حيدر قاسم الحجامي - الظهور الأخير للقمر

مازالت الأشجار في سكونها المعتاد منذ مساءات بعيدة لم يكسر حاجز رتابتها شيء سوى حفيف أشجار عراها الخريف إثناء مروره الخاطف بموكبه الجنائزي من كل زينتها فظلت تحاول ان تستر عورتها بتشابك أغصانها المتيبسة ،وثمة أصوات طارئة هذه الليلة تهدد كيان الصمت المطبق تشبه أصوات صفارات الإنذار المرتعدة ،علها تطلق أصوات الشروع إلى الضفة الأخرى من الحياة ، وهناك بيت رخامي أببض أحالت بياضه يد السنوات المتهرئة إلى رمادية حزيخهنة ،في طابقه العلوي ثمة شرفة مطلة على شارع أقفر منذ بدايات هذا المساء الذي جاء هذه الليلة ومعه ضيف ثقيل ليلف المدينة، بصمتهِ ،في هذه الشرفةِ ظلت أمل منتصبة القامة وهي مبحرة كالعادة في بحر نكوصها المتثاقل ،ترقرقت على جبينها البلوري قطرات مائية توزعت عشوائيا أعلى حاجبيها الرفعيين ،كأنها حبات لؤلؤئية انفرطت من عقد على جيد نافر ،بدت هذه الليلة شاحبة أكثر من كل ليلة مضت،شحوب اختلط بلون الخدين الورديين راح يضفي على ملامحها سحنة من جمال حوائي أخاذ،بدا وجهها كأنه أفق رائع تمازجت في تركيبته خصلات ضوء الشمس الممتدة قبل ودعها وحمرت المساء الهادئة الرقيقة ،تقف كأنها زهرة شمسية صفراء تبحث عن ضوء ،أحست ان وقوفها اللامجدي نال من جسدها المتعب كثيراً ،في خلدها أسئلة تدور لاتعرف القرار: ماذا لو فكرت بالخلود إلى النوم قليلا..؟؟ ماذا لو لم تلتقي به في هذا المساء الكئيب..؟؟ماذا..لو ...لحظة ارتجافية أحست بأن شيطان خوفها كان يضع رأسه الناري بين فخذيها العاجيين ،بهدوء ممثلة بارعة في فن السيطرة على الأعصاب ،حاولت ان تمسك بمدية شجاعتها ،لتمزق جسده الناري ،الذي يراودها عن نفسها ، ،تكاد ان تقع فريسة له لو لا ان ترى برهان شجاعتها ،يعظ لها سبابته اليمنى ،لم تعلم هل كان يحذرها ،أم غضباً لهذه الانبطاحية اللامبررة منها ،هدأت قليلا ...،بدأت ريح خافتة باردة تجتاح المكان حركت خصلات شعرها المدلهم إلى الأعلى والأسفل ..راحت تلك الخصلات تمرح وتتراقص مبتهجة ،لحظة استذكار ..آه..رقص..مرح ..أمتعها الهواء المتطفل على موعدها المتأخر ..تراخت أكثر أحست بنشوة طافقة تطفو على جسدها الغض ،،لم تعهد ذلك من قبل أبدا .,.لحظة استرجاعية أخرى .تسالت بحياء خفي :..آه بعد أربع وثلاثين عاماً ..بل أربع وثلاثين نهاية..بكل تفاصيلها ودقائقها..والى ألان لم تبصر تفاصيل إسرار هذا الجسد المتواري خلف جبال الحزن... سوى عيناي.. وعينا ذاك الشيطان الملعون ,.الذي يسترق النظر فارجمه بشهب غضبي وحيائي .تساءلت بمرارة واسى ..ترى هل أذبلت تلك النهايات المقيتة زهرة هذا الجسد..؟ ، بصمت راحت تمرر أصابعها الناعمة بهدوء فوق خارطة جسدها المتسقة ،،فجأة دوى بركان غضب هائل في داخلها ، تسونامي اقتلع كل تلك الأحاسيس المترعة ،حول أصابعها الناعمة إلى مخالب مفترسة ..تمزق هذا الخدر المنساب إلى داخل روحها الشاردة، أنفاسها تتحول إلى زئير وحشي مرعب، تمتمت بانزعاج:اللعنة ..اللعنة ..عليك أيها السا....،تراءت لعناتها وراء كثبان هذا السكون الحذر ،راحت تلتقط أنفاسا متسارعة ،حشرجة انكفائاتها الداخلية أصبحت دوياً يهز العالم من حولها ..قنبلة نووية ثالثة تقضم جزأ أخر من وجه الأرض،بلغة مأتمية وحركات مبتذلة حركت أصابع قدميها المنسابة نحو الشرفة ،تتأمل تلك الانسيابية ،المشوبة بالسكون ..يديها تطوق رأسها لاشعوريا ،كأنها تستحضر بقعة ما من تلاشي أشياء ذاكرتها المبعثرة فوق رفوف خاوية ..بدأ شريط سينمائي قديم يدور في داخل مخيلتها ...عاد بها إلى أكثر من عشرة أعوام قبل الآن..ثمة حركة متواصلة داخل رواق واسع..فتيات يحملن حقائب سوداء وأوراق وكتب ..وثمة فتيان يجلسون في ناحية من ذلك المكان..وآخرون منشغلون باصطياد النظرات العابرة ..المكان يوحي انه حرم جامعي ..آه ..أنها هناك في إحدى زوايا المشهد تقف..ريش طاووسي فاخر يحيط بجسدها..عينيها تراقب ذلك الفتى المفتول العضلات..ذو الطول الفارع ..الذي مابرح يسترق النظر إليها خلسة بعد أخرى..مر الشريط مسرعاًَ كما في السينما ...ثمة مشهد أخر.... فتاة مع فتى وهما يتمايلان بزهو منتصر..ويضحكان بصوت مرتفع ..أنها هي ..انه فراس عشيق روحها وأغنية صباها...راحت الإحداث تمر مسرعة إمامها..تذكرت عام تخرجهما من كلية الآداب بعد عشق دام أربع من السنوات..كيف كان ذلك اليوم يحمل بين طياته الفرح القادم ..كيف اتفقا على ان يجعلا منه نافذة يفتحانها نحو حياة مليئة بالحب والفرح .. تذكرت كم أسئلتها له عن موعد الإعلان عن الخطوبة..وكم كان حجم سخافاتها ودلالها الزائد ..وكيف كان يقابل ذلك بروحه المرحة.. حجم الفرحة لايوصف يوم حفل خطوبتها ..كم كان يوماً رائعا ومتعبا بالنسبة لها ...انقطع الشريط فجأة ..توقفت الرومانسية عند نقطة يبدو ان المخرج أراد لها ان لاتكتمل ...فراس حبيب القلب في السجن ..خبر هز كيانها وافقدها القدرة على التفكير بعقلانيتها..فراس في مديرية الأمن العامة..قيل انه جاسوس لدولة معادية..قيل انه يحمل فكرا معاديا ضد السلطة..قيل انه استهزئ" برب السلطة"علناً ....قيل ...ووو..أفاقت من هذا الحلم الواقف مرتعبةً ،وقد هشم هذا الكابوس المقيت قارورة أحلامها الكرستالية ،......لقد تأخر الوقت ، أخيراً ظهر واعتلى منصة الكون وبدأ يوزع أنواره على الجميع ،شخصَ أمامها هذه الليلة وقد اكتمل قرص بهائه... وزادته أشعة الشمس المنكسرة على وجنتيه حمرة جذابة فأحست بحياء يطبق على شفتيها الذابلتين ..لقد تأخرت عن الموعد ياعزيزي ..أين كنت إلى هذا الوقت!! ...هل ان أنساك النوم موعدنا المعتاد ؟..قالت ذلك بانكسار حوائي دافئ... ،حساباتكم الدنيئة تحاول ان تسرق من عمري دقائقه الثمينة ،وتمحقني قبل أواني ..أجاب وقد ارتسمت صورته في بؤبؤ عيناها فزادت ائتلاقاً وبريقاً ..بحزن متدفق تمتمت معه :سئمت البقاء من دونك ..ياحبيبي ..سئمت الفراق أريد ان أكون معك على الدوام ..كما اتفقنا ..أم نسيت ذلك كالعادة ..أتذكر وعدنا الذي حفرناه على جسد تلك الشجرة المسكينة في حدائق كليتنا ..أم نسيت كل ذلك ..؟؟انسابت دمعة ...بعدما قالت ذلك

-..آه..آه ,,حبيبتي ,.كم أنت رائعة.. بهذه السحنة تبدين الليلة أكثر جمالا. ..وأكثر فتنة ..أنهم مخطئون ...حين قالوا .المرأة عندما تتقدم بالسن تبدأ بالذبول ..هراء..هراء.. بل تصبح أكثر نضجاً ...وأزكى عبيرا ..

-قاطعتهَ :دعك من هذا الكلام المدغدغ وقل لي كيف يمكنني الذهاب معك ..لأني لم اعد احتمل فراقك ... أيام طويلة ..أتوسل إليك ان تأخذني هذه المرة كما وعدتني....

- لكن ياحبيتي الطريق وعر وفيه مخاطر عليك....أتحمل ذلك ..لأجل حبنا...قالت ذلك بطفوليتها ودلالها ...حسنا ..حسناً ..ثمة طريق مختصرة لتصلِ إلي .. ثمة حبل يتدلى من سماء غرفتك ماعليكِ سوى ان تضعيه حول جيدك ..كما تضعين القلادة الذهبية التي أهديتها إليكِ في حفل خطوبتنا ..لحظات ..وسنكون سوية هناك ..باندفاع شديد عادت إلى غرفتها ...وطوقت جيدها بقلادة الموت المهداة إليها للتو ..وراحت تتدلى بهدوء ..بينما هو ..عاد إلى مخدعه بانتظار هلال أخر.



المصدر موقع بنت الرافدين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى