فاتن الجابري - إمرأة الريح

أمرأة تطرق بابها لم ترها قط تهمس في أذنها كلمات توقد في صدرها حرائق في غابات التوجس وسعير التساؤلات تتركها لرعب يتناسل فيها ... ستأتين عند الغروب، حذاري للجدران اذان وعيون وأفواه، ساعة بين الغروب وبينها تتأكل الدقائق والثوان في جسدها كأسراب من ديدان سود برؤوس دبوسية تخترق شرايينها وتحتل أوردتها، تسير في دورتها الدموية، تبث سمومها في نسغ القلب، رعب ولحن من بكاء حزين تآلفت معه، تفترش أرض دارها الجرداء، تصرخ بلا صوت تهيل ترابا فوق رأسها وتكوي خديها دموعا من ماء نار حارقة، صغيراتها الثلاث تكومن في زاوية يراقبنها من فرجة الشباك الصغيرة المطل على فناء الدار .

منذ عدة أيام تسمع حكايات يتناقلها الناس بسرية وحذر شديدين عن أولئك الذين يختفون من الازقة، تاركين بيوتهم خالية، لا تسعفهم الساعات، لبيع أثاثها، يودعونها أمانة بيد أقرب جار ويرحلون، يدها على قلبها وعينيها شاخصة نحو الزقاق المقابل حيث يقطنون، تأبى التصديق أن يكون الدور عليهم هذه المرة ... ربما أخطأت العنوان تلك المرأة، لكنها لاتخطأ في قراءة عيني زوجها الذي عاد مبكرا اليوم وكل شئ في ملامحه ينبأ بهول مايحمله لها من أخبار أرتسمت حزنا على وجهه الذي تغصن بالتجاعيد، لم تحقد على أمها يوما حين زوجتها قسرا من حسن بسنواته الأربعون ولم تتجاوز بعد الرابعة عشرة من عمرها، كل ليلة حين تأوي الى فراشها، تمسد شعره الفضي بنبض طفلة تآكل الحنين في روحها الى ومضات باهتة من ذكرى أب يمسد شعرها حين تنام، أشفقت على حسن دوما وهي ترى ظهره يزداد تحدبا يوم بعد أخر لقساوة عمله حمالا في سوق الشورجة الكبير، ليوفر لها قدرا مقبولا من رفاهية متواضعة على حساب تآكلات عموده الفقري,

بلع ريقه ليتأكد من خروج صوته

ـ زينب أهلك راحلون الليلة، سمعت من جارهم أبو محمد سيسفرون بدون أنذار تركت عملي واتيت لاصطحابك حين يختلط الظلام سنذهب لتوديعهم.

تتحول الديدان الدبوسية الى ثعابين مسعورة تلهو في مضغ جسدها خلية تلو أخرى تمر بأخيلة من زمن طفولتها تتلمسها، تلاحق سنينها الهاربة نحو كهولة جسدها الذي هرم مع خريف حسن، تركض خلف نعش أبيها الذي مات وهي نائمة، حين حل الصباح أستفاقت على عويل وصراخ أمها وشقيقاتها لم تدرك حتى اللحظة لم تجاهلوا وجودها وتركوها في غمرة نوم ليسرقه الموت منها ذات ليلة حالكة السواد أحست عند هزيعها الاول بغرابة ما يحدث فيها، لكنهم أبعدوها في ركن بعيد، وقصوا عليها قصة السعلوة التي تأكل الاطفال الذين لاينامون,حين نامت كان والدها يمشط ضفائرها الطويلة ويعقد فيها الشرائط البيض، يمسك يدها الصغيرة حاملا حقيبتها المدرسية كما في كل الصباحات، على ظهر دراجته الهوائية وهي تجلس أمامه ممسكة بقوة مقود الدراجة والهواء يداعب ضفائرها الذهبية، وصوته يغمرها بالاغنيات

ـ (زينة .. زينة , زينة غالية عالينه .. زي ضي عنينا) زينب زينب

يضحكان طويلا وهو يغير قفلات الاغاني بأسمها، تبحث عن صوته في مطالع الاغنيات، تحلم أن يغني لها حسن وهو يحملها الى سريره، يمتص رحيق طفولتها المنسية عند باب المدرسة، وتغدو أمرأة، مسكونة بصوت تحمله الريح وتطير به ثم تسكبه همسا حنونا في أذنيها (زينب .. زينب) تخلع قميص نومها الشفاف تلقيه فوق السرير، ترتدي ثيابها المدرسية تعقد شرائطها على عجل، وتندفع نحو باب الدار الخارجي تتبعها أصوات الصغيرات

ـ ماما نسيتي ان تلبسي عباءتك

لا تلتفت لأصواتهن المبحوحة اللاهثة خلفها، وهن يحملن عباءتها، تمر من أمام حسن الممدد على سرير خشبي وسط باحة الدار والذي لم ينتبه الى مرورها لأستغراقه في نوم عميق، بينها وبينهم شارع وسعلوة تأكل صغارا لاينامون، وأزمنة للرحيل وهوامش لغياب تخشاه، الاصوات تزدحم تستحيل ضجيجا،

ـ ماما , ماما زينة غالية علينا

انهم راحلون، سوف يسفرون ليلا، تقفز في الهواء كأنها تسير في حلم، قدميها لاتمسان الارض، تلمح سيارة سوداء مظللة تقف عند باب دار أهلها الذين سيبعدون عن الوطن بعد لحظات على بعد أمتار ولاتستطيع الوصول كأنها أميال شاسعة، تتسمر في الارض خوفا حين ترى رجال الامن يدفعون بهم ويزجونهم داخل السيارة أخواتها وأمها التي تصرخ بقوة وهي تشير اليها أن تسرع لتوديعها تختلط الاصوات بعنف في رأسها، من بعيد يأتي والدها يغني على دراجته الهوائية، تقفز وتجلس امامه، صغيراتها يرمين عباءتها غيمة سوداء تمر من أمام عينيها تكون حاجزا بينها وبين أهلها الذين أزدحمت بهم سيارة الامن، تحاول القفز من فوق دراجة أبيها لترتدي عباءتها التي لفتها بظلمة حالكة، وهي تسقط أرضا على الرصيف الاسفلتي بعد أن داهمتها سيارة حمل كبيرة، مزقت أحشائها، قبل أن تتلاشى كل الاصوات الا صوته يطير بها نحو السماء علىدراجته الهوائية، وأغنياته تردد صداها الريح.


* المصدر موقع بنت الرافدين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى