محمود البدوي - الأعمى..

تمر ترعة الكامل بقرية (س) وهي قرية صغيرة من قرى الصعيد، فتشطرها شطرين غير متساويين، فقد جارت على الجانب الأيسر بقدر ما أضفت على الأيمن، فاتسع هذا واستفاض حتى أصبحت منازله وبساتينه ونخيله وأعنابه لا يحدها البصر ولا تحصرها العين، واستدق ذاك واستطال حتى قامت منازله الصغيرة على شط الترعة ذليلة منكسرة واجمة، تشكو إلى الله ظلم الطبيعة بعد أن شكت جور الإنسان الذي خلفها سوداء قذرة تمرح فيها الحشرات من كل لون وجنس.

وإذا استقبلت القرية وأنت قادم على جسرها الطويل، بصرت أول ما تبصر بمنزل صغير من هذه المنازل بنى بالطوب الأسود، وخط جواره بستان، ليس فيه سوى نخلتين! مالت إحداهما على الترعة، حتى غرقت فروعها في الماء، وسمقت الأخرى في الجو، حتى ناطحت بسعفها السماء، ولا تدر النخلتان ثمراً الآن، ولا يرجى منهما شيء في المستقبل، فقد جف عودهما وذهب شبابهما. وتقيم في هذا المنزل منذ أكثر من تسعة أعوام أرملة في الخمسين، وهي امرأة دمثة الطبع - على خلاف العجائز من مثيلاتها - ناحلة الجسم معروقة العظم واهية البناء، تستريح في بيتها معظم العام، حتى يهل رمضان، فإذا هل، خرجت في الهزيع الأول من كل ليلة حاملة على ذراعها صفيحة قديمة تطوف بها على منازل القرويين، وهي تنقر نقراً خفيفاً، وتغنى بأغنية قديمة، قل من يدرك معناها ومبناها من سكان القرية! على أنهم كانوا يهبون من مضاجعهم عندما يصافح سمعهم إيقاعها وغناؤها ويبسطون موائد السحور، وان كان الليل لم ينتصف بعد!! وهذا العمل الضئيل لا يجلب لها في الغالب رزق شهرين أو ثلاثة، فكيف تقتات باقي العام؟ وكيف تعيش؟ هذا هو السؤال! على أن الذين انحدروا من الريف، يعرفون تمام المعرفة أن هناك الملايين من أمثالها يضعون دائماً أيديهم على بطونهم ليحفظوا بذلك التوازن الاجتماعي لتخمة الأغنياء.

مثل هذه الأيم السواد الأعظم من الفلاحين الذين لا يعرفون وخير لهم أن لا يعرفوا، أنهم أتعس المخلوقات البشرية في الدنيا جمعاء. إنهم مخلوقات ذليلة تاعسة، لصقوا بالأرض حتى أكلتهم الأرض، وأفنوا عصارة حياتهم فيها حتى استنفذت قوتهم واستفرغت جهدهم. ولو رأيتهم وهم عائدون من الحقول مع مغرب الشمس، والصفرة الباهتة تعلو وجوههم، والغبار القذر يملأ أعينهم ويسد أنوفهم، لعلمت أنهم أتعس الناس في الناس، وأشق الطبقات العاملة على الإطلاق. إنهم مخلوقات مريضة فقدت بهجة الحياة ونعيمها واستسلمت صاغرة للمرض والفناء.

ويسكن مع هذا الأيم أعمى في الثلاثين من عمره، وهو شاب أسمر فارع ضليع الجسم مفتول العضل وثيق التركيب، وهو المؤذن لمسجد القرية منذ أن شب عن الطوق وانخرط في عداد الرجال. على أن الذي جمع بين هذه الأيم العجوز وهذا الأعمى الشاب، لم يكن قرابة ولا نسبا، وأن كان القرويون يسمون العجوز (أم سيد) وسيد هو الأعمى؛ وكانت المرأة تمتعض وتهتاج لهذه التسمية في أول الأمر، وهي التي لا (سيد) لها، ثم ما لبثت أن استراحت لها على مرور الزمن فقر هائجها وسكن، حتى تعمدت ألا تدفع هذا القول بما يكذبه، وهي المتيقنة بأن الجدل في أمثال هذه الأمور غير مجد في الواقع.

فمن الذي يقف في وجه التيار الجارف؟ ومن الذي يمكنه ن يمنع ألسنة الناس الطويلة جداً إلى حلوقها؟ لا أحد على التحقيق.

على أن المنزل لم يكن للعجوز والشاب في الحقيقة، وإنما هو لرجل ملاح يعمل في النيل ويقضي فيه العام كله. ولا يهبط القرية إلا زمن التحاريق، فإذا جاء، بات في سفينته، فقد ألف الرجل النيل، ونسى منزله على توالي السنين.

وكان المسجد الذي يؤذن فيه الأعمى في طرف القرية الشمالي، ولكي يبلغه لا بد له أن يجتاز الترعة وعليها جسر ضيق، يجوزه المبصر وهو راجف حذر، فكيف بالأعمى، ثم يدور بعد ذلك في دروب وينعطف في منعطفات، ويجتز بساتين من النخيل يكثر فيها الحسك والشوك، وعلى الرغم من هذا كله، فان الرجل كان يبلغ المسجد وكأنه المبصر الحديد البصر، فلا يضل ولا يتباطأ في سيره؛ ولا يعتمد على الحائط، ولا يستند إلى الجدار، وشد ما تعجب لذلك وتدهش! على أنك متى ما سمعت القرويين وهم يقولون إن الرجل يبصر بقلبه ذهب عنك العجب كله.

وإذا طلع الفجر على القرية، وهي غارقة في سبات عميق، وكل شيء فيها ساكن هاجع، فلا نأمة ولا حركة، اللهم إلا سامقات النخيل وهي تترنح مع النسيم الواني، وسيقان الزرع وهي تتمايل مع الريح الرخاء، طلع الأعمى إلى سطح المسجد، وانطلق يؤذن في صوت حلو النبرات عذب الرنين، ينفذ إلى كل قلب، ويهفو إلى كل أذن، ومن الذي يسمعه وهو يقول: (حي على الصلاة!) فيتأخر بعد ذلك عن الصلاة؟ لقد كان صوته ليناً شجياً يرن في سكون الليل جميل اللحن عذب الرنين، فيهب له القرويون من مضاجعهم، ويخفون إلى المسجد خاشعين صامتين.

وكان الرجل محبوباً من أهل القرية جميعاً إلا النساء والأطفال. أما النساء فيكرهنه لأنه يزجرهن عن بئر المسجد، ويمنعهن من ملء الجرار منها بقسوة وغلظة، حتى ينقلب صوته الحنون عند محادثتهن إلى صوت أجش خشن مرعب أحياناً! والقرية لا تستغني عن ماء البئر خصوصاً زمن الفيضان عندما يصبح الماء عكراً نصفه طين. وكم تغفلنه مراراً، وهو الأعمى وهن النجل العيون! على أن سمعه المرهف دائماً كان يغيظهن أشد الغيظ!! فإذا أدلت إحداهن الدلو في البئر وحركت (الجبيذ) (البكرة)، وهو خشبي يحتاج للسقي بالزيت ليحبس صوته في جوفه، صر هذا، فيمد الأعمى قامته ويقول بصوت جاف:

(مين؟)

فيتركن الدلو والجرار ويرحن يصلصلن بالحلي، ويطرن على وجوههن هاربات، وقد تقع إحداهن على وجهها، فتخوض فيها الأخرى من فرط الرعب، ويقمن وجلات مذعورات ضاحكات أيضاً، على أن هذا لم ييئسهن من البئر اليأس كله، فهن يعلمن أنه يتروح بعد العشاء، فإذا بصرن به خارجاً من المسجد انطلقن إلى البئر وهن راجفات أيضاً. فشد ما كانت تخيفهن عصاه الغليظة وإن كانت لم تصافح إحداهن حتى الآن.

ومن هنا نشأت العداوة بينه وبينهن واشتدت مع الزمن أما الأطفال فكانوا كلما بصروا به على الجسر، وهو في طريقه إلى منزله، تقوده عصاه، وصدره إلى الأمام، وسمعه مرهف، ورأسه مستو، وقامته منتصبة، وخطواته ثابتة متزنة جروا وراءه يسبونه، وقد يحصبونه بالحصى أو يرمونه بالحجارة، وهو صامت باسم لا يلتفت إليهم ولا يكلم أحدا منهم، حتى يقرب من بيته، وهنا يطلع عليهم كلب للجيران أسود ضخم يربض دائما على الجسر، فينطلق وراءهم حتى يشردهم في الدروب. وشد ما غاظ هذا الكلب الأطفال حتى تسمعهم يهمسون خوفا من أن يسمعهم الكلب (لولا هذا الكلب. . ابن الكلب. . لكان الأعمى. . .) وإن كانوا يقررون بينهم وبين أنفسهم أنه قلما كانت تصيب الرجل حصاة واحدة من كل ما يرمونه من حصى وحجر.

ولم يكن لهذه العداوة سبب ظاهر في الحقيقة، اللهم إلا الطبع الشرير الذي ينزع بالأطفال إلى السوء، ويجلب لهم أذى الضعفاء من الناس.

تأخر الأعمى مرة في المسجد حتى زحف الليل، وتكاثف الظلام واشتد، فسمع وهو راقد في ركن من أركان المسجد صوت الدلو في البئر، فاستوى على قدميه، ومشى على أطراف أصابعه كاتما أنفاسه، وصدره يضطرب، وجسمه كله يهتز، حتى جاز صحن المسجد، وتيامن إلى البئر، وقلبه واجف. وكان قد خفت صوت الدلو، ووضح صوت (الجبيذ) فقال لنفسه، لا بد أن امرأة تجذب الدلو الآن وهي مشتغلة به فلا تسمع خطوات قادم. . . ووقف برهة ثم صاح بصوت خشن: (مين؟)

فاستدارت المرأة وحملقت في الظلام. أواه. . . إنه سيد الأعمى على مدى ذراعين منها، ورمت الدلو وأذهلها الموقف المرعب عن إبداء حركة ما، فوقفت فاغرة فاها، ثم أسعفتها غريزة الهروب بعد ثوان، فولت هاربة، فسمع وقع أقدامها فجرى ورائها، وسمعه إلى خطاها، وجرت حتى جاوزت المسجد، وبودها لو تصيح بأعلى صوتها، ولكن من أين لها القوة على ذلك؟ وكيف يطاوعها الصوت؟ وعثرت قدمها بحجر في الطريق فكبت على وجهها مذعورة، وأنت عند ذلك أنة قوية، فجرى على الصوت وأهوى بيده العمياء ولمس كتفها، وكان قد بلغ منه الجهد فوقف يلهث ويده ممسكة بكتفها، ثم أنزل يده حتى قبض بعنف على رسغها، وقامت المرأة متراجعة، تود لو تفلت منه بكل ما تستطيع من قوة، ولكنه ضغط على يدها بشدة، وتحسس بيده الأخرى وجهها وقال في صوت متزن:

(جميلة. . .؟)

(. . . . . .)

ووقفت المرأة صامتة تهتز وترتجف (لم لا تناديني لأملأ لك الجرة؟)

وقد رق صوته جداً، فدهشت من تطور حاله وصمتت

(لماذا؟)

فشجعها صوته اللين وأجابت

(إنك لا تسمح لأحد بالدنو من البئر. . . فكيف أناديك؟)

(ليس لواحدة أو اثنتين. . . وإنما عندما تجئن بالعشرات فتقطعن الحبل، وتمزقن الدلو، وتهشمن خشب الجبيذ. . . في البلد أكثر من أربع آبار قريبة، فلماذا تجئن إلى هنا دائماً. . .؟)

(لأن هذه أعذبها ماء. . .)

(هذا الماء العذب كثيراً ما ينزح. . .)

(النيل في فيضانه والماء كثير. . .)

(أجل. . . أ. . . أ. . . ولكن. . . أملأت الجرة؟)

(نصفها. .)

(سأكملها لك)

وانقلب إلى البئر، فمشت وراءه مطمئنة، وأدلى الدلو وهو يحس بعض الاضطراب، فأخذ يدير الجبيذ بسرعة ليملأ لها الجرة ويصرفها عنه، ويبعدها عن وحدته وسكونه.

وقال وهو يفرغ الدلو بصوت خافت لين المخارج:

(إذا جئت مرة أخرى. . . ناديني لأملأها لك)

(كتر خيرك)

وساعدها على حمل الجرة، وانطلقت بها إلى بيتها، ووقف ينصت إلى هزيم الريح القوية في الحقل البعيد.

وأخذت جميلة بعد هذه الليلة تتردد على البئر دون خوف أو وجل، كانت تجئ في كل يوم مرة، عند مطلع الفجر أو بعد أذان العشاء، لأن زوجها لا يسمح لها بالسير في طريق القرية إلا بعد أن ينام الناس، وتنقطع الرجل. . فهي فتاة في رونق صباها رائعة الحسن غضة العود وزوجها يخشى عليها العين! ولا يحب لها ملاقاة شبان القرية الذين يقفون على رأس الطريق في ساعات معينة من النهار! وكانت تقابل سيد الأعمى في غالب الأوقات التي ترد فيها البئر، وكثيراً ما اترع لها الجرة، وأعانها على حملها، أو ملأ لها الحوض الصغير الذي على يمين البئر لتغسل وجهها ورجلها فبل الذهاب إلى بيتها، وكانت تطوى كميها إلى مرفقيها، وتحسر شالها عن شعرها، وترفع ثوبها إلى ساقيها وهي منحنية على الحوض تغتسل. كانت تفعل ذلك، دون خجل أو حياء لأن سيداً أعمى.

واستراح سيد الأعمى مرور الأيام لمحضَرها حتى أصبح يشعر في الأيام التي تتخلف فيها بالانقباض والوحشة. كان يحس، من أعماق نفسه، أن شيئاً ينقصه، شيئاً يستريح معه، وينشرح له صدره، وتنتشي حواسه، وتهدأ ثائرة أعصابه.

وكانت جميلة تدفعها غريزتها أول الأمر إلى الخوف منه واتقاء شره كرجل، بصر النظر عن كونه أعمى، ولكنها ما لبثت - بعد الانفراد معه مرة ومرات - أن استراحت واطمأنت ووثقت من عفته وخلقه، حتى كانت تخرج معه إلى حد المداعبة، كأن تخفي عكازته، أو تخلع الدلو، أو تقطع الحبل، أو ترشه بالماء، وكان يضحك لهذا حتى يرقص قلبه، ويلوح لها بعصاه مهددا. ً على أن هذا التآلف الذي أصبح بين سيد وجميلة، لم يشجع غيرها من النساء على القرب من البئر، لأنهن كن لا يعلمن بتغير حاله، وإن علمن لا يصدقن، ولم يكن هو يزجرهن عن البئر، ويمنعهن من ملء الجرار منها، لأنه كان يخاف على الماء فقط، بل لأن شيئاً خفياً في أعماق نفسه، كان يدفعه إلى النفور منهن وإبعادهن عن جوه. . . دافع باطني عجيب كان يخرجه عن هدوئه وسكونه، عندما يسمعهن يتحدثن على الماء أعذب حديث وأرقه، كان يرجف له ويضطرب، وهو الرجل وهن النساء. . .

شعور باطني غريب كان يحمله على فعل ذلك ولم يستطع تحليله ولا تعليله، وهو الجاهل الذي لم يذهب إلى المدرسة ولم يدرس علم النفس. لقد قضى الرجل حياته بعيداً عن جو المرأة فأخرجها عن دائرة تفكيره، بعد أن خرجت عن دائرة وجوده، ولم يعد يفكر فيها مطلقاً. . . لم يعد يفكر فيها، ولا يحن إلى لقياها، ولا يستريح لرفقتها.

وكان يتضايق حتى من وجود أم سيد معه في منزل واحد. . . وإن كان ينام بعيداً عنها، ولا يلاقيها إلا نادراً - غالباً في الأوقات التي كان يرجع فيها إلى البيت مبكراً ليتعشى - فكان يتذمر ويضطرب لمحضرها، وإن كان يعدها أُماً. كان يرتجف لوجودها معه، ويحس بروحها تثور، لأنه ما كان يحب أن يتصورها جالسة أمامه ترقبه وهو يمضغ الطعام، ويقطع الخبز بأسنانه، وكان لا يعود لهدوئه وسكونه إلا بعد أن يتنفس الصعداء في قاعته.

ولما اعترضت جميلة طريقه أول مرة، كان يحمل معه عصاه ليضربها؛ ولكنه لما سمع صوتها عن قرب، ووقف عند رأسها، وأمسك بيده رسغها، وصافحته أنفاسها، تراجع، وأيقن أنه أمام مخلوق لا يستحق الضرب!

وأخذ بعد ذلك يترقب حضورها، ويتأخر في المسجد عامداً ليعينها على حمل الجرة، ويملأ أذنيه من صوتها.


***

بقى الأعمى في المسجد بعد أن فرغ المصلون من صلاة العشاء بساعة، ثم مشى إلى جانب المنبر فتناول عصاه وأم الباب، ولما بلغ عتبته سمع صوت الدلو في البئر، فنصب قامته وأرهف سمعه. . لقد جاءت جميلة على عادتها، ولكنها متأخرة قليلاً هذه الليلة. واستمر واقفاً وسمعه إلى الماء المتقاطر من الدلو كدفعات المطر غب سحاب ورعد؛ ثم انقطع صوت الماء، فأدرك أنها ملأت الجرة، فدفع الباب وخرج، ومضى تحت جدار المسجد خطوات. . . ثم توقف عن سيره وأخذ يفكر. . . ثم ارتد إلى حيث كان، حاثاً الخطى كأنما يسوقه سائق. . . وعطف على البئر وقلبه شديد الخفقان

(جميلة. . .)

(نعم. . .)

(أملأت الجرة؟)

(أجل!)

(وذاهبة إلى البيت؟)

(أجل!)

وكانت الجرة على رأسها، وقد تهيأت للسير، فاستدارت ووقفت. . . . . . . . .

ومد عنقه وقال:

(سأروح معك من غرب البلد. . . لأن كلاب الشيخ عبد الكريم عادت من العزبة. . . وهي تقطع عليّ الطريق)

(هيا. . . . . . . . .)

ومشيا صامتين والليل ساكن والقرية نائمة، والظلام مخيم؛ حتى أحس بأنفاسه خلصت، فأدرك أنهما خرجا إلى الخلاء. بعد خطوات سمع حفيف الريح في عيدان الذرة، فأيقن أنهما قربا من الحقول، وسأل وقلبه يرجف:

(أوصلنا بستان الشيخ حسين؟)

(قربنا. . . . . . . . .)

ولم يكن ألف هذه الطريق، وإن يكن يعرف أن هناك قناة صغيرة تمتد بين البستان وحقل الذرة، وعليهما أن يعبراها لينحدرا منها إلى جنوب القرية، ثم إلى حيهما. وكان منذ أن غادر البئر واقعاً تحت تأثير خواطر عاصفة، اشتعل لها رأسه، وجاش صدره؛ فكان يتخلف عنها قليلا ويجعلها تتقدمه خطوات. فهذه هي المرة الأولى التي ينفرد فيها مع امرأة في ظلام الليل وسكونه، على أن تخلفه عنها لم يخفف من حاله، بل على العكس من ذلك، كان يفسح المجال لوضوح رغباته وتركزها وأخذها السبيل عليه، فمضى وراءها والاضطراب يعصف بقلبه وصدره وكيانه، حتى وصلا القناة فدفع لها عصاه، ونزل وراءها في الماء، وغاصت أقدامهما في الوحل، وخرج ينفض رجليه في العشب الممتد على حافة الحقل. وأنزلت هي جرتها وانحنت على الماء تغسل رجليها، ثم انتصبت تصلح ثوبها، وهو واقف خلفها يفتح رئتيه وصدره لهواء المساء العليل، ويحاول أن ينحني عن رأسه عن الخواطر العاصفة التي ألهبت أليافه وهيمنت على كيانه

وواجهته وقالت بصوت ناعم:

(ناولني. . . . . . . . .)

فمد يده إلى الجرة. . . فلمست يدها، فكأنما لامس لهب كاو، فوقف ويده تلاصق يدها

ثم أمسك بيدها ورفعها عن الجرة، حتى استطاع أن يقبض عليها بقوة، فمدت وجهها مشدوهة وقالت وصوتها يرتعش:

(ناولني. . . . .)

فرفع يده إلى ذراعها وضغط؛ وقد أحس بألياف لحمه تلتهب

(نـ. . . ناولني.!. . .)

فأبقى يده ضاغطة على ذراعها، وهو واقف يتردد

(ما الذي تريده مني؟) فلم يقل شيئاً. ثم مال عليها وضمها إلى صدره، وضغط على جسمها فتراخى، وحملها على ذراعيه بسرعة، ودخل بها حقل الذرة. . . . . .

مشت جميلة إلى بيتها خائرة القوى، مرضوضة الجسم، ذاهبة اللب، وقد أسود في نظرها الوجود واحلولكت الدنيا. . . مشت ذاهلة ساهمة لا تحس بشيء مما حولها، ولا تعرف إلى أين هي ذاهبة. . . على أن رجليها كانتا تقودانها، بحكم العادة، إلى بيتها. مشت تحملق في الظلام، وهي والهة مرتاعة ترى بعد كل خطوة شبحاً، وتتصور عند كل قدم حفرة. . . . . . لقد فعلتها. . مع من؟ مع سيد الأعمى. . . لقد ساقتها قوة أزلية إلى الهاوية! لقد حملها المقدور الحتم إلى الوحل. . . لقد جرفها التيار فغاصت في الوحل إلى ساقيها

إننا نسير في الطريق مسوقين بقوة أعلى منا وأقوى. قوة جارفة لا نستطيع ردها، ولا نقوى على دفعها، تسوقنا في الظلام إلى المصير الحتم. . . لقد غدت جميلة، فتاة الريف العفيفة الطاهرة، المرأة الدنسة القذرة التي غاصت بقدميها في الوحل. . . سيظل الوحل عالقاً بها دائماً، وإن غسلت رجليها صباح كل يوم ومساءه، سيظل الوحل عالقاً بها أبداً

ستذكر دائماً إن قوة خفية ساقتها، بمحض إرادتها، إلى الوحل، قوة أعلى منها لا تستطيع فهمها ولا تحاول فهمها ولا تعليلها. هذه القوة الخفية الأزلية تعمل دائماً من وراء الحجب، تعمل أبداً من وراء الغيب، وتسوقنا إلى المصير المحتوم

ستذكر جميلة، الفتاة الريفية الجميلة المزهوة، أن قوة خفية ساقتها إلى البئر، لتقودها إلى الأعمى، ولتجرفها إلى الحقل

لا لذة ولا متعة، ولا إحساس بشيء من هذا كله، ولكنها استسلمت ورضيت، لأنه حكم عليها بأن تستسلم وترضى

لا إحساس بنشوة، ولا شعور بمتعة، وإنما مر كل شيء كالعاصفة الهوجاء وهي تلف كل شيء لفاً

لما فتحت عينيها على الدنيا الرحيبة الباسمة، من قبل، كان كل شيء قد تغير؛ كل شيء قد تغضن واربد وعلته غشاوات، ولفه السواد في جلبابه، وطوته العاصفة الرعناء في طياتها؛ كل شيء قد انمحى من باصرتها ومات وذهب مع العاصفة، وبقيت ظلمات يأخذ بعضها برقاب بعض. . . . وعليها أن تسير في جوف الظلام وتمضي ستطلع شمس الصباح الجميلة على القرية الوادعة، وستقابل القرويات، وستتحدث وتبتسم وتضحك، ولكن بأي وجه؟ وأي لسان؟؟ وستقابل الزوج، عندما يطلع النور؛ ستواجه زوجها وتقف أمامه؛ ولكنه لن يعرف شيئاُ، ولن تعرف النسوة شيئاً، ولكنها مع هذا ستشعر بالخجل، وتغض الطرف وتنكس الرأس، وهي الجميلة المزهوة التي تعلو على أقرانها ولداتها

ستسير في القرية مطأطئة الرأس، خافضة الطرف، لا تستطيع أن تقابل نظرة امرأة بمثلها. . . ستفعل ذلك ما دام الإحساس بالجريمة يلازمها؛ وإذا ما بارحها هذا الإحساس ستنسى، ولكنها لن تستطيع أن تنسى كل شيء. ستذكر دائماً أنها فعلت ذلك بمحض إرادتها، وكان عليها أن تقاوم وتمزق الثوب وتشق الجيب، وتملأ الدنيا صياحا. إنها لم تأخذ شيئا، لم تأخذ شيئا مطلقاً، وأخذ الرجل كل شيء!

ولن تذهب إلى البئر بعد اليوم، لا في الصباح الباكر، ولا في الليل الزاحف؛ لا وحيدة ولا برفقة أحد، كل ما توده الآن هو أن تنسى، هو أن تحاول أن تنسى. كل شيء في الحياة يتغير في ساعة، يتغير في ساعة أزلية مسطورة في صفحة حياتنا. لقد غدت الفتاة المشرقة الضاحكة الناضرة، المرأة المشوهة المنكسرة الواجمة. . . بعد ساعة مرت كالعاصفة

فتاة الريف لا تزال بخلقها البكر، لا يزال ضميرها حياً، لم تخدره بهارج المدنية الكاذبة، إنها لا تزال ترى الأشياء على حقيقتها. لا تزال بطبعها البكر طاهرة نقية قوية الإيمان عفيفة الأزار. . . . تستهول الجريمة الجنسية، وتستفظع الخيانة الزوجية، وترجف حتى من التفكير فيها، هكذا شعورها بفطرته، تعرف من غير معلم ولا مدرسة أنها خلقت لرجل واحد ليس إلا. رجل واحد يأخذ منها قلبها وجسمها، ويستغرق تفكيرها ووجودها. وتدفعها فطرتها إلى أن تكون له أبداً. أما إذا زلت قدمها، وجرفها التيار إلى الوحل مرة! فما الذي تفعله؟ تحاول بكل ما تستطيع من قوة أن تنسى. . . لأنها لو ذكرت ربما عاودتها مع الذكرى أشياء لا تحبها ولا تود التفكير فيها

ولما أشرفت على الجسر الذي ستنحدر منه إلى حيها راعها نباح الكلاب الشديد! إنها لم تنبح بمثل هذه الشدة مطلقاً؛ إنها تطارد في ظلام الليل أشباحاً مخيفة تروعها. وأحست بوخز الإبر في جسمها. أخذ جسمها يرتعش، ومع الرعشة برودة الثلج. فمالت إلى جدار قائم في الطريق واعتمدت عليه دقائق. ولما رجعت إليها بعض قوتها استأنفت سيرها، وتقدمت تسحب رجليها سحبا، وقد آب لها بعض حسها؛ على أن جسمها كان يشوكه مثل الشوك دائما. وأخذت عينها الترعة، وماؤها يتدافع ويجري. وقد تراقصت الصور في مخيلتها واختلطت. بعد خطوات ستصل المنزل وتلاقي زوجها. وحدقت في الماء وهو يجري متدفقا منطلقا كالسهم، لا شيء يقف في طريقه، يجرف معه دقيق الحصى والتراب، ويحمل على متنه خفيف الريش، لقد حملها التيار، إلى أين ذاهبة؟ إلى أين ذاهبة؟

ما الذي سيحدث لو علم زوجها؟ سيذبحها كما يذبح الفروج. ليس أيسر على الريفي من ذلك في سبيل عرضه وشرفه، وهو ثروته الباقية على الأيام. ماذا يحدث لو علم لداتها؟؛ ما الذي سيحدث لو علم أقرانها اللواتي تزهي عليهن بجمالها وتشمخ؟ سيمزقنها بألسنتهن، وستغدو حديثهن في كل سمر، ومتعتهن في كل مجلس. ما الذي سيحدث لو علم أهلها؟ أخوها أقوى شباب القرية سيدفنها حية كما دفنت ناعسة ومبروكة وعزيزة من فتيات القرية التي حامت حولهن الشبهات، وعفى عليهن الآن ذيل النسيان فلا يستطيع أحد أن يذكرهن لأن في الذكرى جريمة. . . حتى ذكراهن عند القروي جريمة

ونزلت من الجسر إلى الدرب الذي في نهايته منزلها، ومشت مستريحة إلى الظلام المتكاثف. كل ما توده الآن هو أن تسير في جوف الظلام متقية به أعين الناس. لقد مشت على الجسر راجفة مروعة تخاف أن يبصرها خفير الدرك، ولكنها الآن في جوف الظلام آمن وأسلم

وتقدمت في الدرب متخاذلة متثاقلة تحس الأرض تنشق تحتها، تصعد أكوام الرماد الملقاة عند أبواب المنازل وتهبط معها وهي تتصور أنها ترقي تل الصحراء. ولما بلغت باب البيت وقفت لحظات. . . ثم تجاسرت ودفعته

كان زوجها نائما على السطح فانتبه على حركة الباب، وصاح بصوت جاف:

(تأخرت يا جميلة. . .)

وكان صوت زوجها يرعد. أواه ظنته نائما فإذا بعينه ساهرة، فلم تجب، وغضت رأسها ووقفت في صحن البيت جامدة. ولو بصر بها زوجها لرأى أغرب صورة. ولم ينتظر جوابها فصمت، ثم قالت بعد مدة: (اسقي البقرة واعلفيها. . .)

ومضت فترة قصيرة سمع بعدهابكاء عالياً، فسأل بغضب وقسوة، فأسخف ما في نظر القروي بكاء امرأة:

(ما الذي جرى؟)

فلم ترد. . . وزاد نحيبها

(ما الذي جرى؟)

وأنتصب وأطل من صحن البيت

(ما الذي جرى؟)

(الجـ. . . الجر. . . الجرة. . . آه. . . أهئ. . .)

(كسرت؟)

(أجل. . . آه. . . أهئ)

(وهي تستحق كل هذا البكاء؟. . . . كفى!)

(آه. . . أهئ. . . آه. . .)

(كفى. . .) بصوت راعد

فحبست زفراتها وغيضت عبراتها ودفنت وجهها في حجرها ونام الزوج وغط!

زحف الأعمى إلى المسجد قبل الفجر، وهو متخاذل الجسم متسعر الجمجمة. وكانت قد ساورته في الليلة التي خلت حمى شديدة تصبب لها عرق يملأ القرب؛ وبات يتقلب على مثل الشوك ويود من فرط الحمى المتأججة في جسمه من يقذف به إلى اليم. بيد أنه تحامل على نفسه لما لاح النور ومشى إلى المسجد متوكئا على عصاه، فما من الأذان بد. أجل ما من الأذان بد! كيف يغفل عن أذان الفجر!

وصعد إلى سطح المسجد ووقف ناصباً قامته ماداً عنقه، ويده على الساعة يتحسس بها العقرب، حتى حان وقت الفجر فوضع يده عند أذنه وانطلق. . .!! ولكن ما هذا؟ ما الذي جرى؟ لقد اختنق صوته واحتبس، وأصبحت الحروف تخرج من حنجرته مصفرة عاوية عواء الذئب. ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ حاول مرة ثانية فأخفق، وتمهل لحظة؛ وحاول مرة ثالثة، فأخفق أيضاً؛ وهبط إلى صحن المسجد، وهو يهتز اهتزاز القصبة الجوفاء في مهب الريح العاصف، وتقدم حتى وقف على رأس رجل نائم

(يا شيخ علي. . . شيخ علي. .!)

(نعم. . .)

(قم أذن الفجر. . . فصوتي لا يطاوعني اليوم. . . أصابني البارحة برد شديد. . .)

وبارح المسجد قبل طلوع الشمس، وسار على الجسر حتى بلغ الحقول المجاورة. وكان قد نال منه التعب، وبلغ منه الجهد، فاستراح تحت شجرة من شجر السنط، وضربه هواء الصباح على إذنه فنام حتى القيلولة. وقام وقد حميت الشمس، وتوقدت الهاجرة، وانقلب الهواء راكداً خانقاً يلفح الوجوه بوهج السعير، واستوى على قدميه وأمسك بعصاه، واتجه إلى القرية، وكل شيء فيها ساكن وادع إلا الأطفال الذين لا يقيمون وزناً ولا يبالون بحر أو برد

(أحمد. . . سيد الأعمى!)

(صحيح؟. . .)

(والنبي. . .)

وتجمع الصبية على الجسر، ووقفوا صامتين وعلى شفاههم بسمات خفيفة، حتى جاوزهم الأعمى، وهو يسير سيره المألوف. ولما بعد عنهم قليلاً، رماه أصغرهم بحصاة استقرت عند صدغه. ما هذا؟ لقد أصابته للمرة الأولى أول رمية اصغر صبي! ما الذي جرى؟ وانهالوا عليه بعد ذلك يداً واحدة حتى مطروه وابلاً من الحصى والحجارة. فاستدار لهم الرجل وقد تميز غيظاً، ولوح بعصاه يهدد ويتوعد، فتفرقوا عنه وأستأنف سيره بعد برهة قليلة، واستأنفوا هم بدورهم حصاهم وحجارتهم. فما أقل الصبر عند الأطفال! وأصابه حجر في الجانب الأيسر من صدغه فشجه وسال الدم، وآلمه الجرح جداً حتى خرج به عن رشده، فدار على عقبيه وجرى وراء الصبية يضرب بعصاه يميناً وشمالاً، ولا يبالي أين تقع وتصيب، وهو مخبول تماماً، حتى أصابت ضربة قوية صبياً في رأسه فجرحته جرحاً بليغاً، ونزا دمه الأحمر فلطخ وجهه؛ وكان الكلب رابضاً على الجسر في ظل جدار لمنزل خرب، وعينه إلى المعركة التي حميت واشتدت، فقام ينفض جسمه نفض الليث، وتوثب وثبات جامحة، ثم دار دورات سريعة يقذف في خلالها الهواء بغبار رجليه، ثم انقض الرجل فمزق الجزء الأمامي من ثوبه! وطار به، والصبية يبصرون هذا ولا يكادون يصدقون، وشجعهم الكلب على معاودة الكرة على الرجل فانهالوا عليه، وقد حموا ونشطوا، يرجمونه بالحصى والحجارة، حتى انطلق الرجل يسابق الريح. وما زالوا يتبعونه حتى أجلوه عن القرية. ولما كلت سواعدهم رجعوا إلى القرية ضاحكين. وانطلق هو يجري كالمخبول لا يلوى على شيء

وبصر القرويون في صباح اليوم التالي وهم في الطريق إلى سوق (المركز) بجثة ملقاة على قارعة الطريق، فمنهم من قال إنها لسيد أعمى؛ ومنهم من أنكر ذلك

على أن الذي نحن على يقين منه أن الرجل لم يدخل مسجد القرية بعد ذلك أبداً


محمود البدوي


مجلة الرسالة - العدد 156
بتاريخ: 29 - 06 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى