عبد الهادي شعلان ... الثَّالوث

أحاول أنْ أفسرَ ما حدث، فلا أجد له تفسيراً، ولا أتمنَّي أنْ أجد له تفسيراً. كل ما أتمناه أن تعود اللحظة بكل ما فيها.. برغيف العيش والملح والغرفة العارية، ممزقة الطلاء. تعود بذهاب أموالي وأحوالي التي أنا فيها الآن. فطعم عصير الليمون في فمي حَتَّى الآن مقطوف من فِردوس الكون. أنا الْمَاء، أحتضنها هي السُّكَر- معنا عصارتنا الليمون- في ذوبان من الغيبوبة بطعم الحياة ذاتها. ذوبان لم أتوقعه أن يأتي في هذا اليوم وأنا في البيت جالس بلا عمل، كالأيام السَّود الفائتة التي أكلت أساس البيت حَتَّى نشبع. فما باليد حيلة، وحيلتي الوحيدة أنْ أداعب طفلي وأنا أنظر لزوجتي تروح وتجئ أمامي، تمسح الحائط المتسخ على غير العادة بخرقه مبللة. صوتها هيئ هيئ زغرودة في أذني. مع ذهابها وعودتها تحك ردفها في كتفي. فيها اليوم شيء غريب وفيَّ أيضاً، أريد أنْ أقوم - هكذا فجأة-

وأقبلها بحنان عجيب يشرخ صدري. ستقول أنِّي مجنون. هذا ما أشعر به وأنا أخرج للولد لساني.

- هيئ هيئ.

لا تعرفين بالضبط ما يمكن أن تفعله فيَّ هيئ هيئ. أيام كثيرة دَبَّ بيننا الشجار بسببها. كانت تخرج منك ملتوية كبريمة تنخر رجولتي وكبريائي، فتخرج بعصارة أيامي المُرَّة. هيئ هيئ التي أسمعها الآن تردني لأيام كنتُ أسمعها مخلوطة برغبة وصلت للنهاية، ولكنها اليوم مختلفة. تصدر منك لعوب، قدسية، فاجرة، طاهرة.

- عايزين ناكل أي حاجة يا راجل.

من فرق جزيئاتي بتلك الصُّورة. فبالطبع أنا لست أنا، وإلا ما أخرجتُ القطعة المعدنية ومرَّرتها أمام عينيها وكأنها كنز.

- قوم يا خويا قوم.

أحقا ما يزعمون عن القرين الذي فينا بطول الجسم وعرضه كالبُخار، يحركنا كيف يشاء. فإذا كان مزاجه غير رائق فاليوم نكد مهما نريده سعيداً. ورضاه آه من رضاه يجعلك تشعر بما أشعر به الآن من اهتزاز هيكلي البخاري – قريني – داخلي برفق وحنان.

بالقطعة المعدنية، اشتريت رغيفاً واحداً، فلم تكن لتأتي بأكثر من ذلك. وأنا أضحك أخذت حفنة ملح من بائع الكباب. رائحة كبابه تشبه رائحة القرين. استقبلتني بقرينتها الرَّاضية. جلسنا على الأرض. الولد على وركها. قسَّمت الرَّغيف نصفين. غمستُ لقمتي في الملح. توقفتْ يدي عند فمها على ابتسامة من كلينا. إذ في نفس اللحظة التي كانت يدي تمتد لتضع اللقمة المغموسة بالملح في فمها كانت يدها تلامس فمي وكأنهما – يدينا- على موعد.

لو يرضي القرناء عنا أبدا، كصغيري الجالس على فخذ أمه، يرضع وهو يبتسم وكأنَّه يعرف أنَّني مثله تماماً، أمتص أصابعها موز وتفاح. رعشة مقدسة نمَّلت يدي.. كانت هي أيضا تقبِّل أناملي وتداعب أعماقي بأسنانها. ضَغَطَّتْ على أناملي بشقاوة. ضحكتُ وضحكتْ. ملنا على الأرض والولد بيننا نقهقه. ضحكنا كما لمْ نضحك من قبل "ها ها ها" من القلب. هل ضحكت من القلب؟. كأنَّنا اتفقنا على الضَّحك في صوت واحد عال اخترق السَّقف والكون. ضحكاتنا صرخات دراويش. أصبحنا كأوراق الشَّجر في الطَّل.. احتوتني، احتويتها، احتويناه. لملمنا بعضنا أنا وهي وهو. شيء واحد، متحد، موحد. صدري في ظهره وصدره في صدرها. يمتص الحليب من أرضي، فأنا الآن سماؤها وهي بألف بكارة، أحاول أن أتجاوز كل بكارتها، لا تنتهي، جديدة متجددة. كأني عريس دائم متصل كل لحظة. بل ضاعت كل اللحظات وتوقف الزَّمن عندنا، معنا نحن الثلاثة، السَّماء والأرض وما بينهما. كانت فيَّ وكنت فيها وهو فينا. جلدي في جلده في جلدها في جلدي. مسام الجلد تشابكتْ، تعانقتْ، كأنَّها رُكِّبَت فوق بعضها. العرق يخرج مني له لها. منها له لي. أصبح العرق دورة. لا منفذ بيننا. لا هواء على الإطلاق. ثلاثتنا واحد وواحدنا ثلاثة. ذوبان يا أخي ذوبان. جعلني لا أعرف أنا ذكر أم أنثي، فبقدر ما كنت أعطي كنت آخذ. عطائي كشريط سعادة ضوئية باهرة "نور يا هووه" أقذف نورا. سرسبة فسفورية تخرج من جسدي على مهل وببطء.. كنت أرتشف الليمون المسكر، أذيبه وأذوب فيه باطمئنان. ذوبان المجذوب من الوجد وهو سائح في عالم صوفي كله الله الله الله.
  • Like
التفاعلات: مصطفى فودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى