عادل زكي - ذبابة على زجاج نافذة.. قصة قصيرة

لا أعرف ماذا أصابنى؟.. هل أنا مخدر؟.. مريض؟.. أو تحت تأثير عقار ما قد تناولته ولا أتذكره!، حاولت أن أدخل الطمأنينة فى نفسى وأنا أقول: آه.. وربما ما يحدث الآن فى رأسى ما هو إلا أثر جانبى لهذا الدواء!!.. أنا لا أستطيع أن أتحرك من موضعى!!، ولا أشعر بمن حولى.. نعم أنا أشعر بأطرافى، ولكنى لا أستطيع أن أحرك يدىّ أو رجلىّ!!

وبدأت أحاول فى نفسى الإجابة على العديد من الأسئلة:.. هل أنا «حى» أم «ميت»؟!.. وأصبت بنوع من الرجفة عندما ذكرت الكلمة الأخيرة. أنا لا أستطيع أن أستجمع أفكارى ولا أعرف ماذا حدث معى؟!

سأطلب المساعدة أو النجدة!!، ولكن كيف سأطلبها؟.. سأصرخ عالياً وأقول (...).. نعم سأقول (...).. وتوقفت قليلاً لأسأل نفسى: ماذا.. ماذا أقول؟.. ما هى الكلمة المناسبة؟.. آه.. أنا لا أتذكر ما هو هذا النداء!، فإذا صحت بصوت مرتفع:.. «طاخ.. طاخ».. أو «لاك».. «هير».. «بوح ».. لا.. لا.. أنا لا أعتقد أن هذه كلمات النداء أو طلب المساعدة!! نعم.. هى فى تقديرى ليست كلمات مناسبة!!.. فمجرد أن ما فعلته أنى قد ربطت ثلاثة أحرف مختلفة لأكوّن كلمة قصيرة.. ولكن منطق العقل الأساسى «أنك إذا لم تعرف فلماذا لا تجرب؟».. قد تكون إحداهما هى كلمة النداء الصحيحة!!.. وتوقفت قليلاً لأقول فى نفسى:.. نعم سأجرب إحدى تلك الكلمات، ولتكن «بوح»!، وأخذت أصرخ بأعلى صوتى:.. بوح.. بوح.. بوح!! وتوقفت قليلاً وأنا أتعجب أنى لم أسمع صوتى!!..وأخذت أصيح مرة أخرى: بوح.. بوح..!!، ولكن ما هذا؟.. هل أكلم نفسى؟ هل أتصور أنى أصيح ولا يخرج صوتى؟.. أنا لا أشعر بحركة فمى أو انقباض حنجرتى!!

وأصبت بخوف شديد وأنا أتوقف عند فكرة «الموت»، فأنا أبدو كإنسان ميت!!،.. ولكن.. ولكن من أنا؟.. أعنى ما هو اسمى وما هى صفاتى كإنسان؟! وزاد معدل خوفى وأنا أتساءل.. أولاً.. هل أنا رجل أم امرأة؟ وتوقفت لأنى لم أعرف إجابة هذا السؤال! وشعرت بالمرارة وأنا أقول: ولماذا تعتبر نفسك أصلاً «إنسان»؟!!.. قد أكون بقرة معلقة فى محل «جزار» أو ذبابة على زجاج نافذة!!.. وقلت: أنا قطعاً إنسان سواء أكنت رجلاً أو امرأة، فأنا أستطيع أن أفكر.. نعم أنا إنسان.. طبعا أنا إنسان!!

.. وتوقفت وأنا أقول فى نفسى.. ولكن هل إذا مات الإنسان تصبح روحه أحادية الجنس؟.. مجرد شىء كان محسوساً مثل «المخ»، أو شىء كان موصوفاً مثل «العقل»، أو شىء نتخيله ونسميه «الروح». وقلت لنفسى: قطعاً الروح تعتبر شيئاً أحادى الجنس، ففى هذه الحالة لا يوجد ولا يهم أيضاً اختلاف النوع، فالروح بالقطع لا تتزاوج ولا تتكاثر فلا داعى لأن يطلق عليها ذكر أو أنثى!!

نعم.. لا يمكن أن أكون ذبابة على زجاج النافذة.. ولكن لماذا أقطع بذلك، ولماذا لا أكون مجرد حشرة.. أى حشرة!.. هل لأنى أفكر الآن فى حالى..!!،.. آه.. تذكر أن الذبابة أيضاً تفكر، هى تسعى للحصول على طعامها، وتناور لتهرب من جميع المهالك، وتخطط بكل حواسها وحسب تفكيرها لممارسة الجنس مع أقرانها!! وضحكت وأنا أقول:.. ألم تر ذبابة دفعها الخوف لتطير من فوق زجاج النافذة وهى تحمل الذكر على ظهرها!!.. قطعاً هى تفكر فى شيئين فى وقت واحد، وهما أن تبتعد وألا تنقطع شهوتها عندما شعرت بالقلق!! وشعرت بالحيرة وأنا أقول:.. هذه فكرة مخيفة.. فكل المخلوقات تفكر كل حسب حدود عالمه.. نعم.. لو كنت ذبابة لفضلت أن أعيش وأموت كذبابة!.. ولكن لو كنت أنا الآن مجرد «روح»، فهل تفكر كل أرواح المخلوقات المختلفة مثلما أفكر الآن؟!!

(2)

وشعرت بالقلق لشىء خفى يدور فى عقلى ولا أستطيع أن أتذكره!.. آه.. يجب أن أحاول أن أتذكره.. آه تذكرته.. لقد كنت دائماً أحب حساب مرور الوقت أو الزمن، وقلت: كم مر من الزمن وأنا فى هذه الحالة؟.. وعندما لم أجد إجابة حاضرة فى ذهنى بدأت أتساءل: وماذا تعرف عن الوقت؟ وشعرت بالحيرة وأنا أقول فى نفسى:.. لتعرف الإجابة عن هذا السؤال يجب أولاً أن تعرف ما هى الفترة الزمنية؟!.. آه.. أعتقد أنه يعنى انقضاء المسافة بين حدثين أو شيئين مختلفين ولكنهما يتكرران بانتظام، مثل دورة ظهور الأبيض وتعاقب الأسود.. أو ما كان يطلق عليه «الليل والنهار».. آه.. تذكرت الآن!!.. كان يسمى «يوم».. آه.. وجمع هذه الكلمة يطلق عليها «أيام».. طبعاً هذا بسبب كثرة تكررها.. وشعرت بنوع من السعادة والرضى وأنا أقول فى نفسى:.. إذاً كم مر علىّ من الزمن أو الأيام وأنا على هذا الحال؟.. هذا فعلا شىء محير فأنا لا أعرف!.. نعم أنا لا أعرف!!.. لا يوجد فى حالتى ضوء وظلام.. لا توجد أحداث واضحة ومحددة ومتكررة لأحسب قدر ما يمر من وقت!!.. هذا لا يهم.. وهل أحتاج لمعرفة الوقت؟.. لا يوجد حولى الآن ما يشغلنى لأحدد زمن تتابع الأحداث!! ولا توجد أحداث متكررة لأحسب الوقت أو أقسمه إلى أجزاء.. وشعرت بغربة شديدة وأنا أقول:.. قد أكون على هذا الحال من بضع ثوان أو مئات السنين.. ولماذا لا يكون من آلاف السنين!!.. لا يوجد فى حالتى شىء اسمه الزمن.. ولماذا أشغل نفسى بهذه الفكرة التافهة وهذا الاختراع غير العملى إطلاقا!!.. ومع تفكيرى بهذا المنطق بدأت أميل إلى فكرة احتمال أنى فعلاً قد أكون ذبابة على زجاج نافذة!!.. آه الزمن.. أو دورة الزمن، وابتسمت بمرارة وأنا أقول بصوت لم أستطع أن أسمعه:..لا توجد هنا أى دورات.. نعم لا يوجد شىء اسمه الزمن!!

وحاولت التعرف على ما يحوطنى!.. أين الشمس؟ أين القمر؟.. ماذا ترى من حولك؟.. مجرد أضواء متداخلة من الأحمر والأخضر والأزرق، وهذه الأضواء تحيط بى من كل اتجاه!. وتوقفت قليلاً لأقول فى نفسى: ولكن لماذا هذه ألوان الثلاثة؟ وكانت الألوان تتراقص فى الفضاء وتتداخل فيما بينها لتصنع ألوان جديدة مختلفة، وفجأة اقتربت الثلاثة ألوان وكأنها دوائر فى الفراغ لتندمج فى لون واحد «أبيض» شديد السطوع، وأخذت شدته تقل بالتدريج لتأخذ جميع درجات اللون الرمادى، واستمر هذا الضوء لفترة وبدأت تظهر فى أطرافه دوائر متباينة فى الأحجام والألوان، ثم ومضات للعديد من الخطوط المتشابكة والمتعرجة والتى تشابه صورة البرق فى ليلة ممطرة ولكنها بألوان وأشكال مختلفة!.. وضحكت وأنا أقول:.. أنا أرى الآن برق برتقالى، وهذا لونه بنفسجى وآخر لونه أصفر.. وفجأة تحولت الخلفية البيضاء إلى اللون الأحمر ثم بدأت تخفت تدريجياً متحولة إلى اللون الأخضر ثم تغيرت إلى اللون الأزرق الذى أخذ درجات متعددة وكان يمتد أمامى فى فضاء سحيق!! وكنت مشدوهاً بهذه الهلوسة الضوئية لشعورى أنى أنظر إليها من جميع الاتجاهات فى الفراغ الممتد حولى.. ولكن.. لماذا هذه الألوان الثلاثة؟ وفجأة قلت فى نفسى:.. نعم.. نعم أنا إنسان.. وقلت بسعادة:.. أنا من فصيلة الثدييات التى تميز هذه الألوان.. أنا قطعا إنسان.. أنا لست حشرة ترى اللون «فوق البنفسجى» أو الأشعة تحت الحمراء.. ولكنى شعرت ببعض القلق وأنا أفكر فى الدوائر وصور البرق الملون، وهل كنت أبصر اللون فوق البنفسجى أو لون الأشعة ما تحت الحمراء التى لا تراها معظم الثدييات!!.. ولكن ربما..!!، فى الحقيقة أنا لا أستطيع أن أحكم.. أنا فعلاً لا أعرف!!

(3)

سأكلم نفسى الآن بكل الصراحة والهدوء.. أنا حالياً مجرد «شىء»،.. شىء وحيد لا يقدر على التواصل مع أى «شىء» آخر، وقد يكون مثل هذا الشىء الآخر يقبع هنا بجوارى أو فى أى مكان آخر،.. نعم.. وأنا الآن بحكم العقل والمنطق أتواجد فى عالم أو فضاء خاص بى، وأنا لا أعرف معنى كلمة «الوقت»، ولا أعرف هل أنا ذكر أم أنثى؟ ولا أعرف أصلاً هل أنا إنسان.. عصفور، سمكة أم حشرة؟.. أنا لا أسمع صوتى ولا أستطيع تحريك أطرافى!!.. نعم أنا شىء «ميت».. آه ميت.. ميت، إذاً كنت فيما مضى إنسان، وأعتبر شىء «نافق» لو كنت أى كائن آخر!!.. قطعاً.. أنا.. أنا هذا الشىء الموصوف وغير الملموس وما أطلقوا عليه كلمة «الروح»!!.. ويجب أن أقبل وأقتنع أنى فقط مجرد «روح»!!.. روح كائن حى.. أياً كان هذا الكائن وهو قد مات فى فترة سابقة.. وضحكت وأنا أقول:.. ولماذا لا أكون روح «ديناصور»!!

وكنت أشعر بنوع من الرضى والهدوء عندما وصلت لهذه النتيجة!... وقلت:.. «ميت».. «روح»، يجب أن أكون واقعياً.. لا يمكننى تغيير ما أنا عليه الآن!، وعدت أتساءل مرة أخرى.. ولكن!!.. ولكن أين «الجنة» وأين «النار»؟.. أين الملائكة والشياطين؟.. أين الله؟.. نعم.. أين الله؟

وجلّت بنظرى فى الفضاء الفسيح وأنا أحاول أن أصيح:.. يا.. يا.. «الله».. لماذا لا تكلمنى؟.. يا رب.. يا خالق هذا الكون.. أنا مجرد شىء مات فى ملكوتك، وهذه روحى تناديك!!.. لماذا لا تتجلى لى بأى صورة تراها!!.. لماذا لا تحدثنى كما كلمت «موسى» فى طور سيناء؟.. آه.. يا رب.. لماذا لا أرى عظمتك كما رفعت «عيسى» للسماء!، وكما أوحيت لـ«محمد» فى غار حراء!

وساد سكون عميق من حولى.. صمت تام.. لا شىء!!

ومع هذا الصمت المطلق شعرت بارتباك شديد وأنا تتضارب وتتداخل الأقوال والأفكار فى مخيلتى:.. لا.. لا يوجد شىء اسمه «الله»!!

وتساءلت فى نفسى:.. هل كنت من المؤمنين بالتوحيد فى سابق الزمان؟.. أو ربما تكون «روحى» فيما مضى لإنسان «بوذى» أو «هندوسى»، أو بلا ملة بأى شكل من الأشكال!!.. وأنا مثل هذا اللا دينى ولا أعرف ولا يهمنى أن أعرف معنى التوحيد أو الإله الواحد!.. وشعرت بقلق وأنا أقول لنفسى: لقد استجرت بالله ثم استنكرت وجوده الآن!!.. قطعاً أنا لست من الأنبياء لتظهر معجزات الله أمامه بهذه السهولة!.. ولكن أنا لا أعرف ماذا أكون؟ هل أنا إنسان أم حشرة أم أنا أى كائن آخر!!.. نعم أنا أعرف أو أعتقد أنى الآن «روح».. قطعاً سيظهر الله والملائكة بعد وقت معين!!، وعندها سيبدأ يوم الحساب.. ستفتح الأبواب.. أبواب الجنة والنار!! وعدت أسأل نفسى:.. ولكنّ.. ماذا قلت؟.. «بعد فترة زمنية»!! ورددتُ بدهشة:.. «زمنية».. «زمنية»!!.. ولكن ما استنتجته من قبل أنه لا يوجد تعريف للوقت أو الزمن فى مثل حالتى!! فقد أكون مت من بضع ثوان أو من آلاف السنين.. المنطق والعقل فى هذا الوضع يقول إنه لا توجد دورة للوقت أو الزمن!!

ومع كل هذا الشعور بالحيرة والفراغ قلت:.. نعم يتطابق معنى كلمة «الله» فى كل الأديان، وقد تعنى هذه الكلمة كل الصفات الحميدة المرغوبة لمن لا يعرف كلمة الله، وذلك لتضمن سلامة أخلاق كل الكائنات ومجتمعها.

ولكن ما هذا؟.. شىء غريب يحدث معى ولم أكن أعرفه؟.. أشعر بألم!!.. آه.. أنا أشم رائحة ما!!.. الأضواء الملونة تتحول إلى درجات من الرمادى.. ما هذا؟.. ماذا يحدث؟.

وفجأة بدأت أشعر أن صدرى يتحرك.. وشعرت بألم شديد مع كل محاولة لأن أتنفس.. ولكن ما هذه الرائحة النفاذة الكريهة؟.. إنها رائحة خانقة!!، إنها تعوق تنفسى.. وصحت بصوت ضعيف:.. أنا «حى»!!.. أنا حى!.. أنا فعلا لم أمت!!!

.. ولكن ما كل هذا الألم الذى أعانى منه فى كل عظامى وجسدى؟.. سأحرك قدمىّ لأتأكد أنى فعلاً على قيد الحياة!.. آه أنا أشعر بحركة بسيطة ولكنها تؤلمنى أشد الألم!!.. نعم أنا أشعر بضعف شديد، ولا أستطيع أن أتحرك من رقدتى!!.. الظلام شديد من حولى.. هل اتسخت عيناى؟، أنا لم أشعر بهذا الإعياء من قبل؟ وتوقفت قليلاً وأنا أقول:.. ولكن ما هذا؟!.. هناك شىء غريب!!.. أنا أشعر الآن كأن أحدهم يلمس رأسى!! وتعجبت وأنا أقول: لماذا تغطونى بثوب أو رداء؟.. أنا حى!!.. أنا لم أمت!! وعندما لم أسمع أى صوت أو إجابة قلت فى نفسى: يجب أن تصدر نداء ليعرفوا أنك مازلت على قيد الحياة!

وبكل ما أوتيت من قوة، وأنا فى هذا الضعف الشديد، صحت: «بوووح».. بووح.. بوح!.. نعم أنا حى.. لقد شعرت الآن بحركة فمى وانقباض حنجرتى!!

وحلّ صمتٌ تام.. صمتٌ مظلم كئيب.. وبدأت أشعر أننى فى شدة الإرهاق والتعب، حتى أننى لم أستطع أن أفكر فى خطوتى التالية، ولكن ما هذا؟.. أنا أسمع صوتا ضعيفا يأتى من مكان بعيد، وحاولت أن أفسره فى عقلى المشوش، ولكنه لم يتعد كلمة من ثلاثة حروف «ب و ح».. «بوح»..«بوح».

وحاولت أن أسأل من أنا؟.. هل أنا إنسان؟.. إنسان مصاب وجريح!!.. لكن.. ما هذه الرائحة الكريهة؟.. قد تكون قنبلة غاز سام.. آه.. أو ربما رذاذ مبيد حشرى.. هل أنا ذبابة سقطت من فوق زجاج نافذة؟!.. أنا لا أرى ولا أستطيع أن أميز أى شىء الآن.. ولكن الصوت تردد مرة أخرى «بوح».. «بوح».

لماذا لا يساعدنى أى أحد؟.. أنا لا أستطيع أن أتنفس!.. وتفكيرى بدأ يبهت بشدة!.. وشعرت بمرور «الوقت» بطيئاً متثاقلاً، واستسلمت لألمى وضعفى، وتركت نفسى لظلام يزحف فى عقلى ليحفر فى ذاكرتى كلمة «النهاية» فى آخر ثانية من «زمنى» المحدد.. ولكن.. ولكن أنا أتعجب لماذا فى هذه اللحظة بدأت أشعر أنى فعلاً سعيد!!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى