محمد عبد النبي - بحث صغير حول المظلة

images?q=tbn:ANd9GcS4a8sFrWFrgM41iqnFjw2bBpke4xI8-cFd_QGSl6kKc3aDXxJCxQ.jpg


-1-
يومٌ ساخن، فأرجو ألا تشتكي ضيفتي العزيزة من شدة حرارته، بل لعلّها ستحب الشمس مثل أغلب أهل البلاد المحرومة من الشمس. تُرى هل ستنزل من غرفتها وفي يدها مظلة؟ وكيف سيكون شكل مظلتها تلك؟ أنتظرها، حسب الموعد المحدد بيننا، في بهو الفندق الأنيق، متوتراً مثل عاشقٍ صغير في موعده الأول، رغم شهور من المراسلات والاتصالات والدردشة على الانترنت، لكني مع هذا لا أعرف كيف ستبدو زبونتي الجميلة على الحقيقة. المشوار قصير من هنا حتى شقة الزمالك، حيث تنتظرنا المظلات منذ سنين طويلة، وسيارتي مكيفة فلا داعٍ للقلق من سخونة الهواء في الخارج. أسرح بخيالي فيما قد يدخرّه لي هذا النهار الذي بدأته مُبكراً على غير عادتي، وما قد يحمله لي من أسرار تنكشف أو أفراح تقلب حياتي، كأنه اليوم الأخير لي في دنيا ما، أو كأنه اليوم الأول في دنيا أخرى. مُركزاً بصري على رسومٍ فرعونية رشيقة في جدارٍ عن يميني، ابتسمتُ شاعراً بالرضا والزهو، وقد استطعتُ إقناعها أخيراً بضرورة حضورها شخصياً إلى القاهرة، لإتمام صفقة شراء مجموعة المظلات النادرة، تركة خالي البائسة، والرابضة كالعمل الرديء على قلبي في شقة الزمالك. وكان بوسعها أن تطلب إرسالها في طرد على أي مكان في العالم، لكنها جاءت بنفسها، لترى، لتلمس، لتشم الروائح. لم تستطع مقاومة الخرافة العجيبة التي رحتُ أنسجها لها يوماً بعد آخر، منذ أكثر من خمسة شهور. الحقيقة أننا رحنا ننسجها معاً، خيط من جانبي وخيط من جانبها، في منافسة عابثة، انتهت بنا إلى أن أصبحنا معاً أسيرين في داخل الخرافة التي رسمناها بأيدينا، دون أن ندري كيف.

-2-
كان لي خالٌ مارق، اعتاد منذ صباه أن يلعب دور المتمرد على قوانين وأصول العائلة الكريمة، وما أن وضع يده على جزء من ميراث أبيه، حتى رحل دون وداع، تاركاً خلفه رسالة موجزة، وضعها فوق البيانو العملاق نفسه الذي كان يتدرب عليه هو وأخواته البنات على يد مُعلمة نمساوية لها سَمت السجّانات وقسوتهن، حسب تاريخ العائلة غير المدوّن، ولا ضمانة لتأكيده سوى ذاكرة العمات والخالات. بمناسبة البيانو، حدث في أربعينات القرن الماضي يا مدام أن اقتحم خالي حفل عشاء رسمي حافياً بثيابٍ داخلية. كان جدي القاضي الموقر قد دعا إلى الحفل نخبة من رجال التشريع والقانون وزوجاتهم، وبينما يسمعون لآنسة مهذبة تلعب على البيانو وهي عروسة مرشحة لخالي المارق، ظهر بينهم فجأة نصف عارٍ وفي يده جرس، تخيلي، جرس، وراح يقرعه بقوة وهو يتفرس في الآنسة الرقيقة التي تعزف شيئاً من شوبان. حل الصمت على الجميع، وأخفت بعض السيدات والفتيات وجوههن بين كفوفهن، ولم يُسمَع – لدقائق – سوى صوت رنين الجرس الموقّع، وخالي بينهم مبتسماً يتأملهم جميعاً، قبل أن يسحبه بعيداً بعض أقاربنا من شباب العائلة العاقلين. أما جدي فارتمى على مقعده مذهولاً، تغطي جبينه حبّات العرق وقد أظلمت الدنيا أمام عينيه.
-3-
الحقيقة يا سيدتي أنكِ ستعيشين لحظة تاريخية، لمجرد رؤية ذلك الكنز، فضلاً عن امتلاكه ذات يومٍ ليس ببعيد. ويُسعدني حقاً أن أكون شريكاً وشاهداً على هذه اللحظة. إنّ مجموعة المظلات النادرة التي ستشاهدينها قريباً لا يوجد مثيل لها في العالم كله، وأنا، شأني شأنك، لا أعرف سبباً واضحاً لغياب أية إشارة إليها في كتيبات ونشرات المزادات والمقتنيات النادرة. ربما يرجع ذلك لما أحاط بها من حكايات غريبة وأسطورية، وربما لم يهتمّ خالي بأن يسعى لعرض مجموعته وطرحها على جمهور المهتمين. هل يبدو لكِ أنه كان رجلاً مجنوناً لينفق كل تلك الأموال على شراء غرضٍ غريب كالمظلات؟ معك حق، كان له جنون العباقرة، ذلك الجنون الخاص الذي يشع بحكمة سوداوية من أعين الفنانين المغتربين عن عالمنا، والمكتفين بعوالمهم الخاصة. لا أعرف على وجه التحديد متى بدأ يستولي عليه هاجس المظلات هذا، لكنه بلا شك، كان بعد انتحار عشيقته الفرنسية، وتلك قصة أخرى سأتذكر أن أحكيها لك ذات يوم.

-4-
سافر خالي أولاً إلى أوروبا، سنوات قليلة ثم زهد في عجائبها، وإن بقيت فرنسا بالنسبة له الوطن الحقيقي، هكذا تقول بعض الرسائل التي احتفظتْ بها أمي من زمن رحلاته الطويلة. ومن أوروبا إلى أمريكا الشمالية، زار بعض ولاياتها قبل أن يناديه الجنوب، وفي أمريكا الجنوبية بقى ثلاث سنوات كاملة، ويُقال إنه أقام في البيرو فترة طويلة يتاجر في الجلود، وتزوج من امرأة ذات أصولٍ شامية، وأنجب منها طفلين، لكن كل تلك أقاويل لا يمكن بالمرة التأكد من صحتها. إنما المؤكد أنه كان على الدوام يرجع إلى فرنسا، ويتردد على باريس، وأتخيل أن صداقاته وعلاقاته الحقيقية الوحيدة عقدها هناك. كان يعود إلى باريس كلما أوشك على الإفلاس، أو هرباً من علاقة غرامية باخ طعمها، أو استجماماً من متاعب الإبحار والانتقال، ولا بدّ أنه تعرف على حبيبته الأخيرة خلال واحدة من فترات الراحلة تلك. فكأنني أراه الآن، رغم ندرة صوره الفوتوغرافية، أراه بوجهٍ شاحب وجسد يميل للبدانة وقامة قصيرة مثل كل شقيقاته، يبتسم بركن فمه كأنه يسخر من كل شيء، والبايب معلق في الركن الآخر من فمه، الأهم أنني أكاد أرى مظلة سوداء تحيط برأسه من الوراء مثل هالة كآبة غامضة، إشارة ملعونة تغلق عليه عالمه الداخلي بالضبة والمفتاح. المظلات، المظلات التهمته بداخلها، صدقيني يا مدام. كان كأنه يبحث عن شيءٍ ما، عن مظلة بعينها، ستكون هي المثالية، هي المختارة، ستكون حلاً نهائياً لكل أزماته. وربما أبالغ قليلاً الآن، فقد قيل مثلاً – من ضمن الخرافات التي ارتبطت بتلك المظلات – إنه يبحث عن مظلة سحرية، سوف يستعملها ذات يوم ليُعيد حبيبته إلى الحياة، نعم، التي انتحرتْ ذات مغيب رمادي كابٍ من فوق أحد الجسور إلى نهر السين، فطارت مظلتها السوداء بعيداً عنها، وكأن تلك المظلة الحزينة قد خذلتها بطريقةٍ ما، كما لو أن السيدة الجميلة لم تكن تتوقع بالمرة أن تسقط، بل على العكس أن تحملها تلك المظلة إلى الأعلى، مثل مقشة الساحرات. لا بدّ أنها غرقت مندهشة قليلاً، وشاعرةً بالخذلان وألم الخيانة.

-5-

ومظلة أخرى من أوراق صحف قديمة، لا أدري كيف لم تتفتتْ حتى وقتنا الراهن، رغم السنوات، ومظلة من ثياب داخلية لعاهرات كتبتْ كل واحدة منهن كلمة صغيرة ووقعت باسمها، ومظلات من أعشاب ذات روائح مهيّجة، ومظلة من رمل، ومظلة من سَحَابٍ طريّ، ومظلة أخرى صغيرة شقية تغني أغنيات مرحة بمجرد فتحها، ومظلات لا تحجب الشمس ولا المطر وإن كانت لها قدرة خيالية على منح العزاء والسلوى، ومظلة من ذكريات لا تبهت ألوانها مع الوقت، ومظلة من قبلات مخطوفة لمراهقين، ومظلة من شهوات الأرامل، ومظلة من علامات خرساء، ومظلة، ومظلة، ومظلة.

-6-

كانوا يقولون في أسرتنا إنني أكثر الأحفاد شبهاً بخالي وجيه. وكنتُ طفلاً صغيراً جميلاً، أقرب إلى كيوبيد حي، بشعر تتشابك خصلاته الناعمة في درجات من البني والأصفر والذهبي، وعينان لهما لون عسلي فاتح وبؤبؤ أسود لامع، وغمازة ساحرة على كل وجنة. كنت شيطاناً فاتناً، وخالاتي يُغرقنني بالأحضان والقبلات قبل الحلوى والشوكولاتة، بل إنني لعبت دور كيوبيد فعلاً في استعراض بأحد الأفلام الغنائية في منتصف الستينات، عندي الشريط، وأتمنى أن نشاهده معاً ذات يوم، لو تحبين يعني. لذا طالما تساءلتُ صغيراً عن وجه الشبه إذن بيني وبين هذا الهيكل العظمي البائس المقيّد إلى مقعد بعجلتين كبيرتين؟ دائم الصمت، ولا يكاد يغادر غليونه فمه سواء كان مشتعلاً أم مطفأ، أستطيع أن أستعيد حتى الآن الرائحة الجافة والخانقة لتبغه، والتي كانت تحوّم حوله دائماً كأنها ظلاً آخر له. لم أكن أحب الجلوس على ساقيه، مثل أطفال العائلة الآخرين، ليداعبهم ويناغيهم بينما ينفخ دُخانه بعيداً عن وجوههم. كنتُ أشعر أنهم يضايقونه وأنه لا يحتملهم إلا لخاطر أمهاتهم؛ الشقيقات العزيزات، كلّ من تبقى له من العائلة التي ضاع عزها أو يكاد. أخواته اللاتي مازلن يسهرن على راحته ويدللنه، كما لو كان في أعينهن على الأقل مازال ذلك الشاب الساحر المجنون، أخوهن الكبير الضائع أبداً بين الموانئ وطوابع البريد غريبة الشكل. بفضلهن استطاع أن ينعم بعيشةٍ كريمة خلال ما تبقى له من أيام عمره، بعد أن عاد في الأربعين وإن كان بدا كأنه تجاوز الستين، مفلساً وعاجزاً عن الحركة بعد حادثة مأساوية لا نعلم عنها إلا أقل القليل. عاد بصناديق مُحمّلة بآلاف الذكريات والمغامرات، والمئات من المظلات التي وصلت بعده بأيام في صناديق داكنة ومستطيلة كأنها توابيت صُنعت لبشرٍ صغار الحجم.

-5-
عزيزي، لا أظن أن مقدرتي في الحكي يمكن لها مجاراة براعتك وسحر كلماتك ولو بأهون قدر، ومع ذلك سأجازف بأن أحكي لك الآن كيف بدأ هوسي بالمظلات ومتى، والحق أنها قصة ساذجة لا تستحق حتى أن تروى، مقارنةً بالأسطورة الغامضة والحزينة لخالك وحبيبته المُنتحرة. هربتُ من مؤسسة لليتيمات تقع بإحدى القرى وأنا في السادسة عشر، ولم يكن هدفي الحب أو الزواج، كان كل ما أشتاق إليه حقاً هو أن أعيش بمفردي، في مكان خاصٍ بي وحدي ولو كان كوخاً من القش على أطراف الحقول. ما هي إلا سنة وكنت أعمل لدى خياطة معروفة أسكنتني مع بنات أخريات في غرفٍ بعمارتها في إحدى ضواحي باريس، ولم أبلغ السابعة عشر حتى تعرفتُ بمصوّر فوتوغرافي في مجلات الموضة، وأقنعني بالعمل موديلاً. بدأت بثياب البنات الصغيرات ثم سرعان ما انتقلت إلى الثياب الداخلية، ثم أتى القرار الخطير، وهو أن أقف عارية تماماً أمام أعين الكاميرا. فكرتُ طويلاً، فكرتُ في راهبات المؤسسة التي تربيتُ فيها، وفي أمي، المرأة التي لا وجه لها في ذاكرتي، وقد اخترعتْ لي لقباً عائلياً شائعاً قبل أن تتركني بين أيدي الغرباء إلى الأبد. ثُم فكرتُ في جسدي وفي حريتي وفي مستقبلي، ثم اخترتُ أن أغامر. بينما أكتب لك هذا أضع أمامي أول صورة التقطت لي وأنا عارية، مضت سنوات طويلة، ومع هذا، أشعر كأنني كنت أرتجف بالأمس فقط في هذا الصباح الخريفي على الشاطئ. كانت مجموعة الصور إعلاناً لمظلة صيفية صغيرة تنتجها شركة متخصصة في إكسسوار السيدات، مظلة باراسول بيضاء حريرية منقوشة بورود منمنمة لا تكاد تبين في نسيجها الشفاف. رفعتُ تلك المظلة فوق رأسي ووقفت على الرمل، أولي ظهري للبحر مثل عروسة بحر يافعة، تحررتْ تواً من سجنها في أعماق المحيط، بعد أن هزمت الغول الشرير، وما أن أصبحتْ إنسية على البر حتى اكتشفتْ عريها فخجلت ولم تدر ماذا تفعل، لكن يبدو أن أحدهم أراد مساعدتها فتصدّق عليها بمظلة، لتحميها على الأقل من وهج شمس الدنيا، أو ربما تطير بها فتختفي عن الأنظار. لك أن تتخيل معنى هذه الصورة بالنسبة لي، لقد اكتشفتُ نفسي في لحظة بعينها، بصحبة تلك المظلة. وقفتُ أمام الكاميرا ورحت أبتسم أو أغمض عينيّ بإغراء أو أضع إصبعي في فمي ببراءة لوليتا، أو أشبّ مبتعدة عن الأرض واقفةً على أطراف أصابعي كأنني أتأهب للطيران. المرأة التي عشقها خالك وحدثتني عنها، والتي انتحرت في نهر السين ممسكة بمظلة سوداء كانت تظن أنها ستنقذها، هل لديك أية معلومات أخرى عنها؟ اسمها، اسم عائلتها، أعتقد أنني أمتّ بصلة قربى لها، لن أكشف لك عن المزيد حتى تكشف أنت.

بالمناسبة، هل تعرف أنه في اللغة الإنجليزية توجد أكثر من كلمة للدلالة على المظلة، هل هذا أيضاً في لغتكم العربية؟ هناك كلمة تشير للمظلة التي تحمي من نور الشمس وحرارتها وهي Parasol، وهي حرفياً تعني ضد الشمس أو منع الشمس. وكلمة أخرى تشير للمظلة التي تحمي من المطر وهي umbrella وهي الأكثر استخداماً لدينا بطبيعة الحال. غالباً ما يكون الفرق بين المظلتين في المادة التي تصنع منها، فليس بالضرورة أن تُصنع الباراسول من مادة مضادة للمياه على عكس الآمبريلا، وهي الكلمة المشتقة من أصل لاتيني بمعنى الظل. الحقيقة أنه توجد كلمات أخرى كثيرة اكتشفتها مع الوقت للتعبير عن المظلات، لكنها غير شائعة مثل هاتين، كما أنني لا بد أن أتوقف الآن فقد بدأت أتحدث كما سوف تتحدث نسخة من الموسوعة البريطانية، لو نطقتْ الموسوعات ذات يوم.

-6-
لا أعرف الكثير عن عشيقة خالي الفرنسية، مجرد كلام عام لا يمكن الوثوق فيه من أفواه أمي وخالاتي. وعندما بحثت في أوراق خالي لم أجد بين كتبه وأوراقه خيطاً قد يقود إلى شيءٍ مؤكد، ويبدو أنه حرصَ على أن يمحو كل أثرٍ لماضيه بالتدريج، ورقةً بعد أخرى والذكرى تلو الذكرى. لكنه بالطبع أبقى على المظلات، ليس لأنها كنزه الذي أنفق في جمعه المال والسنين، ولكن لأن مهمتها الحقيقية لم تتم بعد. وهكذا ظلّت مكدسة في غرفة واسعة عالية السقف، ببيت العائلة القديم حتى تم بيعه، وعندئذٍ انتقلت المجموعة الكاملة، إلى جانب أشياء وكراكيب أخرى إلى الشقة الوحيدة الخالية في عمارة المرحومة أمي بالزمالك، بعد أن تُوفي مستأجرها العجوز أخيراً بعد أن أشرفنا على اليأس من احتمال موته. ومنذ شهور نويتُ أنا وابن خالتي وهو شريكي أيضاً أن نفتتح بها فرعاً جديداً لأعمالنا، ولهذا كان لا بدّ من التخلص من الماضي، ومن هنا قمتُ بوضع هذا الإعلان على موقع الأنتيكات، ولعلّ كل هذا ما حدث إلا لكي نتواصل ونتراسل، ونتحادث كل تلك الفترة عن لغز المظلات، فمتى تأتين؟

-7-
نُشرتْ صورتي العارية في واحدة من أهم مجلات الموضة، وارتفع نجم الفتاة الصغيرة مجهولة النسب خلال شهور، وسرعان ما صرتُ أعمل لحساب كبرى بيوت الأزياء وتظهر صوري على أغلفة أشهر مجلات الموضة. بعد نشر تلك الصور الأولى العارية، تحدّث بعضُهم عن ارتياحي العجيب لجسدي، ونادراً ما ذكروا موضوع الإعلان نفسه، أقصد المظلة. أنا الوحيدة تقريباً التي تعاملتْ مع تلك المظلة بجدية. وربما تسخر مني إذا أخبرتك أنني أصررتُ على شراء تلك المظلة ذاتها التي التقطتُ معها صورتي العارية الأولى ودفعتُ فيها ثمناً كان باهظاً بالنسبة لي أيامها. صحيح، لم نتحدث عن الثمن بعد، أفهم أنك لم تحصِ عدد المظلات حتى الآن، لكنك ولا بدّ لديك تقدير متوسط للثمن الذي يمكنك أن تقبله. هذا أمرٌ مهم بالنسبة لي، فأنا الآن لم أعد النجمة الشابة التي يحلم بها المراهقون وتحسدها النساء ، إنني الآن مجرد سيدة في آخر العمر، تجري وراء نزوة أخيرة، نزوة غير منطقية، بل مجنونة، ربما تكون هي مغامرتي الأخيرة، مغامرة لا أملك مؤونتها اللازمة من حماسة المراهقين أو شغف العاشقين، فلا تنس هذا. كانت تلك المظلة الصيفية هي الأولى لي في مجموعتي الخاصة التي لا تتجاوز العشرين مظلة، أغلبها صيفية مبهجة ذات ألوان فاتحة، لكنني أحلمُ في نومي كثيراً بمظلة واحدة سوداء تطير في سماء باريس. وحين رأيت صور مجموعتك على الانترنت أحسست أنني سأجد فيها ما كنتُ أنتظره أو ما كنتُ أبحث عنه دون أن أدري حتى. أعتقد أن روح تلك العشيقة المنتحرة تسكنني بطريقةٍ ما، وتوسوس لي بأشياء. أنا من تميل إلى المبالغات الآن. لستُ متعجلة مع هذا. اعتدتُ أن آخذ الوقت الكافي أمام كل خطوة، ولا تندهش من هذا فحتى عارضات الأزياء يمكن لهنّ امتلاك درجة من الحكمة، وخصوصاً بعد التغلب على الإدمان، والعلاج من فقدان الشهية العصبي، واعتناق ثلاثة أديان خلال أقل من عشرين عاماً. لا تتوقع وصولي القاهرة قريباً، ما زالتْ أمامي بعض الأبحاث الخاصة بتلك المرأة التي تسكنني، لكن بالإمكان أن أرسل لك دفعة صغيرة تحت الحساب، ولستَ مضطراً لتقديم أية ضمانات في المقابل، فأنا أثق بك، لا لشيء إلا لأنني أشعر كأنني أعرفك من زمن بعيد، أو كأننا قد التقينا في حياة سابقة، كنا فيها شخصين آخرين. ماذا أكتب الآن؟ انزلقتُ بسهولة إلى كليشيهات رومانسية كثيراً ما سخرتُ منها. سأتوقف قبل أن أكتب المزيد من الخواطر العاطفية الساذجة. سأهاتفك قريباً.

-8-

المظلة ليست من الأشياء الشائعة في بلادي، ربما لأن للأمطار مواسم معلومة، لكن في الإسكندرية مثلاً قد ينهمر المطر في أي لحظة خلال الشتاء، هل خططتِ لزيارة الإسكندرية؟ إنها مدينة ساحرة، زال عنها جانبٌ كبير من سحرها بكل أسف، لكننا نقول هنا ولو ذبل الورد رائحته فيه، لذلك أقول لك إن الشغف والحماسة غير مقصورين على المراهقين والشباب فقط. أظن أنك تفهمين مقصدي. نحن نسميها هنا شمسية، من الشمس، يعني باراسول، فالشمس عندنا أشرس وأكثر حضوراً من المطر، بل إننا نحتفل بسقوط الأمطار عادةً كأنها مزحة بيننا وبين السماء. ومع ذلك فأغلب الناس لا تجد ضرورة للاحتماء من الشمس بشمسية، إذ ليس من الصعب العثور على قطعة من الظل هنا أو هناك. وغالباً ما ستجدين الصحف مرفوعة فوق الرؤوس على محطات انتظار الأتوبيس. ربما يراها أهل بلدي أداة لا معنى لها، فيها شيء من الرفاهية يعني، أو ربما يستثقلون ظلها والتحرك بها. فالحياة هنا شاقة عموماً، وهي أشق على الفقراء وهم الأكثرية، كما لعلك تتوقعين... أتخيل الآن شخصاً يجري وراء أتوبيس نقل عام ومظلته ترفرف من خلفه، أو إحدى الأمهات تحمل طفلها على كتفها وفي يدها المظلة وشنطة الخضار... صعب فعلاً. أغلبنا يفضل الطاقيات، أو منديل مبتل في الأماكن قاسية الحرارة كما هو حال الفلاحين في الريف. لا بدّ أن تشاهدي الريف المصري يا سيدتي الجميلة... سيفوتك الكثير لو لم تفعلي، لا، ليس كأي ريفٍ آخر في العالم، ونقطة قوته الأكيدة ليس النهر أو الحقول أو الطعام الشهي والإيقاع الناعم للحياة، قوته في أهله، ربما غيّرتهم قليلاً ظروف المعيشة الصعبة، ولكن صدقيني مازالوا نوعاً خاصاً للغاية من البشر. كل هذا سابق لأوانه، وحينما تأتين سوف تتاح لكِ الفرصة لزيارة أماكن عديدة عجيبة، وسأكون طوع أمرك في كل شيء. أمّا عن أحلامك وهواجسك فالشيء العجيب أنني أنا أيضاً أحلم بين الحين والآخر بأنني أصبحتُ خالي وجيه. أحلم أحلاماً قوية واضحة الصورة، كأنها أفلام ثلاثية الأبعاد. أرى فيها نفسي الشاب القصير الممتلئ بوجهه الشاحب، بنفس ملامحي منذ سنوات ولكن بهيئة معتمة وعينين توحيان بجنون محتمل. أسعى في مطارٍ ما، أو أقف على حافة سفينة، أو أجلس على رصيف مقهى في بلد أوروبي الطابع. وأحياناً أجد نفسي ساهراً في مطعم صغير بصحبة امرأة جميلة، ترتدي السواد، وبعينين ناطقتين بكآبة عذبة لا سبيل إلى مقاومتها، ومن فونوغراف يتناهى إلينا صوت إديث بياف حياً كأنها تغني من المائدة المجاورة لنا، يُردد: "بادام، بادام، بادام..."

-9-
سافرتُ إلى تونس ذات مرة لبعض الأعمال، فاكتشفتُ اسماً جديداً ولذيذاً للمظلة. يسمونها في لغتهم الدارجة مطرية، من المطر. اسمٌ غريب بالنسبة لي، ولا أدري لماذا أوحى لي باسم آخر وهو قمرية، في مقابل الشمسية الذي يربطها بالنهار. وأعود إلى تلك الصورة من صور خالي فأجده يرفع مظلته في ليل مون مارتر، دون أن يكون هنا مطر، فأعرف أنه يحمل قمريته اتقاءً لجنونٍ ما قد يفترسه في لمح البصر، عند أي تهاون من جانبه. في تونس، وخلال رحلتي القصيرة تلك، هبّت فجأة ريحٌ شديدة صاحبها مطر غزير وقاسٍ سرعان ما تحوّل إلى كريات ذات بياضٍ شفاف من البَرَد. وبينما أجرجر نفسي إلى فندقي القريب، كنت أرى كيف تتطاير المظلات، المطريات، الشمسيات، الآمبرالات، والقمريات، منفلتة من أيدي أصحابها، ينتزعها الهواء منهم انتزاعاً، وأخذت تنتقل تحت الأمطار وحدها مثل طيورٍ كبيرة الحجم وغريبة الشكل ومجهولة النوع، طيورٌ تعاند الموت لدقائق، أغلبها له لونٌ أسود أو رمادي داكن. تابعتها تطير وتحط، قبل أن ترفعها الريح مرة أخرى، ثم سرعان ما تسقط هامدةً من جديد، على الأرض، وسط برك المياه والثلج المذاب، وقد قلبتها رحلتها القصيرة في الهواء من الداخل إلى الخارج، فانكشفتْ العيدان المعدنية الهشة التي صُنعت منها، مثل هيكلٍ عظميّ لطائر مأكول للتو، أو فرع شجرة انتزعته العاصفة بعد أن نجحت في تعريته تماماً، أو مجرد بالونة ثقبها طفل بدبوس، انتفخت وطارت تتخبط في كل اتجاه، للحظات قبل أن تسقط خرقة بلا وزن، باختصار رأيتُ خلال ثوانٍ معدودة الحياة الكاملة واحدٍ منا، وأنا أقصد هنا الجميع، الجميع دون أي استثناء.

-10-
أكثر من خمسمائة مظلة، لكِ أن تتخيلي الآن حجم الثروة التي تركها لي خالي العزيز المتمرد، قبل أن يرحل ساهماً على كرسيه ذي العجلتين في الشرفة، وأنا في التاسعة من العمر تقريباً، لا شيء يشغلني إلا كرة القدم وشراء ثم مضغ لبان بم بم حتى أكمل ألبوم الصور وأربح ولو جائزة واحدة من الجوائز الشهرية الكثيرة التي تبدأ بسيارة. أكثر من خمسمائة مظلة، بعضها عادي تماماً من النوع الذي يمكنك شراؤه حين يهطل المطر فجأة دون استعداد بأرخص سعر ممكن، وبعضها من الصين، وواحدة من اليابان ضيقة الدائرة ورقيقة وذات لون وردي فاتح للغاية كأنه الأبيض وليس الأبيض، اكتشفت على حوافها كتابة، وحين سعيتُ لترجمتها لدى متخصص في اللغة اليابانية، أخبرني أنها قصيدة هايكو– هل تعرفين الهايكو؟ كانت أول مرة أسمع بهذه الكلمة اللذيذة – تقول ما معناه: كم هي صغيرة مظلتِك يا عزيزتي في هذا القيظ الشديد! مظلات تبدو ذات طبيعة دينية لا يمكن تحديد البلاد التي أتت منها، مظلات من الحرير ومن الجلد ومن الريش ومن الدانتيل، ومظلات لا غطاء لها بالمرة، وثمة مظلة مصنوعة من الثلج لها ثلّاجة مخصوصة للاحتفاظ بها، وتُعرض من وراء زجاج، وبالطبع هناك مظلة من الزجاج، وأخرى من مرايا صغيرة، وأخرى من جلود النمور والفهود وفراء الثعالب. أعترف لكِ أن لي فترة أخشى الذهاب بمفردي إلى شقة الزمالك، بعد أن تحوّلت إلى غابة حقيقية بوجود كل تلك المظلات فيها. لا بدّ أن تصحبيني إلى الغابة قريباً، لكننا بالطبع سوف نترك فتاتاً من الخبز وراءنا مع كل خطوة، حتى لا نضيع بداخلها ونبقى هناك تحت رحمة الوحوش والطبيعة والأقدار.

-11-
وفقاً لنصيحتكِ، غالبتُ مخاوفي وذهبت وبحثت وعثرت على مفاجأة لم تكن في الحسبان. صندوق لا كنز فيه، صندوق متوسط الحجم من الخشب المطعم بالصدف، جمع فيه خالي كل ما يتعلق بالمظلات من أوراق وصور ورسوم. نقلته إلى بيتي حتى أكتشف محتوياته في هدوء، بعيداً عن أجواء الغابة المنتشرة في شقة الزمالك. لي بيتٌ هادئ، في المعادي، شقة كبيرة على مستويين، لكنها خاويةٌ عليّ منذ طلاقي. هل أخبرتك أنني مطلق قبل الآن؟ إنها قصة أخرى طويلة، سيأتي وقتها. في ذلك الصندوق تجدين مثلاً مستنسخات من لوحات زيتية فيها مظلات، ورسوم مُبسطة لأولى المظلات التي ظهرت في بلاد العراق القديم ومصر الفرعونية وبلاد الإغريق والرومان، وبالطبع هناك الكتب، كتب تتعرض لتاريخ صناعة المظلات، بالفرنسية والإنجليزية ولغاتٍ أخرى، لن أجد الوقت طبعاً لقراءتها، أنا رجل مشغول وأحب عملي في الدعاية والإعلانات، أحب شركتي الصغيرة التي تكبر مع الأيام، ليتك تزورينها يوماً، سيعجبك ما تشاهديه هنا. ساعات يحلو لي أحياناً أن أرفع عينيّ عن أوراق العمل أو شاشة الكمبيوتر لأتأمل مكتبي بعينيك أنتِ، متخيلاً انطباعاتك، ما سوف يلفت انتباهك وما ستعلقين عليه، وماذا ستقولين. صحيح أنني أحب عملي، ولكنني حين أتخيل أحياناً أن حياتي سوف تنقضي بين جدران ذلك المكتب، وبلا هدف سوى نمو الشركة، وبالتالي نمو رصيدي في البنك، أرتجف مشفقاً على ذاتي، وأشعر كأن خالي الراحل سجين بداخلي، يود لو يحطم ضلوعي ليتحرر ويعيش حياته كما عاشها من قبل، ألف مرة ومرة. كما وجدتُ في ركن ذلك الصندوق مظلة صغيرة، مُنمنمة بحجم عنقود عنب، مصنوعة من الكريستال النقي، تتلألأ تحت الضوء بألوان عجيبة، أظن أنني لن أبيعها لكِ أو لغيرك، وسأحتفظ بها على سبيل الذكرى، إن مجرد النظر إليها يدغدغ جلدي، يُدوخني، قد أريها لكِ ذات يوم.

-12-
سوف أجئ، اعتبرني في الطريق، قريباً أراك، قريباً جداً. رسائلك هي التي تدوخني، أشعر أنني أوشك على الدخول في حكاية من حكايات ألف ليلة، لكن الغريبة أنك من تلعب دور شهرزاد الآن. لا تغضب من قولي هذا. أنا أعرف أخلاق الرجال الشرقيين، والعرب خصوصاً، لا أظنك مثلهم، أظن أنك أكثر شبهاً بخالك المجنون، والمسجون تحت جلدك. ما زلتُ أطمع في أن أجد أثراً لتلك العشيقة التي انتحرتْ في نهر السين وطارت مظلتها السوداء بعيداً. بذلتُ أقصى جهدي لأكتشف ما يربطني بها، السجلات الحكومية متاهة اكتشفتها مؤخراً فقط. تتبعني نظرات متشككة حيثما توجهت بأسئلتي، ما حاجة امرأة جميلة تخطت منتصف العمر إلى النبش في رفات الموتى، لا يعلمون يا صديقي أن الموتى هم من ينبشون عنا حتى يجدوا فرصتهم للحياة من جديد. وأحياناً أسمع صوتاً يوسوس لي: لا حاجة للبحث بعيداً. أرجو أن تفتش ذلك الصندوق جيداً، عندي إحساس غامض أنك ستجد فيه أجوبة على تساؤلاتنا الكثيرة.

أتعرف أن استخدام المظلات لم يكن أمراً شديد الشيوع خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر؟ بدليل أن الجنرال الإنجليزي جميس وولف يكتب من باريس في عام 1752، متحدثاً عن أهلها الذين يستخدمون المظلات وقايةً من الشمس والمطر، متسائلاً لماذا لا يفعل الإنجليز مثلهم. أمّا أول رجل استخدم المظلة، وامتلك جرأة الظهور العام بها في انجلترا، خلال العصر الحديث بالطبع، فكان هو جوناسهانواي، مؤسس مستشفى ماجدالينا، واعتاد التنقل بها في لندن، محتملاً نظرات الدهشة والتعليقات السخيفة، وقد توفي عام 1786 ومن المعتقد أنه ظل حاملاً مظلته ثلاثين عاماً. أما جون مكدونالد فيقول إنه في العام 1771 كلما خرج من بيته حاملاً مظلته، كان الناس في لندن يحيونه صائحين: "يا مقلد الفرنسيين، يا حبيب الفرنسيين، لماذا لا توقف عربة بدلا من تلك التي تحملها في يدك؟" تصوّر! أرجو أن تكون الحوالة قد وصلتك الآن، أنا أرتب أموري وستجدني أتصل بك قريباً من غرفة تطل على النيل، لدي جميع أرقامك، وسيكون لدي الوقت لاكتشاف كل ما تدخره لي من كنوز وعجائب، أظن أنني سأقيم في عاصمتكم فترة تسمح لي بذلك. عدني أن تنبش أكثر في محتويات الصندوق، أشعر أننا سنجد حل اللغز قريباً جداً.

-13-
ومظلة من الملح، ومظلة من ظلال، ومظلة من همس عاشقة، ومظلة من ضفائر فلاحات، ومظلة من لُباب الخبز الطازج، ومظلة من مطر القمر، ومظلة من رمالٍ خائنة، ومظلة من جلود أجنةٍ لم تولد أبداً، ومظلة من خواطر شاعر، ومظلة من فوارغ طلقات رصاص، ومظلة من كلام، ومظلة... ومظلة ... ومظلة ...

-14-
أحلم بخالي كثيراً هذه الأيام، وأحياناً أصحو من النوم حين تداهمني رائحته القديمة المميزة، رائحة التبغ الجاف وكولونيا الليمون. فكأنه بجانبي على الفراش، أو للدقة بداخلي، يسكن جسدي، ويتصرف فيه على هواه. كان مُدللاً وكان تمرده مضحكاً وبائساً وقصير النَفس. الولد الوحيد على خمس بنات، حسرة قلب جدي لأمي، القاضي الذي أوشك أن يصير وزيراً للعدل. أمّا البنات فقد صارت كلٌ منهن ربة بيت، وسيدة مجتمع، أو حتى سيدة أعمال فيما بعد. امتلكت كلٌ منهن عشيرة صغيرة، زوجاً وأطفالاً، وحياة لها جذور وفروع وثمار، شجرة حقيقية. وظل هو الابن الضال، مهما كبر وانحنى وابيضّ شعره. زارهن ذات مرة، بعد وفاة جدي بزمن طويل، في إحدى توقفاته ما بين العواصم والموانئ التي لا تنتهي على خارطة حياته. أرى نفسي الآن خالي، يحتضن أخواته بعد شوقٍ طويل وغربة وضياع، وقد أحضرتُ لكل واحدةٍ منهن مظلة؛ خمس مظلات صيفية خفيفة، مزخرفة بورود مختلفة ولكلٍ لونها، كانت مظلة أمي منقوشة بزهرة المشمش، وثمار المشمش. كم فرحتْ بها كثيراً، فرحتْ لأن أخاها الكبير لم ينس بعد حبها لرائحة المشمش ومذاقه وعمره القصير في كل موسم. وجلستُ مُشعلاً غليوني، أستعيد إحساساً غريباً وقديماً بالبيت الكبير، والعيال أولاد الشقيقات تناولن المظلات ورحن يتبارزن بها كالسيوف، فتقول إحداهن إن فتح المظلة تحت السقف فأل سيء، وتقوم لتجمع من الصغار جميع المظلات وتخفيها بعيداً.

لا أكذب عليك، أنا خائف. الغريب أنني لا أعرف لخوفي مصدراً صريحاً. لكن شيئاً كبيراً، كأنه ظل، بدأ يتسع من حولي. دائرة كأنها حواف مظلة، ولعلها تتسع من حولنا أنا وأنتِ، والسؤال هل سنختار أن ننضوي معاً تحت ظلها، مُسلمين لها مصيرنا أم أننا سوف نقاومها ما استطعنا؟ أرجو ألا تزعجكِ هواجسي الغريبة، وألّا تفكري بالمرة في تأجيل زيارتك للقاهرة، أنا بانتظارك وقريباً سأكشف لك عن حكاية عجيبة، تخص خالي وحبيبته ومظلتين مسحورتين لهما القدرة على إحياء الموتى.

-15-

لم تكن تحمل معها مظلة، وحين رأيتها في طقم بسيط من الكتان الأبيض، بوجهٍ رائق رغم معركته مع التجاعيد المنمنمة، حثني صوتٌ بداخلي على احتضانها، ففعلت كأنها ابنة خالة عادت أخيراً من بلاد الغربة، جفلتْ هي لوهلة، لكنها احتضنتني بالمثل وهي تضحك في توتر. كان يملأها الحماس والتحفز، مثل طفلة في رحلة مدرسية. تاه عن بالي كل ما أعددته من كلامٍ مسلٍ، وتحليتُ بصمتٍ جميل، حتى وصلنا إلى العمارة. ولم نكن بحاجة لأن نتحدث طويلاً في الطريق، كأننا قد انتهينا خلال الشهور الماضية من كل الكلام المهم وغير المهم كذلك. في شقة الزمالك، وما أن أغلقنا الباب وراءنا حتى توقف الزمن. راحت تتحرك بين المظلات المكوّمة، تتأملها بنظرات هادئة صبور، وتتلمس أقمشتها وخاماتها، وتتشمم روائحها، وتنصت معي إلى الأصوات السرية التي تنبعث منها. بعد أن بدا عليها شيءٌ كالدوار والحيرة، رفعت عينيها إليّ وسألتني: هل تصدّق الأساطير؟ لم أدر بماذا أجيبها. فسألتها بدوري: - وهل يُضحى الواحد بما يعلم من أجل ما يجهل؟ - هذا هو الشرط الأساسي لكل مغامرة. اقتربت مني بخطواتٍ بطيئة وصغيرة، حتى رأيتُ أول ظلها يغطي ساقيّ. - لماذا لا تريد أن تخبرني؟ - يمنعني الخجل، وأخشى أن تظني بي الظنون. - أنا أعرف . تطلعتُ نحوها، كانت تبتسم ابتسامة ضعيفة، كأنها تتألم، سألتُها: - حقاً؟ وما الذي تعرفيه؟ - أعرف الشرط الوحيد لإحياء العاشقيْن الميتين، أعرف ما هو ولا يصحّ أن يكون شيئاً آخر.

إنها تؤمن بالأسطورة، مثلي تماماً، مهما أنكرنا ذلك. لعله اليوم الأخير لي ولها في هذه الدنيا على هذه الصورة، سنتيح للعاشقين القديمين العودة فينا، ربما اليوم، ربما الآن في هذه الحظة ذاتها.

شعرتُ بنارٍ هادئة تلفح وجهي، ومن المؤكد أن وجهي قد عكس تلك الحرارة والاضطراب، فنظرتُ إلى الأرض، مستنداً بكتفي إلى أقرب جدار، وكُلي خجل وخوف، وكأنني لم أتخيّل ما سيحدث الآن مراتٍ لا حصر لها. مدّتْ يدها نحو وجهي، تناولتْ ذقني بأطراف أصابعها فكان لبرودتها أثر لطيف مهدئ. رفعت وجهي تدريجياً إليها، كانت دموعي الآن مكشوفة ومُعلقة بين جفوني على وشك أن تنفلت، لكنني لم أكن الوحيد عندئذٍ الذي يُوشك على البكاء، ولم أكن الوحيد في هذه الغابة الذي لا يريدُ الخروج منها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى