محمد جبريل - درس من نجيب محفوظ

أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية: المونتاج والتبئير. والزاوية القريبة. والمزج. والقطع. والتناوب. والاسترجاع. وحذف علامات الترقيم. والاستغناء عن أدوات الوصل. وتبادلت الرواية والسينما بعامة التأثر والتأثير. وثمة الاعترافات المصاغة في شكل روائي. والسير الذاتية للمبدعين. والمشكلات والقضايا الأخري التي تنسب إلي الرواية بالشكل وحده. وثمة القصة المقال. والقصة السرد. والقصة اللوحة. والقصة الرسالة. والقصة الخاطرة. والقصة الرحلة. إلخ. وثمة تعاظم دور الملتلقي بديلاً لسلبية القراءة. وتداخل السرد بالمونولوج الداخلي. والمزج بين الواقع والخيال. والحسية والأسطورية. وأنسنة الحيوان والأشياء. طرأ علي نظرية القصة عموماً ما بدل من النظرة الثابتة إليها. كالشكلانية والبنيوية والتكوينية واللسانية وغيرها. لذلك فإني أجد في ما بعد الحداثة ما يحمله التراث العربي. فأنسب إلي القصة والرواية ما تناثر في كتب العرب من الخرافة. والتاريخ. والسيرة. والحكاية. والخطابة. والتهذيب. والشعبية. والخبر. والطرفة. والملحة. والرحلة. والحلم. وغيرها من فنون السرد العربي.
"ثمن زوجة" قصة لنجيب محفوظ. نشرها ضمن مجموعته همس "الجنون" تتحدث عن الزوج الذي يضبط زوجته في موقف الخائنة. ويدبر حيلة يدفع بها الزوجة إلي الانتحار دون أن يكون هو المتسبب بصورة معلنة. هذه القصة تذكرنا بحكايات العرب ونوادرهم وأخبارهم. القصة لا تستدعي التراث ولا توظفه. لكن ملامح التراث تبدو واضحة بما لا يخفي. أنت تستطيع أن تتعرف إلي حيل الأزواج في كشف خيانات زوجاتهم. في الكثير من حكايات العرب ونوادرهم. ولو أننا بدلنا الأسماء والمسميات. وتحول البيت إلي خيمة. والريال إلي درهم. فستطالعنا حكاية ذكية من تراثنا العربي.
أذكر الحكاية التي جاءت في "وفيات الأعيان" عن حب أم البنين بنت عبدالعزيز بن مروان. وزوجة الخليفة الوليد بن عبدالملك. لوضاح اليمن الشاعر. أخفته ذات يوم في صندوق بعد أن دخل عليها الخليفة فجأة. وفطن الوليد إلي ما حدث. فدعا الخدم وأمرهم بحمل الصندوق إلي شفير بئر. ثم قال له: يا صاحب الصندوق. إنه بلغنا شيء. إن كان حقاً فقد دفناك ودفنا ذكرك إلي آخر الدهر. وإن كان باطلاً فإنما دفنا الخشب. ثم قذف الخدم بالصندوق في البحر. وأهالوا عليه التراب. وسويت الأرض "فما رؤي الوضاح بعد ذلك اليوم. ولا أبصرت أم البنين في وجه الوليد غضباً. حتي فرق الموت بينهما". لقد تعمد كل من الزوج والخليفة ألا يشير إلي ذلك الكابوس بعد انقضائه بتلميح أو تصريح. ولا ذكره بخير أو شر. ولا أجري بسببه تحقيقاً. ولا أثار عنه سؤالاً. وطالع الزوجة بوجه هادئ كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون. استعان حمدي في "ثمن زوجة" بهدوئه. وخطط للانتقام دون أن يصارح أحدا بما ينوي فعله. وهو ما فعله الخليفة. وكان الريال مساوياً للصندوق الذي اختفي فيه الشاب العشيق. وإن اختلفت النهاية بين القصة والحكاية. فقد قتل العشيق في الحكاية الأدق أنه قبل القتل! أي أنه انتحر. بينما انتحرت الزوجة في القصة. لا تباين في دلالات العملين. وإن اختلفت فنية التناول.
من الصعب أن ندعي غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية. والقصة العربية بل والقصة بعامة في أحدث معطياتها. القول بأن الصياغة العربية تخالف الصياغة التي تضيف إلي فنية القصة. وتمثل فيها بعداً أساسياً.. هذا القول يبدو خافت الصوت إلي حد التلاشي في ضوء التيارات الفنية الأوروبية الحديثة نفسها. كاللاقصة. واللاحكاية. وتوظيف التراث إلخ.
ولعلي أعيد التأكيد علي أن القصة الحديثة لم يعد لها إطار ولا مدي محدد. ثمة قصيدة تسرد قصة. وثمة قصة هي أقرب إلي قصيدة النثر. وبعض المقالات تكتمل فيها مقومات القصة القصيرة. بل إن بعض قصص بورخيس المتفوقة ليست إلا عروض كتب أو مقالات نقدية. وعلي سبيل المثال. فإن إبداعات بورخيس تعاملت مع التراث الإنساني باعتباره تراثه القومي. أعلن أن تراثه هو ثقافة العالم. فلا يظل حبيساً داخل الحدود الضيقة لمدينة بذاتها. ولا لبلد بعينه. ولا لقارة محددة. إبداعات بورخيس تطالعنا بالكثير من الاقتباسات والمقارنات والإشارات. لم يحبس بورخيس قراءاته ولا أفكاره ولا إبداعه. في سجن التراث القومي لبلاده مثلما فعل الأوروبيون. انطلق في كتاباته إلي الآفاق الثقافية الرحبة. استوعب أساطير اسكندنافيا. وسير الشرق العربي. وشعر الأنجلو ساكسون. وفلسفة الألمان. وأدب العصر الذهبي بأسبانيا. وشعر الانجليز. وشعر هوميروس ودانتي. وضفر في أعماله آيات القرآن. وأحاديث الرسول. وليالي ألف ليلة وليلة. والعديد من الطرف والنوادر والحكايات والإشارات الثقافية. مما يزخر به التراث الإبداعي العربي. بالإضافة طبعاً إلي التراث الإبداعي الغربي كنثر ستيفنسون وحكايات الساجا الآيسلندية وغيرها. ثمة تكامل في إبداع بورخيس بين الشعر والقصة القصيرة والمقال.. ذلك كله يصب في بوتقة واحدة. من الصعب أن تميز فيها بين جنس فني وآخر. تداخلت مستويات القص. لم يعد الفضاء الروائي أو القصصي ينتهي بتلك الحدود الحاسمة التي كان يشترطها النقد قبل نشوء الاتجاهات الفنية والنقدية الحديثة. تشابكت المسميات والصفات. واختلطت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى