محمود تيمور - صديقي بِشْر..

تلقيت يوماً دعوة من إحدى الهيئات العلمية، ولا أدري متى جرى ذلك على وجه التحقيق. وكانت الدعوة لسماع محاضرة لغوية لبحّاثة معروف، سمعت به؛ ولكني لم أره بعد.

فذهبت، وقد تخليتُ لهذا المحاضر صورة تتفق مع موضوع محاضرته. . . رجلاً أشرف على الخمسين، بشارب مهدَّل، وعينين مجهودتين، وصوت متآكل. فما كدت أستقر في مكاني من القاعة وأرفع بصري إلى المحاضر، وقد اعتلى منصة الخطابة، وبدأ يلقي محاضرته، حتى طالعَتْني صورة أدهشتْني جد الدهشة. رأيتُني أمام فتى كله شباب وحيوية، بعينين تلمعان ذكاءً؛ له وجه صبيح، بشارب طرير مشذًب على الطريقة الفرنسية، وقوام إغريقيّ يذكِّرنا بتماثيل (براكسيتيل)!

فتشككت في الأمر؛ وحسبت أنه قد جد تغيير في المحاضرة والمحاضر، وانحنيت على زميل بجواري أتبين منه حقيقة الحال. فأكد لي أن المتكلم هو الدكتور بشر فارس نفسه!

ورحت أستمع، فإذا بالمحاضر يلقي بحثه بصوت جيل النبرات، في لهجة فصيحة، تتوضح فيها دقة في الأداء، وحسن اختيار لمواقف الجمل، وحرص على سلامة مخارج الحروف. كل ذلك في اتساق وانسجام كاتساق النغمات وانسجامها في اللحن الفني البارع!

واتسعت مسالك البحث وتشعبت، بيد أن المحاضر كان قابضاً على زمام موضوعه قبضة جبار، يديره في حنكة، إدارة الربان الماهر لباخرته وسط العباب الصاخب. . . حتى انتهي به أخيراً إلى شاطئ السلام!

منذ ذلك اليوم عرفت الدكتور بشر، وما أسرع أن توثقت صلاتي به!. . فتجلت لي فيه شخصية أخرى غير شخصية ذلك العالم المتحقق - تلك شخصية الصديق الودود المرح. فالابتسامة اللطيفة التي طالما انقلبت إلى ضحكة عابثة لا تفارق ثغره، والنكتة المصرية اللبقة تظل محلقة في سماء مجلسه. وقد يمضي في حديثه الطريف، فلا يكاد يروي لك أخباره عن باريس، ما شاهده في دور العلم بها، ما لقيه في مغاني عبثها ولهوها، حتى ينتقل بك إلى قهوة (الفيشاوي)، ومطعم (الحلوجي)، فيحدثك عن الشاي الأخضر، وصحا (الطعمية) الفاخرة تحيط بها أصناف المشهيات. . . ومن ثمَّ يختفي أمامك العالم الجهبذ، ليحل مكانه (ابن البلد) الوجيه العريق في المصرية، فلا يعوزه إلا (اللائة) يديرها على رأسه، فينطلق في مسارح (سيدنا الحسين) يلوح في يمينه بعصا الفتُوَّة!!

والحق أن جلسة واحدة مع الدكتور بشر تريح الأعصاب، وتملأ القلب من إيناس، وتحوّل نظر المرء إلى ناحية الرفّافة الجميلة في الحياة. . .

صاحَبَنَا الدكتور بشر وقتاً، ثم طلبناه حيناً فلم يجده، فكأنه (فص ملح وداب) كما يقولون. . ثم عاد إلى الظهور، ولكن في فترات متقطعة نادرة. كنا نراه اتفاقاً في الطريق مهرولاً لا يقر له قرار، وهو محاط بشرذمة من النجارين والحدادين والطلاَّئين. فإذا ما استوقفناه، فسألناه عن سبب غيبته، أشار إلى مرافقيه، وقال وهو يتأفف في لهفة المكدود: ألا ترون أني مشغول؟! ويتابع سيره في عجلة واهتمام، وقد اشتبك مع صُنَّاعة في مناقشة حادة. . . فلا نشك لحظة في أنه ودَّع العلم والأدب والتحق بزمرة المقاولين!

وبينما كنا في مجلس نذكر صديقنا بِشراً بالخير، ونأسف لتوديعه الأدب؛ إذا به يفاجئنا بدعوة ظريفة إلى مسكنه الجديد في (جاردن ستي). فقمنا من ساعتنا إليه، فوجدنا أنفسنا في متحف فنيّ، كل ما فيه يشف عن ذوق سليم غاية في السموّ

وجعل صاحب الدار يمر بنا في مقاصير المسكن وقاعاته المنشأة على أحسن طراز، ويقف بنا أمام تحفه واحدة بعد أخرى، وهو يشرح لنا تاريخها وقيمتها شرح خبير. فهنا صورة طريفة محلاَّة بإمضاء فنان، وهنالك صحفة من الفن الصيني الثمين يرجع تاريخ صُنعها إلى عهود غابرة، ترى بجوارها مقعداً لطيفاً على شكل رَحْل من رحال الجِمال. . . وفي ركن من أركان الغرفة يقوم ذلك الرفّ الساذج البديع، يحتضن (تاييس) و (مدام بوفاري) و (أفروديت) وهن في أثوابهن الغالية الفاتنة!

ففطنا بعد لأي إلى سرِّ غيبة صديقنا، وطفقا نطوف معه ذلك (المزار) المبتكر. . . حيث يعبق في جوه عطر الفن، وتشمله روح الجمال!

طابَع الفن والجمال يسم. حياة الدكتور بشر بأكملها، يسم شخصه ومسكنه وتأليفه وكل أسباب عيشه. فإذا ما قرأت له مقالاً رأيته ألبس الفكرة العميقة والرأي الناضج ألفاظاً ينتقيها في حكمة، وينسقها في صبر وجلد، ثم ينضدها تنضيد العقد على صدر الحسناء! فإذا لقيت شخصه، ألفيت أمامك شاباً أنيقاً يحسن كيف يلائم بين لون رباط الرقبة والقميص والحُلَّة، ليخرج منها صورة فنية طريفة. . .

ولصديق بشر شخصيتان: شخصية الأديب، وشخصية العالم، تتنازعانه على الدوام. . . ولا ندري آيتهما يقدر لها الفوز على الأخرى؟ فقد أصدر في العام الماضي مسرحيَّته الرمزية: (مفرق الطريق)، فتلألأت نجماً جديداً في سماء الأدب الرفيع.

وظهر له منذ أيام كتابه: (مباحث عربية)، فإذا هو سفر قد لا نغالي إذا قلنا إنه في طليعة الآثار العلميّة التي تمخض عنها العصر الحديث، من حيث دقة البحث، واستيعاب الموضوع، وحسن الصياغة، والبراعة في التنسيق والتنميق. كل ذلك على أحدث نهج علميّ خَطَّه علماء الاستشراق؟

ونحن اليوم نتتبع خطوات بشر فارس وهو يروح ويغدو، ينحت الصخر آناً في مفارز العلم، وينظم الزهر آناً في خمائل الأدب، ونتساءل في حيرة: إلى أي مدى يستطيع الصديق أن يحتفظ بشخصيتيه المستقلتين؟ وهل في الإمكان أن يجمع المرء بين الأدب والعلم، ولا يستشعر في دخيلة نفسه ذلك التنافر القائم بين هذين العنصرين النفيسين اللذين لا يهدأ لهما حال إلا إذا أخضع أحدهما زميله واستبعده؟!

وللدكتور بشر نواح خفية، لا يعرفها إلا أصدقاؤه الخلصاء. وإني لمذيع بعضها، وأمري إلى الله! فقد يحاسبني على إفشائها حساباً عسيراً!

إن صديقي بشراً - ولنخفض أصواتنا قليلاً - رجل ذوَّاقة في المآكل، واسع الاطلاع على ألوان الطعام، عظيم الخبرة في كل ما تزدان به الموائد. . . وإنها لمتعة حقاً حين تسمعه يحدثك عن صحاف الأطعمة المختلفة واحدة بعد أخرى؛ يروي لك - وعيناه تلمعان لمعان المرَق الشهي - كيف يشتري بنفسه الزبد الطازج، وينتقي عند الجزار أطايب اللحم؛ وكيف يقف أمام الفرن يجهز الصنف الذي يحب، ثم لا يلبث أن يأتي عليه ولَما يتمّ نضجه على النار، مقتفياً أثر المثل الصالح: خير البر عاجله!

ولصديقنا بشر جولات موفقة في مطاعم المدينة، فهو إذا دخل أحدهما لا يطلب القائمة، ولا يُعنَى بمكانة من المائدة؛ بل يطلب أن يدلوه فوراً على المطبخ. . . وثم يكشف عن القدور يتفحصها تفحص عارف، ثم يشير أخيراً إلى واحدة منها، فيحضرونها له بأكملها. . .

ويشمِّر الدكتور عن ساعد الجوع غير معني وقتئذٍ بأناقته، وينكبْ على القِدْر فيأتي - في لحظة خاطفة - على ما تعب الطاهي في صنعه ساعات طويلة!

وإني أنصح - نصيحة مجرب! - لمن أصيب في معدته، ويرغب في دواء ناجع لإصلاحها أن يأتي بالدكتور بشر عن يمينه وزكي طليمات عن يساره، ثم يراقبهما هنيهة وهما يتناضلان في معركة القدور كرّاً وفرّاً. . . فإنه لا يعتم أن يشعر بمعدته تتصايح في ثورة جامحة، وإذا به ينطلق هو أيضاً في صحاف الطعام يفتك بما فيها فتك مغوار!

محمود تيمور


مجلة الرسالة - العدد 309
بتاريخ: 05 - 06 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى