..!

تدخل كمال القادم من الحلة:

- لعل ذلك العسكري لقي مصرعه في لحظة حلم أو انتشاء.. فجأة وإذا بالقذيفة تمزقه أشلاء..

قلت معقبا:

- ما أعرفه منذ أمد بعيد أن ثمة صلة في الشكل بين المدفع البشري والآخر الميكانيكي..

تساءل الحلي وهو يحتسي جرعته الأولى من كأس شرابه:

- لعلها صلة وظيفية في المقام الأول..

لاحظت قائلا:

- لعلنا ابتعدنا قليلا عن الموضوع المركزي.. مشهد الانتصاب..

استطرد الملازم الطبيب:

- في إثر الضربة يحدث أن تغادر الروح الجسد بينما تظل الرغبة في لحظة توقدها قابعة هناك..

- ضمن أي منطقة؟

- الروح.. بداهة..

شبك الطبيب يديه وراء رأسه مستطردا:

- قرأت مرة في قاموس طبي أن الحالة تسمى علميا بشهوة الملاك أو الانتصاب الأخير، ويقال إن مجنونا من مدينة كاستارو الإيطالية شنق نفسه من أجل الوصول إلى المتعة..

سألت صاحبنا الطبيب:

- وماذا أيضا؟

- كما قرأت أن حدوث مثل هذه الأمور يدل على أن الوفاة كانت سريعة وعنيفة..

ثم أهاب بنا أن ينهي كل واحد منا شرابه كي نسرع بالنوم ونظرني متفحصا:

- حاول أن تسرع بالنوم كي تبكر في النهوض..

دس هيكله المرهق مضيفا:

- وبدون كوابيس رجاء!

(3)

بعد انتهاء الحرب تفرق أفراد مجموعتنا كل في اتجاه. الوحيد الذي لم يفكر بالانصراف هي الحرب نفسها. اندلعت حرب ثانية وثالثة قبل أن ألتقي واحدا من أفراد المجموعة في ركن بمقهى قريب من سوق الحبال، فتدفقنا نثرثر مستذكرين أيام القتال العبثي. وحين سألته إن كان قد التقى بآخرين من أفراد مجموعتنا اكتفى بالقول:

ـــ لقد مضى كل إلى حال سبيله.. ولكن تريث.. لاقيت مرة ذلك الجندي القروي المسكين الذي دأب على نثر تعاويذه كلما احتدمت المعارك أو صادف مشهدا مفزعا، وحين سألته عن أحواله وأحوال الأبناء، ألمح إلى أنه منذ تسرحه من الجيش صار زبونا دائما للأطباء والعشّابين علّه يرزق بولد دون جدوى. سألني فجأة وهو يلقي نظرة زائغة على حشود العابرين:

- أيكون السبب أنني وطأت جثة جندي ميت أثناء محاولتنا لإخلائه؟

- ما عندي أدنى فكرة..

مرّ أمام عيني شريط تكدس بصور تمرغنا في الوحل ونحن نخلي جثث موتانا.

غمغمت بيني وبين نفسي:

- لعنة أم ماذا؟!

- ماذا تقول؟

- لا شيء..

نهض ملقيا عليّ تحية الوداع ذائبا بين حشود المارة فيما مكثت ارتشف شايا باردا وأنا أردد هامسا:

- شهوة الملاك!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى