جار النبي الحلو - صياد المحبة

قلت لصديقي العجوز‏:‏ ما رأيك في رحلة صيد؟ انتفض فايز‏,‏ وكشر‏,‏ واندهش‏,‏ ورفض‏,‏ وضرب صدره بيده المرتعشة‏.‏ قال باستنكار: أنا!! أنا أصيد الوعول والجواميس البرية, ببندقيتي, وينفجر الدم, وأضع رجلي اليمني فوق وعل ينفق... أنا أقتل؟!
استوقفته قائلا: صيد... صيد سمك, سمك دون بنادق ولا دم, رحلة صيد سمك ليس إلا.
ابتسم وأشعل سيجارة ورفع الولاعة في وجهي وأكد أنه يرفض صيد الحيتان, ولا يفضل صيد القروش, ويهوي صيد السردين, ثم أخذ يكح, ناولته كوب ماء بسرعة, ثم قلت: سنصيد البلطي والقراميط يا عزيزي, فقط لا غير, هي نزهة بالأدق عند النهر.
وافق علي أن أتحمل أنا الإعداد.
كانت مشكلة عجوز مثلي أن يجهز الرحلة لعجوز مثله, صيد السمك يحتاج إلي نهر به سمك, وهذا موجود, وأتوبيس ينقلنا من قلب المحلة لأطرافها, وهذا موجود, ولكن البوص والشص والغمازة والعياشة والطعم من أين؟
دخلت المنشية القديمة تاركا خلفي البنك والسوبر ماركت ودكاكين باعة الذهب, توغلت في زقاق ضيق طويل سينحني حتما, ومرغما أدلف لزقاق أكثر ضيقا به مقهي صغير يسد الزقاق بالكراسي والزبائن والترابيزات النحاسية المدورة.
أنا الآن أمام المقهي تماما قهوة عبد ربه مكتوبة بخط جميل أزرق علي حائط مطلي بالجير الأبيض. الوصف بالضبط, قال لي الواصف بعد المقهي ستجد دكانا عرضه متر وعمقه متران عليه يافطة سوداء مكتوب عليها صياد المحبة.. لصاحبه نجيب الدكان تنزل له بدرجتين أسمنتيتين لتصبح أمام رف خشب من الحائط للحائط عرضه خمسون سنتيمترا, ويقطعه في الربع الأخير فتحة يمرق منها شخص واحد نحيل, يغطي الفتحة ضلفة خشب بمفصلتين صغيرتين, في الخلف يجلس عم نجيب شخصيا, في حجم صبي صغير نحيل, رأسه أصلع وعلي الجانبين شعر أبيض لون القطن الطبي, ونظارته السميكة تكاد تقع من فوق أنفه الدقيق, حيث يجلس عم نجيب يقابله في الخارج كرسي خشب بقاعدة خشبية مدورة, وليس للكرسي مسند, أشار بدون أن ينظر لي أن أجلس, فجلست, جالت عيناي في الدكان رأيت عددا من البوص مائلة علي الجدار, وعددا من الرفوف الخالية تماما فقدت لونها, ورفا صغيرا فوقه كتاب ضخم قديم, وفوق الكتاب مصباح جاز نمرة10, وعلي الجدار صورة من مجلة قديمة لنجيب الريحاني في إطار فخم من الخشب كان مذهبا, والريحاني في عينيه دموع محبوسة, وعلي وجهه ابتسامه مكسورة, خمنت أن الصورة من فيلم غزل البنات عم نجيب بص في عيني, انشغل بلف سيجارته, ثم سمعته يتمتم: نعم؟!.
تلعثمت بلا سبب, أزاح فنجان القهوة بيد مرتعشة, وقال:
هذا الدكان كان له شنة ورنة, كنت زمان تصعد إليه بثلاث درجات, لأنني كنت حريصا بالطبع علي أن يكون الدكان مرتفعا عن مياه المطر, والوحل, والمياه المدلوقة من جيراننا, وعفرتة العيال, وزقاقنا هذا لم تدخله المجاري إلا من عدة سنوات, ودخله الغاز, وأيضا دخلته أسلاك التليفونات, وكلما حفروا... ردموا, وكلما ردموا ارتفعت الأرض وهبط الدكان, كما تري يا سيدي... نعم؟! هالني بياض أسنانه, ولما أدركت أنها طقم أسنان, ابتسمت, فقال وهو يهز رأسه باستمتاع:
أنا الوحيد في المحلة الكبيرة الذي يبيع أدوات الصيد, عندما فشلت في التعليم الأولي بمدرسة جلال الدين التي كانت في التربيعة, رفضت كل محاولات أبي أن أشتغل في البلدية, أو بوابا, أو عامل شركة كنت أريد أن أشتغل ما لم يشتغله أحد في المحلة, ويئست, وذهبت لأرمي نفسي في النهر, وقفت أمام النهر الذي كان يقطع المحلة بالطول وخلفي سينما الوطنية والأفيش الكبير يتزين برسم ساذج لحسين صدقي وليلي مراد, وما ان رميت نفسي في النهر حتي قفز خلفي ثلاثة شبان غطسوا وقبوا وأنقذوني وضربوني علقة ساخنة, جلست بجوار شجرة بونسيانا علي الشط أرتعد بردا وخوفا وألما, ثم سري الدفء في بدني, بعد قليل جاء علي رأسه قبعة ويلبس جاكيت كاكي فوق جلباب زيتي, ووضع مخلاة صغيرة وجلس بجواري, وكان معه البوصة, طرح شصها في النهر, وظل شاردا حتي ظننته نام, لحظتها فكرت من أين اشتري أدوات الصيد, إنه يدبرها من عدة أماكن, البوص من سوق الجمعة, والشص من دكان في العباسي, والخيط من قاعة نول, والحقيبة القماش الصغيرة, ربما صنعتها زوجته أو أخته والطعم من أي غيط, فكرت طويلا ولماذا لا أكون أنا كل هذا ثم أخذت في العطس, لما مات عمي وترك دكانه لزوجته, أجرت الدكان من زوجة عمي التي ظلت تدعو لي بالخير والتوفيق حتي ماتت, كنت لا أفتح الدكان في الصبح إلا بعد أن اشتري لها الفول بالطحينة والزيت الحار بخمسة مليمات, وأرجع أفتح الدكان, حلمت أن يكون للدكان يافطة وعليها اسمي, احترت ماذا أسميه؟ لم أعثر علي اسم مناسب, فخرجت بسنارتي إلي كل أفرع النهر في المحلة, حتي عثرت علي اسمه: صياد المحبة.
وضعت كوب الشاي الذي طلبه لي من مقهي عبد ربه دون أن يسألني, خلع نظارته ولمعها في ذيل قميصه الأبيض الناصع, وسألني للمرة العاشرة نعم...؟! وأكمل بدون أن أجيب: امتلأ الدكان بكل أدوات الصيد حتي الطعم الدود المستخدم لخداع السمك, كنت أنزل الغيطان وأحفر واستخرجه واجمعه في علبه صفيح كبيرة مملوءة بالطين الرطب, وكان عندي أكثر من صفيحة والدود يتوالد, لم ينقص الدكان سوي السمك... ها ها ها نعم؟!
أومأت برأسي أشكره علي الشاي, رد:
هنيئا.. وردموا النهر والترع والفروع, ارتفع الشارع وهبط الدكان, لم أعد أستطيع الاستماع للراديو بسبب تليفزيون المقهي وصراخ البيوت المجاورة, والعيال المتكدسين في الزقاق بصياحهم وألعابهم, زمان كان كبار الصيادين يقفون أمامي بالطوابير, لم أتزوج, أحببت عايدة وكنا نتقابل وندخل سينما الشركة الصيفي, وذهبنا في عيد للمنصورة, ولكن في العيد الثاني تزوجت عايدة من موظف محترم يشتغل في مدرسة محب بعد موت أبي وأمي أخذتني الحياة في دوامتها, أفتح الدكان الصبح وأسهر طول الليل أسمع الراديو, هذا كان رف الراديو في الليل استمع لأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم, وأتابع برنامج من الحياة وأبكي لمآسي الناس, وقبل غلق باب الدكان أشد الكرسي الخشب وأقف فوقه لأطول الراديو وأشد الفيشة وأطبطب عليه وأمشي, والآن, كما تري ليس سوي بعض أعواد البوص, ولكنك ستجد عندي كل شيء فقط أخبرني إلي أي نهر ستذهب؟ ورحلة صيدك للتسلية, أم التفكير, أم لسد الجوع؟ قل لي.
جار النبي الحلو: صدرت له عدة مجموعات قصصية هي الصفيح والوردة والحديقة في الشمس وطعم القرنفل والعديد من الروايات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى