نجيب محفوظ - ثمن الضعف..

في ذلك الوقت صار البيت من الآثار القديمة التي لا يُؤبه لجمالها بعد أن كان تحفة في القرن الماضي، هيهات أن تروق في نظر الذوق الحديث هذه الحيطان العالية الضخمة التي تُشبه جدران الحصون والقلاع، وهيهات أن تتقبل عينٌ قبولا حسنًا مثل هذا الفِناء الوحشي المتسع، الذي هو أشبه ما يكون بأفنية المقابر. ثم هذه الطاقات الضيقة التي تحاكي الثقوب، وهذه البئر العتيقة التي سدت فوهتها بألواح الخشب بعد أن جرت على أرض الفناء أقدام الأطفال الصغيرة. كل ذلك وغيره جعل الإقامة في البيت عسيرة على من لم يتربَّ فيه ويأنس به من سكان هذه الأحياء القديمة التي وإن أثار منظرُها التأفف في النفوس، إلا أن الذكريات التي تطوف بأنحائها تفعل بالخيال فعل المخدرات، وتحلق به فوق هذه الأجيال المنطوية حينما كانت العمامة لباس الرأس الرسمي، وكان الحمار يحتل مكانة الطيارة والقطار، وحينما كانت تعيش هاتيك النسوة الجميلات المُخَدَّرات مسجونات يعلو حور عيونهن روح سأم وكسل.
بَنَى هذا البيتَ رجلٌ من الغابرين، كان موضع فخره وعماد ثروته لمن بعده، وتوارثه أولاده وأحفاده على مر الزمان، حتى انتهى إلى آخر رب من أرباب هذه الأسرة، نشأ هذا الرجل في صباه نشأة أهل هذه الأحياء البلدية في الزمن القديم، يتشاجر ويمارس الشطارة، حتى إذا صار شابًّا كان من الفتوات المعدودين والمعروفين بين عصابات الدرّاسة والعطوف، ثم كان زوجًا من الأزواج الذين لا تنقضي ليالي زفافهم إلا بموت غريم أو بقتال عنيف لا يسلم منه إلا من كتب الله له العمر الطويل. ودفعه الزواج والزوجة إلى النفور من حياته، وساعد على ذلك أن الشرطة كانت قد كسرت شوكة الفتوات فاشتغل بما كان عنده من مال في تجارة شريفة حفظت حياة أسرته.
وفي ذلك الوقت وقع شيء عجيب لمن كان في سنه، ذلك أنه خلف طفلا كان يكون عزاءه وسلوته لولا أن نزلت به نقمة شديدة، إذ أُصيب بمرض فأمضّه الألم، وضاق صدره بالدنيا، وضاق به من لم يكن يذوق السعادة إلا بوجوده.
نشأ الطفل الصغير ترعاه محبة أم عجوز جمعت له في قلبها عناية كانت توزعها على ستة من الأبناء، كانت تحبه حب العبادة، وتسهر على راحته. وبجانب هذه الأم كان الأب المريض الذي أنساه المرض كل ما عدا نفسه، فلم يجد عنده الطفل عاطفة ما، وإنما ألفاه رجلا صارمًا سريع الغضب كبير الشراسة، لا يحتمل لعبه، ولا يرضى عن تدله، ولا يحقق له رغبة.
وجد الطفل نفسه بين هذين الشخصين المتناقضين، فلم يتردد أن يمنح نفسه لوالدته ويسلم لها قلبه، وتحاشى أباه على قدر طاقته. وكان إذا غاب الأب عن البيت صار هو سيد الجميع، يلعب كيفما يشاء، ويلهو كما يهوى، ويخرب ما يحلو له تخريبه، ويأمر الخادم وغيره فلا يُعصى له أمر، حتى إذا رجع الرجل إلى مأواه انكمش صاحبنا في ركن من أركان البيت، لا يأتي حراكًا ولا يتكلم إلا همسًا حتى يغلبه النوم.
وصار صبيًّا، ونزل إلى الحارة، وتعرف بصبيان كثيرين، وألفاهم جميعًا أشد منه ساعدًا، وأقسى نفسًا، وأجرأ قلبًا، ولم يُجب أحدٌ منهم له مطلبًا، إنما صار هو يُجيب طلباتهم إن كارهًا أو راغبًا، ولم يلبث أن عرف بينهم فتى كانوا يُسمونه “الفتوة” لجسارته وقوته، فتقرب إليه، وتملقه، ورضي أن يشركه معه في مصروفه اليومي عن طيب خاطر، لعطف الآخر عليه، وجعله في حمايته، يدفع عنه شر المعتدين، ويشركه معهم في اللعب، ويوصله إلى بيته إذا خيم الليل. ووجد الصبي سعادةً في ظل حماية صديقه وبطله، فأحبه كثيرًا، وصار طوع يده في كل شيء، ولقي من عطفه ما جعله يتمتع باللعب في كل يوم، فكان يشعل فانوسه في رمضان، ويسير مع الصبيان يردد الأناشيد فلا يخطف الفانوس منه أحد، كما كان يستأجر الحمير والدراجة في الأعياد، ويلهو مطمئنًا من مشاكسة الأطفال وشطارتهم.
ونما قليلا، ودخل المدرسة هو وجُلُّ رفاقه، وهناك لقي المدرّس فاسترعت صورته صورة والده في ذهنه مخافةً من بدء الأمر، وكان لا يأتي حراكًا طوال اليوم كأنه قد جمد أو شُلَّ من الحركة، ولم يكن أشق على نفسه من أن يطلب منه أن يتكلم مطالعًا أو مجيبًا عن سؤال. وعُرف بذلك، فكان إذا قام ليتكلم انتبه إليه الجميع، وتبادلوا الغمز والتضاحك، ويبقى هو ساكنًا مضطربًا لا ينفع فيه إغراء المدرس ولا تكشيرته، وربما يضيق به فيهوي على وجهه بيده ويأمره بالجلوس.
ثم أخذ يشق طريقه إلى الشباب والفتوة، وأخذ قلبه يتفتح ويتنسم حياة أسمى من هذه الحياة أو هي أسمى ما في هذه الحياة. وكانت تُقيم على مقربة من بيته أسرة حلواني فيها بنت صبية حسناء تسمى هنية، كانت تلفت نظره إليها برشاقتها وهي تسير في الحارة تضرب بقبقابها الأرض كأنها توقع نغمًا، فلما ولج باب الشباب زادت معاني الفتاة في نظره، ووجد فيها مواضع للحسن كثيرة كانت خافية، وخفق قلبه بحبها، واحتار هو في أمره ماذا يفعل، لأن كل ما عنده من شجاعة -إن كان عنده شيء منها- لا يستطيع أن يدفعه لشيء إلا للنظر إليها، وهي محولة النظر عنه، فإذا وجّهت عينيها نحوه أسدل أجفانه في حياء كبير، وفر من أمامها. ولكن أعانه على أمره أن الأسرتين كانتا حبيبتين، وكانتا تتزاوران، فكانت تسنح فرص يخلو فيها الفتى بالفتاة، وكانت هي تبذل ما تستطيع لتحرك لسانه بالكلام أو نفسه بالإبانة، ولكن عبثًا، حتى يسر لهما الله الأمر وتكلمت الوالدتان وتكلمت والدة الفتاة ولم ترفض والدة الفتى، لأنها كانت تقرأ صفحة ابنها، وتشفق عليه في حيرته، وفرح هو فرحًا شديدًا، وسعد بحبه وحبيبته، وكان يزيد في فرحه أنه لم يكن يعرف كيف يُمكن التعرف بفتاة، وكان يتصور أن الأمر مستحيل، وقد كان صديقه الفتوة ماهرًا في ذلك كل المهارة، وكان يدعوه إلى مرافقته ساعات عبثه، فكان يرافقه منتبهًا ويرهف أذنيه، ويسدد عينيه إليه وهو يداعب من يداعب من البنات، وكان يحاول أن يفعل مثله، ولكن كان لسانه أضعف من أن يتحرك بكلمة في أمثال هذه المواقف. ودارت الأيام وإن ظل كل شيء كما هو، ظل أبوه كما كان مريضًا لا يُطاق، وظلت أمه تحبه ذلك الحب الشديد الذي يستهين بكل شيء، وبقي هو مرتاحًا بحب أمه وإن قابله ببطر وجحود، سعيدًا بحب هنية سعادة لا يشوبها شيء، وكانت حياته المدرسية بطيئة تزهق النفس، لذلك كان حظًّا كبيرًا أن ينال البكالوريا، وقد تنفس أبوه الصعداء، وقال كفى مدرسة، وعزم على توظيفه كما هو، لأن حياته المدرسية لم تكن تبشر بنجاح، وقد سقط كثيرًا حتى أنه في السنة التي نال فيها البكالوريا كان صديقه القديم “الفتوة” يمتحن امتحانه النهائي في مدرسة البوليس. وأخيرًا وجد نفسه جالسًا أمام مكتب في أحد الدواوين وقد داخله فرح عظيم بذلك، ولم يكن شيء في أخلاقه يهدد حياته كموظف فهو مخواف رعديد لا يجرؤ على مخالفة رئيس أو معاندة زميل، وكان أحب شيء لديه أن يكون بعيدًا عن كل مسئولية خطيرة. بذلك عاش في الديوان سعيدًا مرتاحًا.
حدث في ذلك الوقت أن صديقه الفتوة ترقى ضابطًا، وشاع أمر رجوعه في الحي، فأحدث هزة فرح في قلوب أصدقائه وجيران أهله، وما هي إلا ساعة حتى طلع على منتظري قدومه وهو في البدلة الرسمية مزهوًّا شامخًا، وقليل من يعرف التأثير السحري الذي لهذه البدلة، خصوصًا في مثل هذا الحي، وذهب إلى الضابط مع من ذهب للتهنئة، وقد تحدثا طويلاً في شئون كثيرة كان من بينها الزواج نفسه، وقد ظن صاحبنا أنه يمكر بالضابط حين قال إنه يجدر به إذ نوى أن يتزوج أن يختار زوجة من أسرة راقية جديرة به. حاول بذلك أن يصرفه عن فتاته والطبقة التي ينتمي إليها، ولكن الحوادث لم تترك لقلبه راحة، إذ ذهبت فتاته وأمها إلى أسرة الضابط مهنئتين، والظاهر أن الضابط أعجب بهنية، وكانت قد تغيرت كثيرًا عما كان يراها وهي طفلة، ولاحظ صاحبنا البائس أن صديقه الفتوة يُعنَى بفتاته، وأن فتاته تُعنَى بنفسها زيادة عما قبل، وأحس أنها لم تصبح له كما كانت، فاشتدت آلامه، وانكمش في بيته لا يلقاها ولا يحدثها فيما يقضُّ نومه ويمضُّ نفسه، رضي في المعركة بالانكماش لجبنه وغروره، وتوالت الحوادث سريعة بحيث لا تدع مجالا للتفكير، طلب الضابط يد الفتاة، واعتذر أهلها لارتباطهم بوعد مع أسرة صاحبنا، ولم يمضِ على ذلك أيام حتى كانت هنية هاربة مع الضابط، حيث تزوجها بالرغم من الجميع، وأُثير في الجو غبار كثيف، ودوّى في الآذان لغط كثير، ثم هدأ كل شيء إلا قلبه، وكان العزاء عزيزًا عليه، لأنه علم أنه لا يمكن أن يعرف بعد الآن فتاة، وأنه فقد شبابه. وأتمت الحوادث مفاجآتها الغريبة فلم يمض شهران حتى اختلف الضابط والفتاة، وتنغّصت سعادتهما، وانتهى الأمر بينهما، وعادت هنية إلى بيت أبيها، وكان هو يتتبع الأخبار باهتمام شديد. والحقُّ أنه لما علم بأن الشقاء حل ببيت فتاته أحس بانتعاش في نفسه المجروحة، وكان قلبه ما زال يتذكرها ويحبها بدليل أنه كان شديد السخط عليها.
وسارت الأيام، وما عاد أحد يلوك القصة المؤلمة، وصلح الأمر بين الأسرتين، وقابل فتاته كما كان يقابلها، وكان منها عطف، وكان منه حرص وحذر، ثم حدث أنه وصل إليه أمر بالنقل إلى أحد بلدان الريف. هنا جُنَّت الأم الحنون، واحتارت في أمرها، وفكرت، وكانت تُحس بما يجيش به صدره، في أن تزوّجه من هنية حتى تؤنس وحدته في غربته، واستشارته في الأمر، وفكر هو أن هنية تُسرُّ بزواجه منها وهو يحبها حبًّا جمًّا، ولكنه مع ذلك يجفل من فكرة الزواج منها! ما الذي يخيفه منها؟! نعم ألم تكن زوجًا لصديقه الفتوة الذي كان يعده بطلا ويثق به ثقة عمياء؟ ألم تنعم بالسعادة في أحضانه، كل ذلك واقع، وقد خيل إليه أنه من المحال على الفتاة أن تتزوج من مثل صديقه ثم تنساه، فهي لا بد أنها تحبه كما كانت وهي زوج له، فهل يستطيع هو أن يُنسيها إياه؟ كلا وألف كلا! وإذن فلا بد أن تسخر منه وتبكي حياتها الماضية، وهو يحتمل كل عذاب إلا هذا، وعلى ذلك طرد فكرة الزواج من خياله، وقال خير لي أن تظن أنها فقدت فيَّ شيئًا ما ولا تسخر مني وتكرهني. وعليه بلغ أهبته لكي يضع لتوسلاتها حدًّا، وأعد عدته تأهبًا للرحيل.




نجيب محفوظ.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى