رءوف جنيدي - فاطمة.. قصة قصيرة

فى قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، ما كفر أهلها يومًا بأنعم الله عليهم، كانت تعيش فاطمة بين أهل هذه القرية، زوجة لموظف بسيط، يدعى حسين أو ( سى حسين ) - كما كانت تناديه دائمًا - يعمل بالسكة الحديد، فى مبنى مجاور لمحطة قطار البلدة ( عامل تحويلة ) .

قضت فاطمة أولى أيام زواجها ترفل فى بستان زوجها كفراشة رقيقة زاهية الألوان .. تحط كل حين فى دلال وجمال .. متنقلة بين زهرات عمره وأغصان شبابه .. تستقى منه رحيق الأنوثة، وتقتات على حبات الود وخصوبة الوجدان .. تتقافز فاطمة كقطة مدللة فوق أكتاف رجولته، وتتخفى كل حين بين طيات حبه وحنانه، لتفاجئه من وقت لآخر بإطلالة جديدة ، وكأنها مراحل اكتمال البدر فى عينى حسين، فقد كانت فى كل مرة تجالس جوارحها، لترسل هدهد المشاعر طوافًا حول الحبيب، ليرقبه عن كثب، ثم يأتى من عنده بنبأ يقين، وسرعان ما تكون فاطمة فى أحسن صورة ماشاء ركبها خياله .

يقع بيت حسين وفاطمة على مقربة من مكان عمله قرب المسافة بين قلبيهما .. تلك المسافة التى كثيرًا ما كانت تقطعها فاطمة عبر طريق زراعى يمر بين الترعة، التى كانت تروى حقول القرية وقلوب اهلها، وبين شريط القطار إلى حيث يعمل حبيب القلب .. حاملة بين جنبيها قلبًا يقطر له عشقًا، وفوق رأسها طعام غدائه .. يوم تحول توقيتات عمله دون ذهابه إلى البيت، تقطع فاطمة هذا الطريق، وقد خبأت ثمار عودها الغض داخل ملاءتها السوداء، لتلوح كل حين منها قطع بيض كأمثال اللؤلؤ المكنون، وكأن الليل قد تكور على النهار، لا ليخفيه وإنما ليزيده حسنًا على حسن، فلا يظهر حسن الضد إلا الضد، وما كان على البدر إلا أن يتم نوره على المارة، فمع كل هبة نسيم يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الحسن والدلال، ولكن سرعان ما كانت تخفيها فاطمة طى ملاءتها، فما أينعت الثمار إلا لساكن الروح، القابع فى غرفته عند نهاية الطريق .

تتهادى فاطمة بما تحمله على عودها، وفوق رأسها، كغصن تداعبه نسمات العشق والهيام يمنةً ويسرةً .. يتقافز القلب فرحًا بين ضلوعها، وتتقافز من حولها فى شقاوة طفولية مشاعرها وجوارحها كأطفال اصطحبتهم أمهم إلى واحة اللهو والمرح .. يرتطم البعض منها بساقيها فتفسحها جانبًا مبتسمة على استحياء من فرط شقاوتهم ولهفتهم، وما أن يلوح أمامها فى الطريق من يعرفها أو تعرفه من أهل القرية حتى تسارع بإخفائهم طى ثيابها، كى لا يفتضح أمر الهوى وأحكامه .. تشاركها الطيور سعادتها فى كورال كونى، وتتمايل الأغصان رقصًا على دقات قلبها .. فها هى الماء والخضرة ووجهها الحسن .... ولم لا ؟! وهو الزوج الوفى المخلص .. القوام عليها، وعلى بيتها حق القوامة، الذى تباهى به كل نساء القرية، فهو الأب والأخ والابن، وكانت له الأم والأخت والابنة، وما خفى كان أجمل .. عاش الزوجان روحًا فى جسدين، يكمل كل منهما الآخر، فما كان ينبض قلب فاطمة إلا ليضخ الدماء فى شرايين حسين، وما كان حسين يأخذ شهيقًا إلا لتخرج عنه فاطمة .. الزفير .

تعود فاطمة بعد أن أطعمت زوجها طعام الروح، وأسقته الحنان سقياً فراتًا .. شاكرة ربها على زيجة كلها المودة والرحمة، فقد سكنت إليه بعد أن اجلسها ملكةً متوجة على عرش قلبه، وسكن إليها بعد أن ارتقت به إلى سدرة منتهاها ودًا وإخلاصًا .. تلك الزيجة التى بنيت على سنة الله ورسوله، لتثمر عن ولدين، كانا هما الأمل لوالديهما .. راح الوالدان يكرسان كل ما يملكان من جهد ومال لولديهما، فكان حسين يواصل العمل مزارعًا فى قطعة أرض صغيرة، ورثها عن أبيه، لعلها تكمل كل حين نصاب احتياجاتهم، إلى جانب بعض جنيهات قليلات، يتقاضاها عند حافة كل شهر، قبل أن يسقط فى فراغ العوز والحاجة، وكانت فاطمة ربة منزل ماهرة مدبرة، ماادخرت هى الأخرى جهدًا ولا وقتًا فى أن تعد بعض منتجات بيت ريفى لتبيعها لأهل المدينة، الذين كانوا ينتظرونها فى شغفٍ ولهفة، لتكمل فاطمة مع زوجها متطلبات بيت يأكل ويشرب، وينفق على طالبين فى مراحل تعليم تئن بحملها الكواهل .. صار بيت حسين محط إعجاب أهل القرية .. يتناقلون سيرته بينهم بكل احترام وتقدير : أب دءوب، وأم متفانية، وأبناء متفوقون، فقد وهب الله لفاطمة من زوجها وذريتها قرة عين لها .

دارت عجلة الأيام رفيقةً حانية على فاطمة وأسرتها .. يدور الأب فى فلكه بين وظيفته وعمله فى الحقل، وتزيد فاطمة من أنشطتها المنزلية، ليسعى الوالدان بكل جد واجتهاد للدفع بولديهما نحو التفوق، وكان لهما من الله ماأرادا، فقد التحق الابن الأكبر بكلية الطب، ليتبعه شقيقه بعد عامين إلى كلية الهندسة، ويزداد الأب زهوًا وفخرًا بولديه، ويزداد حبه وإجلاله لفاطمة، التى لولاها ماكاد يطاول برأسه صفحة السماء فخرًا وتيهًا .

تمر السنون، ويتخرج الأبناء فى كلياتهم بتفوقهم المعهود، وبتقديراتهم المشرفة، ليتلقفهم سوق العمل، ولتكتمل سعادة الأبوين بعد سعيهما الحلال بطبيب ومهندس صارا ملء السمع والبصر، ولكن كثيرًا ما تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، فبمرور الأيام شعرت فاطمة بأن علامات الأعياء والإجهاد بدأت تزحف على وجه حسين .. لم يعد بنشاطه المعهود كما كان .. باتت حركاته متثاقلة، فبالكاد كان يؤدى عمله الحكومى، ولم تعد تسعفه صحته للعمل فى الحقل .. قلقت فاطمة، وزاد من قلقها نوبات دوار كانت تصيب حسين على فترات متباعدة، وكانت بفطرتها وعفويتها تعد له فى كل مرة كوبًا من الشاى بعصير الليمون .. يتعافى من بعده حسين، ويفيق من دواره .. أسابيع قليلة تمر، وذات يوم، يعود حسين من عمله فى غير موعده .. يصطحبه أحد رفاقه فى العمل حتى باب بيته، ليدخل حسين على فاطمة شاحب الوجه .. غائر العينين .. فابتسمت فى وجهه ابتسامة تخفى خلفها صدمة القلب، وتقول له فى دلالٍ مصطنع، لتطرد من مخيلتها شبح الموت، الذى بات يطل برأسه على البيت : "إنت لازم وحشتك كوباية الشاى باللمون بتاعتى" .. لم يرد حسين، واستند إلى كتفها، حتى استلقى فى فراشه ، وذهبت لتعد له كوب الشاى، إلا أن القدر لم يمهلها هذه المرة، فتسمع حشرجة عالية، تتعثر بعدها وهى تجرى إلى حسين في غرفته، ولكن كل نفس ذائقة الموت .

رحل حسين، وسقطت شمس فاطمة من عليائها مرتطمة بالأرض، وأظلمت الدنيا، وصار صوت الطيور فى أذنيها، وكأنه نحيب الثكالى ! وبات تمايل أغصان الشجر فى عيونها ترنحات الحيارى من بعد هدى .. غاب السند والصاحب .. غاب الأهل والعشيرة .. توقفت حركة الحياة .. مادت الأرض من تحت قدميها .. تلاطمها صفعات الزمن وحيدة الوجدان .. وحيدة الفراش .. تبيت فاطمة ليلها حائرة، تحدث نفسها : "هل مات حسين حقًا ؟!" تكذب فى موته كل يقين .. تكذب أذنيها فى عويل الأهل ونحيبهم يوم وفاته .. تكذب عينيها فى مشهده الجنائزى محمولًا فوق الأعناق إلى مثواه الأخير .. تتحسس الفراش ليلًا بكفها خلسة علها تجده بجوارها .. تمرر يديها برفق إلى مكانه، علها تشعر بدفء وجوده .. تسترق السمع علها تسمع أنفاسه .. ولكنها الحقيقة المؤكدة التى ترفضها من هول الصدمة .. مات نصف الفراش .. مات نصف الوسادة .. بات مكانه باردًا بروده أجساد الموتى، وباتت أنفاسه فى عداد المفقودين .. خيم على البيت صمت قاتل دويه .. عالٍ ضجيجه .. يصم الآذان، وكأنه نفخة فى الصور صعق لها كل من فى بيت حسين ، لتهب فاطمة من نومها مذعورة .. جالسة فى فراشها .. تضع يدها على خدها حسرة وحيرة .. بعد أن أقض مضجعها، واستعبدها سؤال ما وجدت له يومًا إجابة : " حسين : هو مين فينا اللى مات ؟!!".

تدور رحى الأيام على فاطمة خشنةً جافة .. تسحق بين فكيها أطلال حسن ودلال .. كان يومًا عنوانًا للقرية، وهوية لمن لا يعرفها .. بعد أن جف عودها، وذبلت زهورها، ونضبت ثمارها، وتشققت أرضها عطشًا، وتساقطت أوراقها فى خريف قاسٍ، جاءها مسرعًا قبل موعده، فقد رحل عنها الزوج، وتزوج الأبناء، وبيعت لزواجهما قطعة الأرض التى تركها حسين، والتى كان عائدها يكمل نصاب نفقاتهم، واكتفت فاطمة ببعض جنيهات قليلات تسد رمقها .. كانت تتقاضاها معاشًا شهريًّا فى مطلع كل شهر .. لم تعد فاطمة فى حاجة لبيع منتجات الريف فى الحضر، فلم تعد قادرة على هذا العمل صحيًّا، ولم يعد لها من المتطلبات ما يدفعها لذلك، بل عكفت فاطمة فى بيتها .. محاولةً التأقلم مع وحشة فراغه، وصمت جدرانه .. بدأ نسوة القرية التقرب منها، والتودد إليها استئناسا لحديثها، وشغلًا لوحدتها القاتلة، فقد غاب الولدان الطبيب والمهندس، بعد زواجهما من فتيات الحضر، وأقاما فى القاهرة .. انشغل الطبيب فى عيادته، وكثرة سفرياته للخارج، وانخرط المهندس فى إحدى شركات المقاولات العاملة فى الصحراء .. تاه الأبناء، وابتلعتهما دوامة الحياة، وصم آذانهما تأفف زوجتيهما من زيارة الريف، أو المبيت عند الأم .

وجدت فاطمة ضالتها فى مجالسة نساء القرية وفتياتها، اللاتى تعلقن بها تعليقًا شديدًا لما وجدنه عندها من رجاحة عقل، وحسن تصريف للأمور، حتى باتت السيدة فاطمة مرجعًا لكل سائلة، ودليلًا لكل حائرة، فكانت فاطمة تنهى أعمالها المنزلية نهارًا لتستعد لاستقبال ضيفاتها، فتبدأ معهن مراسم جلسات سمر ليلية، يتبادلن فيها أطراف الحديث، وتعرض أيٌّ منهن مشكلة أو خطبًا ألم بها، أو بأحد أفراد أسرتها، علها تجد لدى فاطمة الرأى الصواب أوالحل الأمثل .. تجالس سيدات القرية وفتياتها فاطمة كل ليلة، حتى ساعات متأخرة من الليل، ثم ينصرفن عند النوم، لتخلد فاطمة إلى فراشها وحيدة .. تتفرسها الوحشة، لتمتص ما بقى من نضارتها، وتطوى مابقى لها من أمل .. بعد غياب الأبناء، وانشغالهم عنها فى ظروف ما أحوجها إليهم فيها .. متسائلة : "ألهذا الحد شغلتكم أعمالكم ؟! .. ألهذا الحد ألهتكم الحياة ؟! .. ألهذا الحد أنستكم زوجاتكم أن لكم أمًّا تنتظر زيارتكم ؟!، حتى يغالبها النعاس، فتستسلم له صاغرة، بعد أن أعياها تقدم العمر، وأسكتتها قلة الحيلة فى أن تُسائل الأيام، أو تحاجج الغائب .

بدأت خطوات الزمن تزحف بلا رفق على وجه فاطمة .. تاركةً من خلفها تجاعيد، وتشققات، وأخاديد تجرى فيها قطرات الحزن .. لتسقط على أرضها الجدبى .. تغلى فى جوفها كغلى الحميم .. لافحةً كل قلب لم يرق لحالها ،ولتنساب ليلًا على وسادتها الخالية، كوخزات ضمير فى جسد حسين، الذي رحل تؤزه أزًّا .. أما كان له أن يتريث ؟!

مرضت فاطمة، ولازمت فراشها، بعد غياب ولديها .. تلك القشة التى قصمت ظهرها، وأحنت قامتها وأرقدتها جسدًا هزيلًا يصارع المرض، لتبدأ رحلة العلاج برعاية رجال القرية، وتحت إشراف نسائها، حتى أن النساء حددن فيما بينهن ( عواطف ) تلك الزوجة الشابة طيبة القلب، والمشهود لها بالرحمة والرأفة فى رعاية كبيرات السن، لتقوم على رعاية فاطمة فى كل أمورها .. تردد الأطباء كثيرًا على بيت فاطمة، ولكن دون جدوى .. تزداد الحالة سوءًا يومًا بعد يوم .. أصاب فاطمة هزال شديد، بعد امتناعها عن تناول الطعام، فشحب الوجه، وذبلت معالمه، وراحت عافية الجسد .. ازدادت مرات تردد النسوة على بيت فاطمة، ولأوقات أطول .. قلق بعضهن مما طرأ على وجه فاطمة من علامات تنذر بشؤم .. بدأ البعض يهمس فى أذن البعض بأن الحالة متأخرة .. الأمر الذى اضطرهن لاستدعاء الحاجة ( أم النصر ) .. تلك السيدة العجوز التى تجالس من أوشك على مغادرة الدنيا من سيدات القرية ، إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا .

جاءت أم النصر، وصعدت إلى جوار فاطمة فى فراشها، لتسند رأس فاطمة إلى صدرها، وتتمتم بكلمات غير مفهومة .. ممررة يدها فوق صدر فاطمة، التى أسدلت جفنيها ايذانًا بالرحيل، واثاقلت ذراعاها إيذانًا بالسكون، وتباطأت ضربات قلبها إيذانًا بالتوقف .. اتشحت وجوه النساء بالحزن، وأجسادهن بالظلمة .. تناثرت النساء فى أركان الغرفة كأكوام معتمة، وكأنهن غرابيب سود فى مشهد جنائزى، بدأ قبل موعده .. تفتح فاطمة عينيها بالكاد، لتشير إلى عواطف أن تقترب منها، لتهمس فى أذنها أن تعد لها كوبًا من الشاى بعصير الليمون .. اقتداءً بما كان يتعافى عليه حبيب القلب الذى رحل، وتأتى عواطف بكوب الشاى، فتشربه فاطمة، ليغالبها النعاس على صدر أم النصر، وتستأذن عواطف السيدات لإطعام زوجها وأطفالها .

يعود صبحى من القاهرة .. ذلك الشاب الذى أرسله عمدة القرية، بعد أن كلفه بالسفر، والبحث عن ابنائها وإبلاغهم بضرورة الحضور، إلا أنه عاد خالى الوفاض، بعد أن أبلغه العاملون فى العيادة بأن الدكتور فى مؤتمر علمى خارج البلاد، ولم يستدل على عنوان المهندس، الذى ابتلعته شركة المقاولات فى جوف الصحراء .. تسابق عواطف الوقت لإطعام أطفالها، والعودة لفاطمة .. وفجأة تتسمر قدما عواطف فى بهو بيتها، بعد أن سمعت طرقًا خفيفًا على ميكروفون المسجد، فى غير وقت الصلاة، إيذانًا بأن خبرًا سيعلن .. فتحت عينيها .. وضعت يدها على فمها، وكأنها تسكت من خلف الميكروفون ألا ينطق، ولكن الميكروفون ينطق زاعقًا ناعقًا، وبصوت يملؤه الأسى والحزن : " البقاء لله وحده .. توفيت إلى رحمة الله تعالى .. الشهامة والنخوة وبر الوالدين .. وتعافت السيدة فاطمة على يد سيدات القرية، لتبدأ رحلة أخرى من العطاء، ولو قصيرة الأجل، لولديها فلذتى كبدها .. إذ تعلم من أحاديث رسول الله أنه ( خاب وخسر .. من أدرك والديه عند الكبر، أو أحدهما، ولم يدخلاه الجنة ) .. فأبت فاطمة حتى الرمق الأخير من حياتها إلا أن تدخل ولديها الجنة .. بعد أن أخبرها قلبها .. بأنهما حتمًا سيعودان !"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى