أميمة عز الدين - الفتى

في كلّ مرّةٍ تحكي صديقتي عن فتاها الوسيم، أتلهّفُ إلى رؤيته. سيرتُه مثيرة للشغف والفضول والحسد والغيرة. صديقتي الممتلئة قصيرةُ القامة، تشبهُ ناسكًا منتفخَ الأوداج، تسير الهوينى بين صفوف المدرج. تزهو بحبيبها الذي تخبّئ صورتَه بين صفحات الكتب، ولا تسمح لأيّ منّا بالتعرّف إلى ملامحه. أتلصّص على ملامحها وهي تحكي عن عينيه الخضراوين، وصفاءِ بشرتِه المشربة بحمرةٍ خفيفةٍ، في حين أنّ بشرتها أقربُ إلى السواد. لا تخبرنا عن اسمه، ولا عن مكان اللقاء السرّيّ الذي غالبًا ما يكون في ركنٍ منزوٍ من الحرم الجامعيّ. تحكي عن أحلامهما معًا، وعن خوفه عليها حينما تتأخّر في لقياه. أحيانًا يعنُّ لها الغيابُ لتختبر احتمالَه في البعاد. الغيرة تجعلني أقضم من قلبي قطعةً حتّى أتمرّن على القسوة حين تلقاني لتحكي عن ذلك الفتى الأشقر الوسيم الثريّ، الذي ينتظره مستقبلٌ باهرٌ بعد تخرّجه من كلّيّة الطبّ.

سوف أباغتها وهي تتزيّن فى الحمّام المُلحق بالنزل الجامعيّ. تتلاحق أنفاسُها وهى تضمِّخ وجهَها الأسمر بالبودرة الورديّة. تمرّر أحمرَ الشفاه بخفّةٍ مصطنعةٍ وهي ترمقني بطرف عينها. تطلق ضحكةً يشوبُها قليل من المجون. تدرك فضولي لتتبّع أثرِها مع حبيبها. لم أعد أسيطر على مشاعري العدائيّة تجاهها وأنا أراها تتهيّأ للخروج. "تعايرني" بافتقاري إلى حبيبٍ مثلها. في اليوم التالي وجدتُها تُسرع الخطى، فأيقنتُ أنّه ينتظرها في مكان ما. راوغتْني وأنا أسألها عن وجهتها، وتعلّلتْ بوجعٍ مباغت في بطنها. كان عليّ التظاهر بتصديقها، وإيهامها بانصرافي عنها لبعض شؤوني.

راقبتُها وهي تطير إليه. لم أستمع إلى نميمة تلك الصديقة الخائبة الرجاء، نهلة، التي أقسمتْ أنّ حكاية ذلك الفتى مصنوعةٌ من المخيّلة المبدعة لزميلتنا الصعيديّة.

كنتُ أخلو بنفسي وأؤنّبها على مشاعري العنصريّة نحو صديقتي الصعيديّة. حتّى منزلتها الاجتماعيّة المتدنّية لا تمنحي الحقَّ في الحنق عليها لأنّ هناك فتًى ما يحبّها ويراها أجملَ الكائنات.

رغم كلّ هذا ما زلتُ أراقبها، وأقتفي أثرَها في خفّة، بعد أن تحوّلتُ إلى شبح. شعرتُ بخفّتي وأنا أحوم حولها وهي تنضمّ إلى تلك المظاهرة الصغيرة التي خرجتْ بعيدًا عن أسوار الجامعة لتندِّدَ بموقف الحكومة المصريّة من سليمان خاطر، ذلك الفتى الذي غامر بحياته في سبيل ألّا يصيبَ النجسُ ترابَ بلده. ورغم مظاهرات التأييد له، فإنّ الدولة لم تفرجْ عنه.

ساد الصمتُ البلادَ. صديقتي النوبيّة نفسُها لم تعد تتحدّث عن فتاها. وحين ألححتُ عليها بالسؤال، أجابت بحزم:

ــــ قريبًا سنتزوّج؛ فهو في حاجة إليّ.

الصورة الذهنيّة عنهما كانت قاتمةً وغريبة وعنصريّة: عروسٌ سوداء تتأبّط ذراع فتًى شاهقِ البياض! كيف سينسجمان معًا؟ وبّختُ نفسي مرّةً أخرى، وتمرّنتُ على طرد تلك الغيرة التي تقتلني.

ذات يوم، وصلتني دعوةُ الزفاف، تفوح منها رائحةُ الورد!

كان عليّ شراءُ فستان يليق بالمناسبة المزعومة. وجدتُها فرصةً للانتقام؛ فالظهورُ بفستانٍ غالٍ ولافتٍ للأنظار سيكبّد صديقتي المتباهية خسائرَ فادحةً.

حين وصلتُ إلى بيتها، وجدتُ الزينات والأضواءَ الملوّنة. أصواتُ الزغاريد والأغاني الشعبيّة تصيبني بالغثيان والدوار. تصكّ أذنَيّ تلك الأغنية: "يا بو جلّابية مزهرة/ يرمح يطير في المندرة/ جاب لي الدولاب بأربع درفات/ يرمح يطير في المندرة/ جاب لي السرير بأربع عواميد/ يرمح يطير في المندرة."

ثم رأيتُها!

كانت تتأبّط ذراع فتاها، وتكاد تلتصق به. كان رجلًا حيًّا من لحم ودم، وكانت السعادةُ تفيض من ملامحه. حين مددتُ يدي لمصافحته خُيّل إليّ أنّ عينيه تعلّقتا بالسقف. دلّتْه صديقتي على يدي قبل أن تقع في يده، وهو ما يزال مبتسمًا، وعيناه مفتوحتان على اتّساعهما. حينها، أدركتُ أنّ صديقتي ابتلعتْ نورَ عينيه حتّى لا يرى من النساء غيرَها.

أميمة عز الدين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى