علي رياض - رسالة الجندي المحاصر إلى أمه

(1)

أمي
البياض يحيطني في الحلم واليقظة، ادع ربك أن يهب لي بعض السواد. لقد شحبت السماء فصارت خرقة من هذه الأرض، وربما فتقت فرقعها بحفنة الثلج التي امتدت كثيرا.
قالوا الأرض دافئة، لكنها تحفظ في قلبها النار عميقا، وعلى وجهها يتجمد الصخر والأشجار والجنود.. النار تأتي، لكنها تمر عبر جلودنا وتذوي سريعا، قال أخي في الثكنة المجاورة، لو يمكن تعبئة الحرارة، وحدّق في ولاعة تهتز في يده، حدق فيها حتى أثقل الثلج على رموشه السوداء جفنيه ونام.
هل تذكرين وشاحي البني؟ غزلتِ صوفه في عامي الدراسي الأول، وقلتِ قبل الحرب خذه معكَ، صنعته كبيرا ليصبح الآن تميمة حظكَ، وطلسم الحفظ، عليه وسم يدي التي تدفئ رقبتكَ وصدركَ، لقد جرح أخي وشددت يا أمي جرحه بالوشاح حين نفد الضماد قبل أن يتجمد الدم في جرحه، لو رأيتِه لكنتِ صنعتي له حساء العدس كل يوم جمعة، لكنه مات وإياه الوشاح.
أمس، كنا نسجل نقاط العدو برمي الكرات، كل كرة تدخل الحفرة نقطة.. انتهت رمياته عند خمس عشرة نقطة وثلاثة شهداء وستة جرحى، كان العدو في أفضل أيامه لكنه لم يصب حفرتي سوى بحفنة ثلج مخلوطة بالتراب، وبضع قطرات دم أصاب بعضها وجهي.
اليوم قالوا لنا أن نترك الحفر ونمضي نحوهم، ثمة طائرات ستفتح لنا الطريق.. قولي لأبي: ابنك الذي عاش ولم يشبهك وصل الكمال بالضد منك، سيخرج من حصار الثلج حين خرجت أنت من حصار النار، لكنه سيشبهك إذا ما جاء قربك، فكلاكما سقط على عتبات حصاره.

(2)
بين شاهدتين متوازيتين يفصل اسمان وبضعة أعوام بينهما، تجلس الأم، كأنها العلم في نصب الشهيد، تقرأ الرسالة على الأب، وتغزل وشاحا صغيرا لحفيدها القادم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى